نظام القضاآ و الشهاده فی الشریعه الاسلامیه الغراآ المجلد 2

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : نظام القضاآ و الشهاده فی الشریعه الاسلامیه الغراآ/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع)، 1418ق. = 1376.

مشخصات ظاهری : ج 2

شابک : 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 2964-6243-15-0

یادداشت : کتابنامه

موضوع : قضاوت (فقه)

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : BP195/س 2ن 6 1376

رده بندی دیویی : 297/375

شماره کتابشناسی ملی : م 77-5893

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الحمد الله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد:

هذا هو الجزء الثاني من كتابنا المسمّى «نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الاسلامية الغرّاء» نقدّمه الى القرّاء الكرام آملين أن ينال رضاهم، و يتحفونا بآرائهم و يرشدونا إلى مواضع الخطأ فيه «فإنّ أحبَ إخواني مَن أهدى إليَّ عُيُوبي» كما جاء في الحديث الشريف.

و نبتدئ فيه بالبحث في أحكام القسمة سائرين على ضوء كتاب «شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام» لنجم الملّة و الدين المحقّق الحلّي قدّس الله سرّة.

المؤلف

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 5

[تتمة مباحث القضاء]

[تتمة النظر الثالث في كيفية الحكم]

[تتمة خاتمة تشتمل على الفصلين]

[الفصل الثاني] في أحكام القسمة
و قبل الخوض في المقصد نقدّم أُموراً:
1- الأولى إفراد القسمة كتاباً كما صنعه البعض

، و على فرض التذييل فالأولى جعله ذيلًا لكتاب الشركة، و جعله المحقّق ذيلًا لكتاب القضاء لأنّ القضاء و انهاء النزاع ربّما لا يمكن إلّا بالإفراز و القسمة فناسب البحث عنها في المقام.

2- إنّ التشريك في الأموال أمر يتفق كثيراً إمّا بلا اختيار كما في الفرائض أو بالامتزاج أو الاختلاط

بحيث لا يتميّزان كما في الرهن و الارز و الحنطة، و لكن بقاء الشركة ربّما يورث العسر و الحرج أو يُثير النزاع فلا جرم ربّما تمسّ الحاجة إلى القسمة، حفظاً للنظام. و قد أمضاها الشارع فلا حاجة لإثبات شرعيتها إلى التمسّك بآيات وردت فيه كلمة القسمة مثل قوله سبحانه: (وَ إِذٰا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ) (النساء/ 8) و يحكي الذكر الحكيم عن وجودها بين الأُمم السابقة كما في قصّة ناقة ثمود إذ قال لهم نبيهم: (وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمٰاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (القمر/ 28). نعم لا بأس بذكر الآيات تبرّكاً.

3- و ربّما تعرف القسمة بأنّها عبارة عن تميّز النصف المشاع مثلًا عن النصف الآخر

ثمّ اعترف القائل بأنّ حقيقة التميّز في الإشاعة من المستحيلات التي لا تتعلّق بها القدرة لكن في العرف عمل يسمّونه بالتميز و أمضاه الشارع، كما في العرف معاملة يسمّونه بتمليك المعدوم كالمنافع. «1»

______________________________

(1) المحقّق الرشتي، كتاب القضاء: 2/ 37.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 6

و لا يخفى ما في المشبه و المشبه به من الإشكال أمّا الثاني فلأنّ الإجارة ليست تمليكاً للمنافع، بل هي تسليط العين لغاية الانتفاع من منافعها، و التسليط أمر وجودي و أمّا المشبّه، فلأنّه إذا كان الملك مغموراً في الإبهام عند العرف من رأس، فكيف يسمّيه تميّزاً؟!

ربما تعرّف أيضاً بقولهم بتميّز أحد النصيبين عن الآخر، أو أحد الأنصباء عن غيره و قال السيّد الأصفهاني: هي تميّز حصص الشركاء بعضاً عن بعض «1».

يلاحظ عليه: أنّ التعبير بالتميّز فرع كونه متميزاً واقعاً، لا ظاهراً، مع أنّ نصيب كلّ غير متميز واقعاً و لا ظاهراً و لأجل ما ذكرنا علّق سيدنا الأُستاذ قدس سره على تعريف السيّد الأصفهاني قوله: بمعنى جعل التعيين

بعد ما لم يكن معينة بحسب الواقع لا تميّز ما هو معيّن واقعاً و مشتبه ظاهراً. «2» و الأولى أن يعرف بإزالة الشركة بجعل التعيين للحصص.

4- الظاهر أنّ القسمة أصل برأسه، لا أنّه بيع في مورد العين

بتصوّر أنّ القسمة فيها بمبادلة حصّة كلّ في جانب، بحصّة الآخر في الجانب الآخر، أو إجارة في مورد المنافع كما إذا استأجرا داراً بالمشاع ثمّ اقتسما في الانتفاع، فكأنّ كلّ واحد من الشريكين يوجر نصف سهمه من كلّ غرفة من آخر، و الظاهر أنّه أصل برأسه لاختصاصها بأحكام خاصّة كاشفة عن استقلالها في الموضوعية، و لأجل ذلك لا يلحق بها أحكام البيع في خيار المجلس. قال السيّد الأصفهاني: و ليست ببيع و لا معاوضة فلا يجري فيها خيار المجلس و الحيوان المختصين بالبيع و لا يدخل فيها الربا و إن عمّمناه لجميع المعاوضات. «3»

5- إذا خرجنا باستقلال القسمة في مقام الموضوعية يقع الكلام في ماهيّتها

و هناك احتمالات ثلاثة ذكرها المحقق الرشتي في قضائه و قال:

______________________________

(1) الوسيلة: 2/ 111- 112، كتاب القسمة.

(2) تحرير الوسيلة: 1/ 627.

(3) الوسيلة: 2/ 111.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 7

و هل هي من قبيل العقود، أو الإيقاعات، أو الموضوعات المترتّبة عليها الأحكام كالالتقاط، و الغصب، و الإحياء، و الخيار، و النسب و نحوها ممّا لا يرجع إلى عقد أو إيقاع فيه وجوه أقواها الأخير. «1»

وجهه أنّ العقد سواء كان بمعناه اللغوي، و هو ربط شي ء بشي ء، أو بمعنى العهد المطلق، أو العهد المشدّد، يتوقّف على ربط شي ء بشي ء، و ليست القسمة من تلك المقولة و إنّما هي عمل خارجي يتضمّن فصل المالين و تعيينهما بالقرعة و غيرها فهي فاقدة لمعنى العقد بكلا المعنيين إلّا على وجه بعيد فهي إمّا من قبيل الإيقاع أو الموضوعات التي لها آثار عند الشرع.

إنّ الكلام يقع في محاور أربعة: القاسم، و المقسوم، و الكيفية، و اللواحق،
اشارة

و إليك الكلام في الأوّل:

الأوّل الكلام في القاسم
اشارة

قال المحقّق: يستحبّ للإمام أن ينصب قاسماً كما كان لعلي عليه السَّلام و التقسيم قد يتولّاه الشركاء بأنفسهم، فيكون القاسم وكيلًا لهم يشترط فيه ما يشترط في الوكيل و قد يتولّاه الإمام مباشرة أو بالقاسم الذي نصبه الإمام.

و المستفاد من كلامه أنّ نصب القاسم مستحبّ و علّله في المسالك أنّه من جملة المصالح و روي أنّه كان لعليّ قاسم يقال له عبد اللّه بن يحيى كان يرزق من بيت الإمام «2».

دلّت السيرة النبوية على أنّه كان للنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قاسماً باسم عبد اللّه بن رواحة و قد استشهد في غزوة موتة و كان لعلي قاسماً باسم عبد اللّه بن يحيى الحضرمي و قد

______________________________

(1) الرشتي: كتاب القضاء: 2/ 44.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 425 و الطوسي، المبسوط: 8/ 134.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 8

عدّه الشيخ من أصحاب أمير المؤمنين، و عدّه البرقي من شرطة الخميس و أنّ الإمام قال له يوم الجمل: ابشر يا ابن يحيى و هو الذي قتله معاوية مع أصحابه، و من الجرائم التي عدّها الإمام الحسين عليه السَّلام لمعاوية في رسالة بعثها إليه قتله الحضرميين. «1»

أقول: إنّ المصالح العامّة تتوقّف على وجود القسمة و القاسم في واقعة أو وقائع، و أمّا توقّفها على نصب إنسان للقسمة، دائماً فلا، نعم لو كانت الحاجة إلى القسمة متوفرة لا يقوم إلّا بتعيين شخص لها، يلزم نصبه حفظاً لمصالح العامّة، و فعل النبي و الوصي لا يدلّ على الاستحباب، فوزان القاسم، وزان الكاتب للقاضي، و قد ترتفع الحاجة، بوجود الكاتب و ربّما تمسّ الحاجة بنصب شخص للكتابة فعند

ذاك يجب كسائر الأُمور التي يتوقّف عليها نظام الحياة. و على ذلك فلم نجد دليلًا على استحباب النصب إذ هو بين كونه مباحاً إذا كانت الحاجة إليه قليلة أو واجباً توصّلياً كسائر الواجبات التي يقوم عليها صرح النظام.

شرائط القاسم
اشارة

قال المحقّق: و يشترط فيه: البلوغ و كمال العقل و الإيمان و العدالة و المعرفة بالحساب.

أقول: لو كانت القسمة منصباً كمنصب القضاء يشترط فيه ما يشترط في سائر المناصب، فإنّ الولاية الإلهية إنّما هي للبالغ، العاقل، المؤمن، العادل فلا ولاية لغير البالغ على البالغ، و لا للمجنون على العاقل، و لا للكافر على المسلم، و لا للفاسق على العادل، و لا لغير المؤمن بالمعنى الأخصّ على غيره إنّما الكلام في كونها مقاماً و منصباً بل هو من الأُمور الواجبة التي يتوقّف عليها نظام الحياة الاجتماعية، فيكفي في ذلك استخدام شخص لتلك الغاية كالكتابة نعم يظهر من

______________________________

(1) المامقاني، تنقيح المقال: 2/ 222.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 9

بعضهم أنّه قسم من الحكومة «1» فإن أراد أنّه يتبع الحكومة كتبعية سائر الموظّفين فصحيح و إن أراد أنّه منصب إلهيّ، فهو ممنوع.

نعم بما أنّ الحاكم يسلّطه على أموال الناس يجب أن يكون إنساناً أميناً، عارفاً بأُمور القسمة، و مقدّماتها في تقسيم المواريث و الأموال و على ذلك يكفي فيه تحقّق الوصفين: الأمانة و المعرفة. نعم لو كان استخدام الكافر أو المسلم الفاسق، أو الصبي المراهق وهناً للحكومة الإسلامية يلزم أن يكون بالغاً مسلماً، مؤمناً، عادلًا حفظاً لشئون الحكومة و الإمامة، و لأجل ذلك لو تراضى الخصمان بقاسم غير قاسم الإمام جاز قطعاً و لا يشترط فيه الإسلام و لا يعدُّ قبول عمله ركوناً، خصوصاً

إذا عدّ عمله، عمل الموكّل، كما لا يشترط البلوغ، بعد كون عمله بإذن الشركاء فإنّ عقد الصبي و عمله، جائز إذا كان بإذن الولي، كما بيّنه المحقّق في محلّه.

و الحاصل أنّه لا دليل على اشتراط ما ذكره من الأوصاف لا في قاسم الإمام إلّا من جهة العنوان الثانوي و لا في قاسم الشركاء، و لو قلنا بأنّ القسمة عقد، تكون نافذة و إن كان المتصدّي الصبي إذا لحقه رضى الوليّ أو كان مقارناً فإنّ عمل الصبي ليس مسلوب الاعتبار على الإطلاق بل ليس نافذاً وحده و إنّما يكون نافذاً مع إذن الولي.

إنّ هنا مسائل ست تعرّض لها المحقّق ما عدا الخامسة منها، و إليك عناوينها:
اشارة

1- صحّة التقسيم بالتراضي من دون قاسم.

2- نفوذ قسمة القاسم بالقرعة إذا كان منصوباً من قبل الحاكم.

3- نفوذ قسمته إذا كان وكيلًا للشركاء.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 327.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 10

4 كفاية القاسم الواحد أو لزوم تعدّده.

5- اعتبار القرعة في التقسيم.

6- أُجرة القسّام على الحاكم و على غيره.

و قد بسط الكلام فيها صاحب الجواهر في كتاب الشركة و السيّد الطباطبائي في الملحقات و سنشير عند البحث إلى مصادر كلماتهما بإذن اللّه سبحانه.

1- صحّة التقسيم بالتراضي من دون قاسم

الكلام في صحّة التقسيم بالتراضي من دون قاسم، بقرعة أو غيرها و محور البحث، عدم توقّف القسمة على القاسم، و أمّا الكيفية، فليست بمورد للنظر.

قال المحقّق: لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم أقربه الجواز. ذكره المحقّق عند الاستدلال على جواز التراضي بقسمة الكافر و مشبهاً له بالمقام و استدلّ له صاحب الجواهر بإطلاق الأدلّة و عمومها و مراده منها هو العمومات التي يتمسّك بها في أبواب التجارات كقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «الناس مسلّطون على أموالهم» و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» و قوله تعالى: (إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ) (النساء/ 29).

يلاحظ عليه بما ذكرناه في محلّه من أنّه لا إطلاق لها بالنسبة إلى أسباب التملّك فلو شككنا في شرطية العربية أو البلوغ لا يصحّ التمسّك بها لإزالة هذا النوع من الشكّ نظير التمسك بقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» «1» لرفع الشكّ في شرطية تقدّم الإيجاب على القبول. و الشكّ في المقام مركّز على أنّ مجرّد التراضي على الحصص المعدّلة من

دون قاسم، هل يوجب إزالة الشركة و تعيين الحصّة أو لا؟ و من المعلوم أنّه ليس لهذه العمومات نظر إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 14، الباب 16 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 11

أسباب التملّك و لا إلى أنّ التراضي مشرّع، نعم لو ثبت كون شي ء سبباً للتملّك و التعيّن، فنفس التراضي كاف.

و الأولى أن يستدلّ: أنّ القسمة من الأُمور العرفية الواضحة التي، تترتّب عليها الأحكام كالالتقاط، و الإحياء و الحيازة و أمضاها الشارع و ليس لها حقيقة عندهم سوى تعديل الحصص، و الرضا بها و المفروض أنّهما حاصلان، و احتمال اعتبار أمر آخر، كالقاسم، يحتاج إلى دليل و مع عدمه فالأصل البراءة.

2- نفوذ قسمة القاسم المنصوب من قبل الحاكم بالقرعة

إذا عدّل القاسم المنصوب من قبل الإمام و أقرع فهل تمضي قسمته بنفس القرعة، أو يعتبر رضاهما بعدها؟

قال الشيخ في المبسوط: فإن نصبه الحاكم للقسمة، فإذا عدَّل السهام و أقرع كانت القرعة حكماً تلزم القسمة به «1» و هو خيرة المحقّق في الشرائع. و وجهه واضح و ذلك لأنّه لو قلنا بأنّ القسمة عقد من العقود و له أسباب منها، تقسيم القاسم بالقرعة، فيشمله عموم الوفاء بالعقود. و أمّا لو قلنا بأنّه من الموضوعات المترتّبة عليها الأحكام، كالغصب و الاحتطاب و الحيازة، فظاهر أدلّة القرعة هو اللزوم أيضاً و عدم صحّة الرجوع.

قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ليس قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلّا خرج سهم المحق». «2»

و في رواية محمّد بن حكيم قال: سألت أبا الحسن عليه السَّلام عن شي ء فقال لي: «كلّ مجهول ففيه القرعة» قلت له: إنّ القرعة تخطئ و تصيب

قال: «كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ» 3

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 133.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5-، 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 12

و في رواية عن الإمام الصادق عليه السَّلام قال: «أيّ قضية أعدل من القرعة» «1» إلى غير ذلك من العناوين الدالّة على أنّ التجاوز عن القرعة، تجاوز عن المحق، و المصيب و الأعدل، إلى غيره و من المعلوم أنّه ليس المتجاوز إليه، إلّا الباطل إذ ليس بعد الحق إلّا الضلال. أضف إلى ذلك سيرة العقلاء، حيث يعدّون رفض القرعة، بعد الإقراع، طغياناً و شغباً.

3- نفوذ قرعة القاسم المرضيّ للشركاء

إذا كان القاسم مرضيّاً للشركاء و قد عدّل الحصص و السهام و أقرع فهل يكون نافذاً مطلقاً، أو غير نافذ كذلك، و يتوقّف على الرضاء اللاحق، أو يُفصّل بين القسمة المشتملة على الردّ فيعتبر و إلّا فلا؟

و الأوّل خيرة الشيخ و المحقّق، و الثاني خيرة الشهيد في الدروس، و الثالث هو المنقول من صاحب الرياض.

قال الشيخ: «إذا تراضيا بثقة من أهل العلم حكماً بينهما فحكمَ بينهما فيما يلزم الحكم قال قوم يلزم بنفس الحكم كالحاكم سواء و قال آخرون بالحكم و الرضا به بعده». «2»

و قال المحقّق: «في القاسم غير المنصوب يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة و في هذا إشكال من حيث إنّ القرعة وسيلة إلى تعيين الحقّ و قد قارنها الرضا». «3»

أقول: إنّ اتّفاقهم على عدم اعتبار الرضا فيما إذا كان القاسم منصوباً من الحاكم، دليل على تحقّق القسمة و تعيّن الحصص، و ملكية كلّ لحصته بنفس القرعة، من دون حاجة إلى أمر آخر، فبما انّ القسمة مفهوم واحد، لا تختلف

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 13.

(2) المبسوط: 8/ 134.

(3) الشرائع: 4/ 100.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 13

حقيقتها، باختلاف القاسم من حيث كونه منصوباً و عدمه، يلزم أن يكون كذلك فيما إذا كان القاسم مرضيّ الشركاء إذ لا معنى لأن تختلف حقيقتها باختلاف القاسم الذي هو خارج عن حقيقتها.

و لعلّه إلى ما ذكرنا ينظر كلام المحقّق: «إنّ القرعة وسيلة إلى تعيين الحقّ و قد قارنها الرضا» فالتعيين على هذا الوجه أوجب تميّز أحد الحقّين عن الآخر فيتعيّن بالرضا المقارن.

أضف إلى ذلك ما تقدّم في الفرع المتقدّم من ظهور أدلّة القرعة في اللزوم.

ثمّ إنّ الشهيد اشترط تراضيهما بعد القرعة إذا اشتملت القسمة على الرد «1» و كأنّه مبنيّ على أنّ الردّ ممّن خرج له النصيب الأوفر معاوضة بين سهم الشريك فيما أخذ، و ما يردّه، و هو يتوقّف على الرضاء وراء الرضا بالتقسيم.

يلاحظ عليه: أنّ الردّ ليس معاوضة مستقلّة بل من توابع القسمة المحقّقة بنفس تعيين الحصص بالقرعة.

ثمّ إنّ صاحب الرياض من القائلين باعتبار الرضا اللاحق مطلقاً متمسّكاً باستصحاب بقاء الشركة بدون الرضا، و هو غير تام لقيام الدليل على صحّة القسمة. و استصحاب بقاء الشركة، معارض باستصحاب حصول الملكيّة للاتّفاق على حصول الملكيّة بالرضا المقارن، إنّما الكلام في انحلال الملكيّة، بعدم الرضا اللاحق، و تصوّر أنّ الشكّ في بقاء ملكية كلّ شريك

بالنسبة إلى حصّته، ناش من بقاء الشركة و عدمها فباستصحاب بقاء الشركة يزول الشكّ في بقاء الملكيّة شأن كلّ أصل مسببي و سببي، مدفوع بأنّ الشكّ في كليهما ناشئان من اشتراط بقاء الرضاء بعد القرعة و عدمه، فإذا دلّ الدليل على عدم

الاشتراط يرتفع الشكّ في كلا الطرفين و يثبت ارتفاع الشركة و انحلالها و بقاء مالكيّة كلّ شريك

______________________________

(1) محمّد مكي، الدروس ج 2، كتاب القسمة/ 117.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 14

بالنسبة إلى حصّته.

4- كفاية القاسم الواحد أو لزوم تعدّده

قال المحقّق: و يجزي القاسم الواحد إذا لم يكن في القسمة ردّ، و لا بدّ من اثنين في قسمة الردّ لأنّها تتضمّن تقويماً فلا ينفرد الواحد به (لأنّه من أقسام الشهادة) و يسقط اعتبار الثاني مع رضا الشريك.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ كون أمر التقويم من باب الشهادة أوّل الكلام لأنّ الشهادة أساسه الإدراك بالحس، دون الحدس، و التقويم مبني على الحدس غالباً، كنظر الطبيب و فتوى المجتهد و رأي كلّ متخصص في كلّ أمر يحتاج إلى إعمال النظر.

و ثانياً: أنّ القسمة غالباً تتوقّف على التعديل أوّلًا، ثمّ التفريق ثانياً و كثيراً مّا يتوقّف التعديل على التقويم كما في تقسيم أثاث البيت المتشكّلة من أُمور مختلفة، فيحتاج إلى التقويم و إن لم يكن فيها ردّ، فلا يختصّ التقويم بقسمة الردّ، بل يعمّها ممّا يتوقّف التقسيم على التقويم.

و ثالثاً: أنّ تعدّد المقوّم، لا يلازم تعدّد القاسم إذ ربّما يكون القاسم غير المقوّم و القسمة أمر غير التقويم و لعلّه لما ذكرنا كان لعلي عليه السَّلام قاسم واحد باسم عبد اللّه بن يحيى الحضرمي.

و رابعاً: أنّ سقوط التعدّد عند رضا الطرفين لأجل أنّ الحقّ منحصر فيهما، لا يثبت القسمة لأنّ رضا الشريكين لا يغيّر الحكم الشرعي و لا يوجب تحقّق عنوان القسمة، نعم صرف الرضاء يُحلُّ التصرّف و إن لم يكن هنا مقوّم و لا مقسّم. و الحاصل أنّ حليّة التصرّف قائم بالرضا، و لكنّه ليس بمشرّع، فلا يكون

رضاؤه على التصرّف دليلًا على تحقق سبب الملكيّة و هو التقسيم كما ذكرناه سابقاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 15

5- اعتبار القرعة في القسمة

هذه هي المسألة التي لم يتعرّض لها المحقّق.

لا محيص عن القرعة إذا تنازعا في تعيين الحِصص، إنّما الكلام في اعتبارها في تحقّق القسمة و إن لم يكن تنازع ففيه قولان:

1- الاكتفاء بالرضا من الشركاء بأخذ سهامهم.

2- اعتبارها في صدق الانقسام شرعاً.

و الأوّل خيرة الأردبيلي و المحدّث البحراني، و الثاني، مختار صاحب الجواهر استدل للقول الأوّل بعموم: «الناس مسلّطون على أموالهم»، و لأنّه من التجارة عن تراض، و أكل مال الغير بطيب نفسه، و فحوى قوله عليه السَّلام في رجلين لا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي، فقال: «لا بأس إذا تراضيا و طابت أنفسهما». «1»

و لو قلنا بعدم حصول الملك بدون القرعة، فلا كلام في جواز التصرّف فيه تصرّف المالك مثل ما قيل في المعاطاة و العطايا و الهدايا و التحف. و احتمال كونه حراماً لكونه بعقد باطل، محجوج بعمل المسلمين على خلافه بل على الملك. «2»

يلاحظ عليه: أوّلًا ما سبق منّا من أنّ هذه العمومات، ليست ناظرة إلى أسباب الملكيّة حتّى يتمسّك بإطلاقها. بل هي بصدد بيان أنّ الإنسان المالك للشي ء بسبب صحيح عند الشرع، له التقلّب في ماله كيف يشاء و ليس لغير المالك التصرّف في مال المالك إلّا بطيب نفسه أمّا أنّ القسمة بلا قرعة سبب أو لا، فليست في مقام بيانه حتّى يتمسّك بإطلاقها.

و إن شئت قلت: إنّ كلّ مالك على نحو الإشاعة، له التصرّف كيفما شاء من

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، كتاب

الصلح، الباب 5-، الحديث 1.

(2) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 10/ 215، كتاب الشركة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 16

البيع و الهبة و أمّا أنّه مختار إذا أراد تبديل الملكيّة الإشاعية، بالملكيّة الإفرازية، في أن يتسبّب بأي سبب شاء، فلا يستفاد منها.

و ثانياً: أنّ الكلام في حصول القسمة شرعاً التي تثبت الملكيّة للحصص الخارجية، لا مجرّد جواز التصرّف إذ لا شكّ في أنّه يجوز للشريك التصرّف في المال المشترك بإذن شريكه و يحصل البراءة من الدين بمجرّد الرضا و لكن الكلام في تحقّق الملكية الإفرازية بالحصّة بدون القرعة بحيث لا يجوز للشريك التصرّف في الحصّة المعيّنة لشريكه.

ثمّ إنّ المحدّث البحراني تبع المحقّق الأردبيلي فقال: إنّي لم أقف في الأخبار على ما ذكروه من القرعة (و القاسم من جهة الإمام) بل ظاهرها كما ترى هو الصحّة مع تراضيهما بما يتقسّمانه ثمّ استدل على عدم اعتبار القرعة بروايات يرجع محصلها إلى حديثين:

1- رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السَّلام في رجلين بينهما مال، منه بأيديهما و منه غائب عنهما فاقتسما الّذي بأيديهما و أحال كلّ واحد منهما من نصيبه الغائب فاقتضى أحدهما و لم يقتض الآخر فقال: «ما اقتضى أحدهما فهو بينهما و ما يذهب بينهما». «1»

2- رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته عن رجلين بينهما مال منه دين و منه عين فاقتسما العين و الدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه و خرج الذي للآخر أ يردّ على صاحبه؟ قال: «نعم ما يذهب بماله». «2»

قال: تدلّ هذه الروايات على أنّ الاقتسام إنّما وقع من الشركاء بمجرّد تميّز سهام كلّ

واحد من ذلك المال المشترك الموجود بأيديهم مثلياً كان ذلك المال أو قيمياً بعد تعديله من غير توقف على قاسم من جهة الإمام و لا قرعة في البين بأن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 6- من أبواب الشركة، الحديث 1- 2.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 6- من أبواب الشركة، الحديث 1- 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 17

رضى كلّ منهما بعد تساوي السهام بنقل حصّته ممّا في يد شريكه، بحصّة شريكه ممّا في يده، و كذلك قسمة ما في الذمم ممّا لم يكن بأيديهما إلّا أنّه عليه السَّلام أبطل قسمة الغائب. «1»

يلاحظ عليه، بأنّ الروايات تدلّ على صحّة قسمة الحاضر دون الغائب، و أمّا أنّه كيف كانت كيفية قسمة الحاضر فليست الروايات بصدد بيانها، فلا يدلّ السكوت على عدم الاعتبار.

و الأولى الاستدلال بما مرّ من أنّ القسمة مفهوم عرفي ليس لها حقيقة شرعية فإذا كان كذلك، فلا شكّ في صدق القسمة، بتعديل الحصص، و تعيينها مع الاقتران بالرضا. و يؤيّد ذلك أنّ مورد روايات القرعة هو وجود التشاح و النزاع أو مظنتهما، و المفروض في المقام غيره و هذا أيضاً أقوى دليل على عدم اعتبار القرعة.

لكن صاحب الجواهر استدلّ على مختاره بوجوه غير خالية عن الضعف و بسط الكلام، و لخّصه السيّد الطباطبائي في ملحقاته و نحن نأتي بالملخّص. و من أراد التفصيل فليرجع إلى الأصل.

1- إنّ مقتضى تعريف القسمة بأنّها تُميّز الحقوق، كون حصّة الشريك كلّي دائر بين مصاديق متعدّدة فيكون محلًا للقرعة إذ هي حينئذ لإخراج المشتبه و تعيين ما لكلّ منهما من المصداق واقعاً. فيكشف حينئذ عن كون حقّه في الواقع ذلك.

2- بل لو لا الإجماع أمكن

أن يقال إنّ المراد من إشاعة الشركة دوران حقّ الشريك بين مصاديقه لا كون جزء يفرض مشتركاً بينهما و إلّا لأشكل في الجزء الذي لا يتجزّى.

3- و أشكل قسمة الوقف من الطلق لاستلزامه صيرورة بعض أجزاء الوقف طلقاً و بعض الطلق وقفاً.

______________________________

(1) البحراني، الحدائق: 21/ 175174.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 18

4- لزم أيضاً عدم اشتراط تعديل السهام لعدم المانع من تعويض الأقل بالأكثر مع الرضا، مع أنّ التعديل معتبر فيها، و فاقد التعديل ليس من القسمة شرعاً قطعاً. «1»

و حاصل استدلاله: أنّ حقيقة الشركة ترجع إلى اعتبار السهام من قبيل الكلّي في المعيّن، لا من قبيل الإشاعة حتّى يكون كلّ جزء و إن صغُر مشاعاً بين الشركاء للوجوه الثلاثة:

1- عدم إمكان اعتبار الإشاعة، في الجزء الذي لا يتجزّى.

2- أشكل قسمة الوقف عن الطلق، و إلّا يلزم صيرورة بعض الوقف طلقاً و بالعكس.

3- عدم اشتراط تعديل السهام، لافتراض كفاية الرضا.

و لكن الجميع مندفع.

أمّا الأوّل: فلأنّ إرجاع الشركة إلى الكلّي في المعيّن مثل ما إذا باع منّا من صبرة خلاف المرتكز عند العقلاء، لأنّهم يعتبرون مال الشركة على الوجه المشاع و أنّ كلّ جزء من أجزاء المال ملك مشاع بينهم و لأجل ذلك لا يجوّزون التصرّف في المشاع إلّا مع الاتّفاق على التصرّف، بخلاف المعتبر على نحو الكلي في المعيّن، فانّه يجوز للبائع التصرّف في الصبرة بالبيع و الهبة و الصلح، ما دام المقدار المزبور موجوداً، و هذا يدلّ على أنّ هنا نوعين من الاعتبار.

أمّا الثاني: فلأنّ اعتبار الشركة الإشاعية ليست مبنيّة على بطلان الجزء الذي لا يتجزّى، كما ربّما يستفاد أيضاً من كلمات المحقّق النائيني عند البحث عن قاعدة اليد.

«2» حتّى ينافي ذلك الاعتبار، مع القول بالجزء الذي لا يتجزّى بل هو

______________________________

(1) الجواهر: 26، كتاب الشركة، 1310- 31؛ السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 220، المسألة 5.

(2) الكاظمي، فوائد الأصول.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 19

اعتبار عرفي في الأشياء ذات الأفراد و الأجزاء، مع الغفلة عن وصول تقسيم الجزء إلى الحدّ الذي لا يتجزّى أحياناً و لكن يتجزّى عقلًا. فليست للمسائل الفلسفية، مدخلية لها في الاعتبارات العرفية، بل ربّما يكون الاعتبار العرفي على خلافها مثلًا، العقل يحكم بأنّ إيجاد الطبيعة بإيجاد فرد، و إعدامها أيضاً بإعدام فرد واحد، و لكن العرف الدقيق لا يساعد حكم العقل و يحكم بأنّ عدمها بإعدام جميع أفرادها فسواء أصحّ الجزء الذي لا يتجزّى أم بطل «1» فالملك الإشاعي، أمر معتبر عند العقلاء و إن كان ذلك الاعتبار لا يصحّ في الجزء الذي لا يتجزّى حسّاً.

و أمّا الثالث: فأقصى ما يستفاد من حرمة تبديل الوقف بسبب من الأسباب هو تبديل الوقف المفروز، بشي ء مثله، كأن تبدّل داراً بدار أُخرى. و أمّا تعيين الأرض الموقوفة و تحديدها بإفرازها عن غيرها، و إن تضمّن التبديل المذكور، فلم يدلّ عليه دليل على عدم صحّته، و بالجملة قول الواقف تبعاً للذكر الحكيم: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (البقرة/ 181) الممضى لدى الشرع ناظر إلى التبديل الجُذري لا مثل المقام.

و أمّا الرابع: فلا نسلّم صدق القسمة بلا تعديل السهام و تساويها، و جواز التصرّف برضا الشركاء لا يثبت صدق القسمة كما ذكرناه مراراً و الحقّ ما عليه المحقّق الأردبيلي و من تبعه من الأعاظم قدّس اللّه أسرارهم من عدم شرطية القرعة في مفهوم القسمة

و عدم الحاجة إليها إذا لم يكن هناك نزاع.

6- في أُجرة القسّام
اشارة

القسّام تارة يكون منصوباً من الحاكم، و أُخرى معيّناً أو مستأجراً من جانب الشركاء و على الأوّل إمّا أن تكون القسمة قسمةَ إجبار، أو قسمة اختيار.

______________________________

(1) لقولهم:

تفكك الرحى و نفى الدائرة و حجج أُخرى لديهم دائرة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 20

و على الثاني: إمّا أن يستأجره واحد منهم، أو يستأجره الجميع دفعة في عقد واحد، أو أن يستأجره كلُّ واحد بأُجرة معيّنة مترتّبة فلنأخذ كلّ قسم بالبحث:

الصورة الأُولى: إذا كان القسّام منصوباً

إذا كان القسّام منصوباً من الحاكم فقد اطلق المحقّق و تبعه الشهيد الثاني في شرحه و قالا: إنّ أُجرة القسّام من بيت المال المعدّ للمصالح التي منها القسمة إن لم يُرزَق منه و إلّا فلا أُجرة له لقيام ارتزاقه منه مقامها، من غير فرق بين كون القسمة مفروضة عليهم من جانب الحاكم أو لا. نعم استثنى الشيخ صورة خاصّة و قال: «و إن لم يكن في بيت المال مال، أو كان و كان هناك ما هو أهم كسد الثغور و تجهيز الجيوش و نحو هذا فإنّ أهل الملك يستأجرونه» «1» و كان عليه أن يستثنى ما إذا طلبها الشركاء من الحاكم فإنّ ظاهر الطلب استعدادُ الطالبين لدفع ما يتوقّف عليه المطلوب.

ثمّ لو افترضنا أنّ واحداً من الشركاء طلب القسمة من الحاكم، فهل الأُجرة عليه أو على الجميع؟ و لم أقف على نصّ من الأصحاب في هذه الصورة، و إن قال المحقّق الرشتي: «بأنّ الأُجرة على الشركاء بلا خلاف محكيّ بين الأصحاب» و عليه أكثر فقهاء المذاهب الأربعة إلّا أبا حنيفة فخصّها بالطالب قال الخرقي في مختصره: «و أُجرة القسمة بينهما و إن كان أحدهما الطالب لها. و بهذا قال أبو يوسف

و محمّد و الشافعي، و قال أبو حنيفة: هي على الطالب للقسمة لأنّها حقّ له. و قال ابن قدامة في شرحه على المختصر: «أنّ الأُجرة تجب بإفراز الأنصباء و هم فيها سواء فكانت الأُجرة عليهما كما لو تراضوا عليها». «2»

و يمكن الاستدلال على كونها على الجميع و إن طلبها واحد منهم، بانتفاع

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 135.

(2) ابن قدامة، المغني: 11/ 507.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 21

الكلّ من التقسيم فتجب الأُجرة عليهم.

يلاحظ عليه: بأنّ الانتفاع لا يكفي في لزوم تحمّل الأُجرة بل يحتاج إلى ضمّ صدور الإذن أو الأمر و إلّا فلا يضمن فلا.

فإن قلت: يجب على الشريك غير الطالب التعاون على الإفراز مباشرة أو تسبيباً و هذا يقتضي كون الأُجرة عليه أيضاً.

قلت: ما هو الثابت أنّه يجب عليه رفع اليد، و عدم إيجاد المانع أو المزاحم في طريق التقسيم و أمّا التعاون فلا.

و يؤيّد ما ذكرنا ما سيوافيك من الأصحاب في الصورة الثانية أي ما إذا كان القسّام مستأجراً حيث قالوا إنّه لو استأجره واحد منهم، تكون الأُجرة عليه، فما الفرق بين الاستئجار و الطلب من الحاكم فلو كان الانتفاع أو لزوم التعاون دليلًا على التقسيط في مورد طلب واحد من الحاكم، فليكن كذلك إذا استأجره واحد منهم، فيجب التقسيط مع أنّهم لم يقولوا بذلك قطّ.

الصورة الثانية: إذا كان القسّام مستأجراً

إذا كان القسّام معيناً و مستأجراً من جانب الشركاء فلها صور:

1- إذا استأجره واحد منهم فالأُجرة عليه و إن كان الآخر أو الآخرون منتفعين بعمله، إذ ليس الانتفاع دليلًا على التقسيم ما لم يكن هناك تصريح بها كما مرّ في الصورة المتقدّمة.

2- فإن استأجره الجميع دفعة واحدة في عقد واحد فالأُجرة عليهم

حسب ما قرّروه من المساواة أو التفاوت، و إن أطلقوا كون الأُجرة عليهم من دون إشارة إلى التفاوت و المساواة، فالمشهور عندنا أنّها تحسب على حسب السهام لا الرءوس خلافاً لأبي حنيفة: قال الشيخ: أُجرة القاسم على قدر الأنصباء دون الرءوس و به

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 22

قال أبو يوسف و محمّد: قالاه استحساناً و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: هي على قدر الرءوس. دليلنا انّا لو راعيناها على قدر الرءوس ربّما أفضى إلى ذهاب المال لأنّ القرية يمكن أن يكون بينهما، لأحدهما عشر العشرة سهم من مائة سهم و الباقي للآخر و يحتاج إلى أُجرة عشرة دنانير على قسمتها فيلزم من له الأقل، نصف العشرة (خمسة دينار) و ربّما لا يساوي سهمه ديناراً فيذهب جميع الملك، و هذا ضرر و القسمة وضعت لإزالة الضرر فلا يزال بضرر أعظم منه «1» و قوّاه في المبسوط و قال: و إن استأجراه بعقد واحد و أُجرة واحدة، كانت الأُجرة عند قوم مقسَّطة على الانصباء فإذا كان لأحدهما السدسُ و الباقي للآخر كانت الأُجرة كذلك و قال آخرون: الأُجرة على عدد الرءوس لا على الأنصباء و الأوّل أقوى عندنا. «2»

وجهه مضافاً إلى ما ذكره الشيخ أنّه يعدّ من مئونة الملك فكانت حالها كحال المنفعة في توزيعها على مقدار الملكيّة و لا فرق بين المؤنة و المنفعة، فكما أنّ الثانية تُقَسّط على الحصص فهكذا الأُولى.

و هناك بيان آخر و هو أنّ صاحب النصيب الأوفر ينتفع بالقسمة أكثر من انتفاع صاحب النصيب الأقلّ حيث إنّ الخلوص من الشركة صفة تُحدِث مالية في الملك بالإفراز، فكلّ يدفع عوضَ ما حدث في ماله،

و ما حدث في مال صاحب النصيب الأكثر، أزيد ممّا حدث في مال صاحب النصيب الأقل فقد وصل إلى صاحب الثلثين ثلثا الانتفاع و لصاحب الثلث، ثلثه، فلا محيص عن التقسيط نعم لو كان الانتفاع مساوياً و إن كانت الحصص مختلفة فالأقوى التساوي كما في قسمة الدهن الجيّد و الرديّ إذا أخذ أحدهما مائة منّ من الجيد، و الآخر مائة و خمسين منّاً من الرديّ، و بما أنّ الانتفاع على وجه سواء فلا يعبأ بكثرة الحصص كما لا يخفى. و لعلّ إطلاق الأصحاب منصرف عن هذه الصورة.

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب القضاء، المسألة 26.

(2) الطوسي،، المبسوط: 8/ 135.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 23

3- إذا استأجره كلّ واحد بأُجرة معيّنة على وجه الترتّب فالظاهر من المحقّق صحّته حيث قال: «و إن استأجره كلّ واحد بأُجرة معيّنة فلا بحث» و الظاهر منه الإيجار على وجه الترتّب بعقود، بشهادة قوله بعده و إن استأجروه في عقد واحد ....

و ربّما يورد على صحّة الإجارة الثانية بأنّه إذا كانوا اثنين فيعقد واحد لإفراز نصيبه، فعلى القسّام إفراز نصيبه و تمييز كلّ واحد منهما عن الآخر، لأنّ تميز نصيب المستأجِر لا يمكن إلّا بتميّز نصيب الآخر فإذا استأجره بعد ذلك، الآخرُ على تمييز نصيبه فقد استأجره على ما وجب عليه و استحقّ في ذمّته لغيره فلم يصحّ، و كذا لو كانوا ثلاثة، فعقد واحد لإفراز نصيبه ثمّ الثاني كذلك فعلى القسّام افراز النصيبين فإذا ميّزها تميّز الثالث فإذا عقد الثالث بعد العقدين كان قد عقد على عمل مستحق في ذمّة الأجير لغيره. «1»

و حاصل الدليل أنّ الأُجرة في مقابل عمل مملوك للأجير، و ليس غير

تميّز مال الشريك الثاني شيئاً و هو ملك للشريك الأوّل الموجر.

و قال المحقّق الرشتي: إنّ تميّز حقّ الثاني يحصل بعين تميّز حقّ الأوّل، و المفروض أنّه مستحق على الأجير بمقتضى العقد الأوّل فالعقد الثاني يبقى بلا مورد لأنّ شرط صحّة الإجارة وقوعُها على عمل مملوك غير مستحقّ عليه ببعض أسباب الاستحقاق.

و ربّما يقرّر الإشكال بأنّ تميّز حقّ الثاني واجب على الأجير مقدّمة لتميّز حقّ الأوّل، و أخذ الأُجرة على الواجب غير جائز. «2»

و لا يخفى أنّ التقرير الثاني ليس بمهم لما قرّر في محلّه من أنّ وجوب شي ء لا يمنع من أخذ الأُجرة عليه و إنّما المانع أخذ الأُجرة بعمل ليس مملوكاً له بل استحقّه

______________________________

(1) المسالك: 2/ 425.

(2) المحقق الرشتي، كتاب القضاء: 2/ 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 24

الموجر الأوّل كما في التقرير الأوّل.

و أُجيب عن الإشكال بوجوه:

1- إنّ الإشكال مبني على أنّه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسّام لإفراز نصيبه و لا سبيل عليه لأنّ إفراز نصيبه لا يمكن إلّا بالتصرّف في نصيب الآخر تردّداً و تقديراً، و لا سبيل إليه إلّا برضاهم. «1»

يلاحظ عليه: بأنّ الإفراز ربّما لا يتوقف على التردّد و التقدير، إذ ربّما يكون القسّام عارفاً بالمقسوم كعرفانه ابنه، لأنّه كان مستأجراً، أو عاملًا في الأرض إلى غير ذلك و عندئذ يكفي في صحّة التقسيم و نفوذه، رضا الشريك و هو مفروض الوجود و لا يتوقّف على العقد على سهمه كما لا يخفى.

2- ما أجاب به السيّد الطباطبائي من أنّه إذا اتّحد عنوان الإجارتين، لم تصحّ الثانية كأن يستأجره كلّ منهم على التقسيم، و أمّا إذا كان العنوان متعدّداً، صحّ كلّ منهما و إن

كان العمل واحداً كأن يستأجره الأوّل على تمييز حقّه من حقّ شريكه، و الآخر أيضاً كذلك فإنّه لا مانع منه و كذا الحال من كلّ ما كان من هذا القبيل، كأن يستأجره أحد للمشي إلى مكّة للحجّ و يستأجره الآخر للمشي إليه للخدمة هكذا. «2»

يلاحظ عليه: أنّ تعدّد العنوان إنّما يجدي إذا كان هناك عملان متمايزان، كما في المثالين المذكورين فإنّ المستأجر عليه هناك هو الزيارة و الخدمة، و المشي مقدّمة و لو قام بهما بلا مشي لسقط أيضاً هذا بخلاف المقام فإنّ العنوانين يتحقّقان بعمل واحد، و الإجارة الأُولى يتضمّن تحقّق العنوان الثاني شاء أم لم يشأ فيكون أخذه الأُجرة في مقابله أكل المال بالباطل، حيث أخذ منه الأُجرة و لم يدفع إليه شيئاً، و ما دفع إليه من تمييز حقّه فإنّما هو من آثار الإجارة الأُولى.

______________________________

(1) المحقق الرشتي، كتاب القضاء: 2/ 55.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 219- 220.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 25

و بما ذكرناه يظهر عدم صحّة النقض بما إذا آجر نفسه لبيع مال زيد و آجر ثانياً لشرائه منه لآخر فيأخذ الأُجرة من الطرفين، و ذلك لأنّ القبول غير داخل في ماهية البيع و كأنّه آجر نفسه للإيجاب من جانب صاحب المال، و القبول من جانب المشتري.

3- إنّ العمل ينتفع به اثنان.

يلاحظ عليه: أنّ الانتفاع لا يُصحّح الإجارة الثانية و أقصى ما يقتضيه تقسيط الأُجرة الأُولى بينهما، لا تصحيح وقوع إجارتين على عمل واحد.

الثاني: في أحكام المقسوم
اشارة

قال المحقق: إذا كان المقسوم مثليّاً و طلب الشريك القسمة، تجب على الآخر إجابته و إلّا يجبر عليها.

توضيح ذلك: انّ المقسوم إمّا مثليّ أو قيميّ و الأوّل عبارة عمّا تتساوى

أجزاؤه وصفاً و قيمة كالحبوب و الأراضي و بما أنّ الأواني و الأقمشة كانت عند القدماء من القيميات عُرّف المثلي بما عرفت و لما صارتا اليوم بفضل الحضارة الصناعية من المثليات يلزم عطف «أفراده» على «أجزائه» ليشمل التعريف عليهما فيصير المثلي ما تتساوى أجزاؤه أو أفراده وصفاً و قيمة، و أمّا الثاني أي القيميّ فسيأتي الكلام فيه في المستقبل. و على كلّ تقدير فقد أفتى المشهور بجواز الجبر على القسمة إذا لم يظهر الرضا. و إليك دراسة المسألة.

يمكن أن يقال: مقتضى القاعدة الأُولى هو اشتراط الرضا و عدم جواز الجبر لأنّ التقسيم يستلزم التصرف في سهم الشريك و لا أقلّ من إخراجه عن المشاع إلى الإفراز و هو لا ينفكّ عن مبادلة نصف كلّ جزء يقع في يد الطالب، مع نصف كلّ جزء يترك للشريك، و هو تصرّف في مال الغير بغير إذنه مع أنّه لا يحلّ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 26

مال امرئ إلّا بطيب نفسه.

و استدل القائل بالجواز مع عدم الرضا كالشيخ في المبسوط و المحقّق في الشرائع بقاعدة السلطنة قال الأوّل: «إذا لم تكن القسمة مضرّاً لواحد من الشركاء يُجبر الممتنع منهم عليها، لأنّ من كان له ملك، كان له أن يتسبّب إلى ما يفيده الانتفاع الكامل، و التصرّف التامّ فيه، فإذا أفرزه ملك الانتفاع بغراس و زرع و بناء ما شاء من غير توقف و لا منازع و إن كان حقّه مشاعاً لم يملك هذا. «1» و قال المحقّق: «يجبر الممتنع مع مطالبة الشريك بالقسمة لأنّ الإنسان له ولاية الانتفاع بماله و الانفراد أكمل نفعاً». «2»

فإن قلت: إنّ قاعدة السلطنة قاصرة في المقام، لأنّ مفادها

هو التسلّط على المال مع حفظ الموضوع أي المال المشاع، فمع حفظه، يجوز له التصرّف فيه كيفما شاء من بيع و هبة و وقف و غيره، و أمّا له السلطنة على قلب الموضوع و تبديله إلى الإفراز، فلا تعمّه القاعدة.

قلت: الظاهر إنّ الموضوع هو المال و الإشاعة و الإفراز من طوارئ المال و عوارضه، فإذاً له التصرّف بإقامة طارئ مكان طارئ آخر.

و على هذا يقع التعارض بين الدليلين و كلاهما دليلان اجتهاديان، و لكن الحقّ كون المقام من مصاديق القاعدة الثانية، و ذلك لأنّ المتبادر من التصرّف المتوقّف على حليّة المالك، هو التصرّف بالإتلاف كالبيع و الهبة و الأكل و الشرب. و أمّا إفراز سهمه عن سهم الشريك مع عدم تضرّره به، فلا يشمله النبوي الأوّل، و حقيقة الإفراز و إن كان لا ينفكّ عن مبادلة نصف ما أخذ، بنصف ما ترك، لكنّه تصرّف عقلي بل العرف يتلقاه تميز أحد الملكين عن الآخر، لا التصرّف في ملك الغير فعلى القول بانصراف النبوي الأوّل عن مثل هذا التصرّف يكون المقام من مصاديق قاعدة السلطنة.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 135.

(2) الشرائع: 4/ 101.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 27

و ربّما يستدل على جواز الجبر على القسمة بقاعدة لا ضرر، فإنّ المنع عنها ضرر على الطالب و ربّما يورد عليه، بأنّه منع عن حصول النفع الزائد و لو كان هنا ضرر فإنّما هو من لوازم كونه مشاعاً.

يلاحظ عليه: بأنّ الضرر من المفاهيم العرفية، و لا يشكّ فيمن راجع وجدانه، أو إلى العرف أنّه يُعَدُّ مثل هذا المنع و إيجاب إبقاء الشركة، حكماً ضررياً و كونه من لوازم كون ماله مشاعاً،، لا يكون دليلًا على

منعه من رفع هذا اللازم، فالضرر حدوثاً متوجّه إلى نفس المال و كونه مشاعاً، و لكنّه بقاءً متوجّه إلى الإلزام بإبقاء الشركة.

ثمّ إنّ القسمة لمّا كانت أصلًا برأسها، لا يجري فيها الربا المعاوضي فله أن يقسّم كيلًا و وزناً متساوياً و متفاضلًا، ربويّاً كان أم غيره لأنّ القسمة تميّز ملك لا بيع و على ذلك يجوز تقسيم الحنطة و الدهن و غيرهما متفاضلًا فيجعل طنّ من الحنطة الجيدة مقابل طنّ و نصف من غيرها ثمّ يقرع. و لا يضرّ التفاضل. و هذا من ثمرات كونها أمراً مستقلًا لا بيعاً في مورد العين و إجارة في مورد الانتفاع بها.

إذا كان المقسوم قيميّاً

إذا كان المقسوم قيميّاً و طلب أحد الشركاء القسمةَ فلها حالات ثلاث: إمّا أن يستضرّ الكلّ أو يستضرّ البعض أو لا يستضرّ أحدهم.

أمّا الأوّل: فلا يجبر الممتنع كالمجوهرات و الطرق الضيّقة التي يتوقّف قسمتها على كسرها أو تضيق الطريق و كلاهما ضرر إلّا إذا رضي الجميع فتجوز القسمة إلّا إذا أدّت إلى عمل سفهي مخرِج للمقسوم عن الماليّة فلا يجوز لكونه تضييعاً للمال.

أمّا الثاني: فإن كان الملتمس هو المتضرّر لقلّة نصيبه، أجبر من لا يتضرّر، على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 28

القسمة، لانّ المانع هو الضرر، و المفروض رضا المتضرّر لكن بشرط أن لا تؤدّي القسمةُ إلى خروج المقسوم عن الماليّة لصيرورة التقسيم عندئذ سفهيّاً و أمّا إذا كان الملتمس غيره لم يجبر الآخر لقاعدة نفي الضرر و الضرار.

ثمّ المراد من الضرر، هل هو عدم الانتفاع بالنصيب أصلًا بعد القسمة، أو عدم الانتفاع مثل ما ينتفع حال الشركة، كالدار الصغيرة بعد التقسيم، أو نقصان القيمة مطلقاً سواء كان فاحشاً أم لا

أو على الوجه الفاحش وجوه أربعة، لا دليل على إناطة الحكم بالأُولى أي بلوغ الضرر إلى حدّ لا ينتفع بالمقسوم أصلًا كما لا وجه لكفاية مطلق النقصان فإنّ التقسيم إلّا إذا كان بالإفراز فقط يورث النقصان و لو قليلًا فيدور الأمر بين الثاني و الرابع و الظاهر هو الأخير، لأنّ الضرر لو كان غير فاحش لا يعدّ ضرراً في المال المشترك، لأنّ قبول الشركة في المال، قبول لتواليها و منه الضرر المتولّد من التقسيم.

و أمّا الثالث: فالتقسيم جائز بل واجب إذا طلب أحد الشركاء.

الضابطة في جواز التقسيم

إنّ التقسيم لا ينفكّ عن أحد الأُمور الأربعة:

1- الضرر 2- الردّ 3- التعديل 4- الإفراز وحده

أمّا الأوّل فلا يجبر المتضرّر على التقسيم لما تبيّن من الدليل إلّا إذا كان الطالب هو المتضرّر.

و أمّا الثاني بأن يكون مستلزماً للردّ فلا يُجبر لأنّ التقسيم هو إفراز المال و المفروض أنّه غير ممكن إلّا بمعاوضة جديدة و هو فرع رضا الطرفين. و على هذا، ينقسم التقسيم إلى قسمين:

1- قسمةُ اجبار إذا لم يستلزم ضرراً و لا ردّاً.

2- قسمةُ تراض إذا استلزم أحدَهما.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 29

و أمّا الثالث، أي تعديل السهام، فلا يشترط الرضا به، لأنّ القسمة لا تتحقق إلّا بالتعديل ففيما إذا ساوى ألف متر من الأرض، من حيث القيمة مع ألف و خمسمائة متر منها، فلا محيص عن التعديل و أمّا الرابع فهو أسهل صور التقسيم الذي لا يطلب شرطاً سوى طلب واحد من الشركاء، القسمة فظهر أنّ التقسيم المستلزم للضرر و الردّ، يحتاج إلى الرضا دون التقسيم المتوقّف على التعديل و الإفراز.

هذا هو المستفاد من كلام المحقّق و شرّاح كلامه و لكن الحقّ

أنّ الثلاثة الأخيرة (الردّ، و التعديل، و الإفراز) على وزان واحد، فكما أنّ الأخيرين لا يطلبان سوى رضا الطالب و هكذا الردّ، لانّه ليس معاملة جديدة بل عمل إعدادي لجعل غير المرغوب، عدلًا للمرغوب، حتّى يتحقق التقسيم، بحيث لو لا ذلك لامتنع التقسيم العدْل و بالجملة كما أنّ التعديل ليس عملًا زائداً على التقسيم و إنّما هو تمهيد لكون المتاع قابلًا للقسمة فهكذا الردّ ليس عملًا زائداً على التقسيم، بل عمل إعدادي لورود التقسيم على المتاع، فهو جزء من القسمة بوجه دقيق لا شي ء زائد عليها. و سيعود المحقّق قدس سره إلى الموضوع في نهاية المطاف.

إذا سألا القسمة و لهما بيّنة بالملك أو يد عليه

إذا كان لرجلين بيّنة على أنّ العين ملكهما و قالا للحاكم قسّم بيننا قسّمه بلا خلاف و إن لم تكن لهما بيّنة و كان لهما يد عليها يقسّم لأنّ اليد أمارة الملك، كما قرر في محلّه و لا خلاف بيّناً، إنّما الاختلاف بين فقهاء أهل السنة فإنّ الشيخ في الخلاف بعد الإفتاء بجواز القسمة قال: و به قال أبو يوسف و محمّد، و سواء كان ذلك ممّا ينقل و يحوَّل، أو لا يحول و لا ينقل و سواء قالا هو ملكهما، إرثاً أو غير إرث و للشافعي فيه قولان أحدهما مثلما قلناه و هو أصحهما عنده و الثاني لا يقسّم بينهما و قال أبو حنيفة: إن كان بما ينقل و يقول قسّمه بينهما و إن كان ممّا لا ينقل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 30

نظرت فان قالا: هو ميراث بيننا لم يُقسّم و إن قالا غير ميراث قسّم بينها. «1»

و لا يذهب أنّ التفصيل المنقول عن أبي حنيفة لا يعتمد على دليل و

الأمر دائر بين الجواز و عدمه و قد عرفت أنّ الأقوى هو الجواز.

الثالث: في كيفية القسمة
إنّ المقسوم لا يخلو من أحوال و قد ذكر المحقّق في المقام صوراً أربع:
اشارة

الأُولى: ما إذا كانت السهام متساوية قدراً و قيمة.

الثانية: ما إذا كانت السهام متساوية قدراً لا قيمة.

الثالثة: ما إذا كانت السهام متساوية قيمة لا قدراً.

الرابعة: ما إذا اختلفت السهام قدراً و قيمة.

ثمّ بيّن كيفية التقسيم في جميع الصور و نحن نذكرها بشرح موجز ربّما يكون مُعِيناً لحلّ بعض الأغلاق الموجود في عبارة الشرائع.

الصورة الأُولى: إذا تساوت السهام قدراً و قيمة
اشارة

كأرض بمقدار ألف متر، قيمة كلّ متر دينار، و هي مشتركة بين اثنين حصّة كلّ واحد منهما خمسمائة متر، و قيمة كلّ حصة خمسمائة، فهذا لا يحتاج إلى التعديل لأنّها معدّلة بذاتها و هي قسمة الإفراز وحده و بالجملة إذا كانت الأرض متساوية قدراً و قيمة و مشتركة بين الاثنين بالمناصفة يقسّمه القاسم إلى قسمين و يخرج سهم كلّ شريك بإحدى الطريقتين التاليتين:

أ: الإخراج على الأسماء

: و المراد من الإخراج على الأسماء في المقام هو أن يكتب كلّ نصيب في رقعة كالشمالية و الجنوبية و يحدّد كلّ منهما بما يميّزه عن الآخر من انّه محدَّد بدارِ فلان أو شارع خاص أو غير ذلك. ثمّ يجعل ذلك في ساتر

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب القضاء، المسألة 30.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 31

كالشمع و الطين و يأمر من لم يطلع على الصورة كالأجنبي أو الصبي أو نفس أحد المتقاسمين أن يخرج أحد النصيبين باسم أحد المتقاسمين كأن يقول القاسم أخرج الرقعة باسم زيد، فإذا خرج و كان الخارج هو الشمالية يتملّكها زيد و تصير الأُخرى لعمرو بلا حاجة إلى إخراج الرقعة الثانية لأنّ الحقّ منحصر بينهما، فإذا خرجت إحدى الرقعتين باسم أحدهما تتعين الأُخرى للشريك الآخر.

ب: الإخراج على السهام:

و المراد منه في المقام أن يكتب اسم كلّ شريك منها في رقعة كأن يكتب زيد و عمرو و يصونهما من الرؤية ثمّ يأمر بالأجنبي أو الصبي أن يُخرِجَ اسمَ أحد الشريكين على سهم من السهمين كأن يقول القاسم أخرج القرعة لهذا الجانب كالجنوبية، فمن خرج اسمه على سهم من السهمين فله ذلك السهم و يتعيّن السهم الآخر للشريك الآخر.

فقد علم من ذلك أنّ الإخراجَ على الأسماء يهدف إلى كتابة السهام في رُقَع معيّنة ثمّ إخراجها على اسم واحد من الشركاء، كما أنّ الإخراج على السهام يهدف إلى كتابة اسم الشريكين و إخراج واحد من الرقعتين على السهم الذي عيّنه القاسم.

الصورة الثانية: إذا تساوت السهام قدراً لا قيمة

، فبما أنّ التعديل في القيمة ربّما يتوقف على محاسبة مائة متر، سهماً و محاسبة مائة و خمسين متراً، سهماً ثانياً، لا محيص عن إلغاء القدر و يكون المحور في تسهيم السهام، هو حفظ القيمة. و إلّا لم تتحقق القسمة و لذلك ربّما يكون الثلثان من الأرض مساوياً للثلث منها في القيمة، فإذا كانت الشركة قائمة باثنين، فتارة يخرج السهام على الأسماء أي يكتب كلّ سهم بمشخّصاته الخارجية من كونه جنوبياً أو شمالياً أو متّصلًا بدار أو شارع في رقع و يؤمر من لم يكن واقفاً على الحقيقة أن يُخرج أحد السهمين على اسم أحد الشركاء، فإذا خرج واحد منهما باسم زيد يتعين الثاني للآخر، و أُخرى يخرج اسم أحد الشريكين على السهام و المراد منه كتابة اسم كلّ شريك في رقعة و صيانتهما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 32

عن الرؤية ثمّ يؤمر بمن لم يقف على الواقع أن يخرج واحداً من الاسمين على واحد معيّن من السهمين

كالجنوبية التي يعينها القاسم قبل إخراج القرعة و يقول الجنوبية لمن يخرج اسمه عن طريق القرعة.

و بالجملة تارة تكتب السهام و تجعل في الكيس و تخرج على اسم الشركاء، و أُخرى تكتب أسماء الشركاء و تجعل في الكيس و يخرج على السهام و يقال على الأوّل إخراج السهام على الشركاء، و على الثاني، إخراج الأسماء على السهام و التميّز بين القسمين مربوط بالمكتوب فإن كتب السهام، فيخرج على الأسماء غير المكتوبة، و إن كتبت الأسماء، فيخرج على السهام غير المكتوبة.

الصورة الثالثة: إذا تساوت السهام قيمة لا قدراً

، مثل أن يكون لواحد النصف و للآخر الثلث «1»، و للآخر السدس، و بما أنّ القيمة متساوية فلا تحتاج إلى التعديل من حيث القيمة و إنّما تحتاج إلى التعديل من حيث القدر و لذلك يبدأ بالأعمال التالية:

1- يسوّي السهام على أقلّهم نصيباً فيجعل في المال سدساً كما يجعل فيه ثلثاً و نصفاً.

2- إذا أردنا أن نكتب أسماء الشركاء، فهناك احتمالان، أحدهما أن يكتب اسم كلّ شريك مرّة واحدة، كزيد صاحب النصف مرّة، و عمرو صاحب الثلث مرّة أُخرى، و مثله «بكر» صاحب السدس.

و ربّما يقال إنّه يكتب عدد الشركاء حسب عدد سهامهم فصاحب النصف يكتب ثلاث مرات، و صاحب الثلث يكتب مرّتين، لأنّه إذا كتب مرّات كان خروج رقعته أسرع، و إذا كتب مرّة يكون كصاحب السدس.

يلاحظ عليه: أنّه لا حاجة إليه، لأنّه إذا خرج اسم زيد مرّة واحدة يدفع

______________________________

(1) و قد سقطت كلمة الثلث من كتاب الشرائع المطبوع أخيراً في أربعة أجزاء.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 33

إليه السهمين الأخيرين مرّة واحدة من دون حاجة إلى خروج اسمه ثانياً و ثالثاً و لذلك يكون التكرار لغواً و

كلفة.

و على ذلك يكتب اسم كلّ شريك في رقعة و تكون مستورة عن المُخرِج ثمّ يؤمر بالإخراج فإن خرج اسم زيد تدفع إليه السهام الثلاث من أوّلها، ثمّ إذا خرج اسم عمرو يدفع إليه الرابع و الخامس ويتعيّن السادس لصاحب السدس، و لو خرج اسم عمرو أوّلًا ثمّ زيد ثانياً يتعيّن السهمان الأوّلان لعمرو و يكون الثالث و الرابع و الخامس لزيد ويتعيّن السادس، لبكر و لو خرج اسم بكر يأخذ السهم الأوّل و تتوقف كيفية تملك السهام الباقية على كيفية الخروج فإن خرج اسم زيد فهو و إلّا فيتملّكه عمرو.

هذا هو الذي ذكره المحقق مبسوطاً و لا سترة فيه و لكن الكلام في الشق الذي نفاه و هو كتابة السهام و إخراجها على الأسماء حيث منع منه مخافة أن يؤدّي إلى تفرّق السهام و هو ضرر، توضيحه:

إنّ السهام في هذا المقام مؤثرة و معلّمة، فبما أنّ عدد السهام ستّة يكون في الكيس ستّة سهام كلّ معلم بالأرقام التالية 1-، 2، 3-، 4-، 5-، 6-، فإذا خرج السهم الأوّل لزيد أيضاً فإن خرج الثاني و الثالث له لا يؤدي إلى التفرّق في السهام و هذا بخلاف ما إذا خرجت السهم الثاني و الرابع و الخامس فإنّه يؤدي إلى التفرّق فيها، و هكذا الأمر إذا خرج السهام لعمرو فإن خرج به الأوّل و الثاني أو الثالث و الرابع فلا يؤدّي إلى التفريق، و هذا بخلاف ما إذا خرج باسمه في المرّة الأُولى الرابع و في المرة الثانية السادس.

و الفرق بين هذه الصورة و الصورتين الأُوليين حيث يجري فيهما كلا الأمرين دون المقام هو اتّحاد الأُولى و الثانية من حيث القدر فلا يحتاج في تخصيص الحصص إلى

ذكر السهام معدّداً بل يكفي ذكرهما بصورة «السهم الجنوبي» أو «الشمالي»، بخلاف المقام فإنّ الاختلاف في القدر أوجب ذكر أرقام السهام واحداً بعد الآخر

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 34

مميّزاً.

و الحاصل أنّ الذي يمكن في المقام هو أن يكتب أسماء الشركاء على الرقاع ثمّ يخرج كلّ اسم على السهام المحدّدة، و لا يمكن أن تكتب السهام في الرقاع ثمّ يخرج على أسماء الشركاء لكونه ربّما يؤدي إلى تفرّق السهام.

و مع ذلك يمكن كتابة السهام و إخراجها على الشركاء بوجه آخر، و هي الاكتفاء بثلاث حسب أنصباءهم حال التقسيم فيكتب، و، فلو خرج الأوّل، دفع إلى صاحبه من السهام المترتبة أوّلها، أو من آخرها و لو خرج الثاني، يدفع إلى صاحبه كذلك و هكذا الثالث و لا يلزم التفكيك.

و ليعلم أنّ المقارعة أمر عقلائي و هم أعرف بأعمالهم و لعلّ لهم في المقام صورة أو صوراً أُخرى لم يذكرها المحقّق و لا دليل على اعتبار صورة خاصة كما لا دليل على بعض ما ذكره المحقق في كيفية الإقراع.

الصورة الرابعة: إذا اختلفت السهام و القيمة

، عُدّلت السهام تقويماً و مُيّزت على قدر سهم أقلّهم نصيباً و أقرع عليها. و في الحقيقة هذا القسم يتركّب من الخصوصيتين، إحداهما من الصورة الثانية و هو الاختلاف في القيمة، و ثانيتهما من الثالثة و هو الاختلاف في القدر، فيجري فيه حكم القسمين، فتعديل السهام حسب القيم، من خصوصيات الصورة الثانية لكن كانت السهام فيها متساوية من حيث المقدار دون المقام، و إخراج أسماء الشركاء على السهام من خصوصيات الصورة الثالثة و يخرج الأسماء على السهام لئلّا يؤدّي إلى التفرّق في السهام على النحو الذي سمعته عند البحث في الصورة الثالثة.

في قسمة الردّ و قسمة التعديل

قد عرفت أنّ القسمة تتحقق إمّا بالإفراز وحده و أُخرى بالتعديل، و ثالثة بالردّ، و رابعة بالضرر، و قد تبيّن حكم القسم الرابع و أنّه لا يجبر عليها فيه، كما أنّه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 35

يجبر عليها في الأوّل، إنّما الكلام في القسمة المشتملة على التعديل أي تعديل السهام بالزيادة و النقصان حتّى يسوي السهام حسب القيمة لأجل وجود المرغوبية في موضع دون موضع، و القسمة المشتملة على الردّ كالأرض المنقسمة إلى ما فيها شجر و ما ليس فيها شجر، مع تساوي أرضهما و قد قدّمنا الكلام فيه سابقاً تبعاً و قلنا بجواز الإجبار، و لكن المحقق عاد إلى البحث عنهما في المقام و قال:

أمّا لو كانت قسمة ردّ و هي المفتقرة إلى ردّ في مقابلة بناء أو شجر أو بئر فلا تصحّ القسمة فيه ما لم يتراضيا جميعاً لما يتضمّن من الضميمة التي لا تستقرّ إلّا بالتراضي.

و إنّما الكلام فيما إذا اتّفقا على الردّ و عدّلت السهام فهل تلزم بنفس القرعة قيل لا يلزم لأنّها

تتضمّن معاوضة و لا يعلم كلّ واحد من يحصل له العوض فيفتقر إلى الرضا بعد العلم بما ميّزته القرعة.

يلاحظ عليه: أمّا قسمة الردّ فقد تقدّم منّا أنّ الردّ ليس معاوضة جديدة بل هو لتعديل السهام فكما أنّ التعديل في الأراضي بجعل ثلث الأرض سهماً و الثلثين سهماً آخر لا يعدّ أمراً جديداً بل تمهيداً للتقسيم فهكذا الردّ فإذا انحصر التقسيم بالردّ فالحقّ جواز الإجبار.

ثمّ إذا اتّفقا على الردّ و عدّلت السهام فلا شكّ أنّ القرعة مُلزمة لأنّها حسب ما يستفاد من الروايات المتضافرة من أنّ من أصابته القرعة فهي له فإذا أصاب زيداً فمعنى ذلك أنّ حقّه يتعيّن فيما أصاب و لا معنى للزوم رضاً جديد. بعد كون القرعة مبنياً على الشرط السابق.

مسائل ثلاث
اشارة

لو كان لدار علو و سفل فطلب أحد الشريكين قسمتَها فلها أقسام:

الأُولى: أن يطلب التقسيمَ على أن يكون لكلّ واحد منهما نصيب من العِلو و السفل بموجب التعديل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 36

كالبنايات التي لكلّ طابق منها، شقّتان أو عدة شقق فيجبر الممتنع مع انتفاء الضرر إذ التقسيم تقسيم بالإفراز لكنّه مشروط بعدم نقصان أبعاض العلْو و السفْل بالتقسيم لسعتهما كثيراً.

2- أن يطلب انفراده بالسفل أو العلو فلا يجبر الممتنع إذ مضافاً إلى أنّه يتوقّف على معاوضة سهمه في السفل بسهمه في العلو يستلزم حرمان السفل من الهواء، و العلو من القرار، فمع إمكان الطريق الأوّل، لا تصل النوبة إلى الطريق الثاني، و ربّما يتصوّر أنّ وجه تقديم الأوّل على الثاني أنّ التقسيم على الأوّل إفرازي و على الثاني تعديلي، و مع إمكان الأوّل لا تصل النوبة إلى الثاني.

يلاحظ عليه: أنّ المحقق ذكر في صورة المسألة قوله: «بموجب التعديل» فكلتاهما لا تخلوان عن التعديل بل الوجه هو أنّ الشريك ربّما لا يرضى بمعاوضة سهمه في العلو بسهمه في السفل نعم لو امتنع التقسيم على الوجه الأوّل كما إذا كان لكلّ طابق شقّة واحدة ينحصر التقسيم على الوجه الثاني.

3- أن يطلب تقسيم كلّ من السفل و العلو انفراداً و الفرق بينه و بين الأوّل أنّ التقسيم هناك كان على حسب المجموع فربّما يتوقّف على التعديل بخلافها في المقام، لأنّه يلاحظ كلّ من السفل و العلو على حدّة، فلا يجبر لأنّه ليس العلو و السفل كالبيتين المتجاورين حتّى يقسم كلّ على حده.

4- لو طلب قسمة واحد منها، لا كلّ واحد منهما لم يجبر لأنّ الهدف من القسمة، التمييز و إزالة الشركة و هي بعدُ باقية، أضف إلى ذلك أنّه ربّما يؤدي في المستقبل أن يكون العلو

من جانب، و السفل من جانب آخر لواحد و عكسه لواحد آخر و هو يحتاج إلى تراض و ليس هو قسمة رائجة بين العقلاء.

و اعلم أنّ الكلام في هذه الصور في جواز الإجبار و عدمه، لا القسمة مع التراضي و إلّا تجوز القسمة في الجميع.

الثانية: لو كان بينهما أرض و زرع فطلب قسمة الأرض فقط أجبر الممتنع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 37

لأنّ الزرع كالمتاع في الدار يحاسب كلّ مستقلًا.

و لو طلب قسمة الزرع. نقل المحقق عن الشيخ أنّه قال: لو طلب قسمة الزرع وحده لم يجبر الآخر عليه، لأنّ تعديل الزرع بالسهام غير ممكن.

أقول: إنّ الشيخ ذكر للمسألة صوراً ثلاث و قد ذكر منها المحقق صورتين و لم يذكر الثالثة و إليك كلامه بشكل موجز:

فإن طلب قسمة الأرض دون غيرها أجبرنا الآخر عليها على أيّ صفة كان الزرع حبّاً أو قصيلًا أو سنبلًا قد اشتدّ لأنّ الزرع في الأرض كالمتاع في الدار.

و إن طلب قسمة الزرع وحده لم يجبر الآخر عليه لأنّ تعديل الزرع بالسهام لا يمكن.

و إن طلب قسمتها مع زرعها لم يخل الزرع من أحوال ثلاثة: حبّاً مستتراً أو قصيلًا، أو زرعاً اشتدّ سنبله و قوى حبّه. «1»

ترى أنّ الأحوال الثلاثة ذكرها الشيخ في الصورة الثالثة دون الثانية و لكن ذكرها المحقّق في الثانية. «2»

و على كلّ تقدير: فالزرع غير مانع من تقسيم الأرض كما أفاده الشيخ فيجبر، إنّما الإشكال في تقسيم الزرع منفكّاً عن الأرض فقال الشيخ: لا يجبر لأنّ تعديل الزرع بالسهام لا يمكن.

و الحقّ التفصيل بين ما كان مستوراً فلا يُقسم لجهالته، و ما إذا كان ظاهراً من غير فرق بين كونه قصيلًا أو سنبلًا اشتدّت حبّته، غاية الأمر يقسّم بالتعديل لو احتاج إليه.

الثالثة: لو كان بينهما قرحان متعدّدة كالدور أو الأراضي أو البساتين المتعدّدة.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 141.

(2) الشرائع: 4/ 104.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 38

قال الشيخ: و متى كان لهما ملك أقرحة، كلّ قراح منفرد عن صاحبه، و لكلّ واحد منهما طريق ينفرد به، فطلب أحدهما قسمةَ كلّ قراح على حدّته و

قال الآخر لا بل بعضها في بعض كالقراح الواحد قسّمنا كلّ قراح على حدّته و لم يُقسَّم بعضها في بعض سواء كان الجنس واحداً مثل إن كان الكلّ نخلًا أو الكلّ كرماً، أو أجناساً مختلفة، الباب واحد، و سواء كانت متجاورة أو متفرّقة و كذلك الدور و المنازل. «1»

و الحاصل أنّه إذا طلب بصورة القسمة الإفرازية، كأن يقسّم كلّ بانفراده، فيجبر و إن طلب بصورة التبديل و جعل بعضها في مقابل فلا و ذلك لأنّها أملاك متعدّدة لكلّ حكمه.

و ذهب صاحب الجواهر إلى جواز الإجبار قائلًا بأنّ قاعدة وجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه مع التمكّن منه و عدم الضرر تقتضي الإجبار.

إنّ ما ذكره صاحب الجواهر لو صحّ فإنّما يصحّ إذا كانت الأقرحة متجاورة و إن كانت الطريق أو سند المالكيّة متعدّدة، و أمّا إذا كانت متباعدة فلا، ثمّ إنّ الاكتفاء بعدم الضرر إذا كانت متجاورة في جواز الإجبار لا يخلو من كلام لأنّ الشريك لا تطيب نفسه بالمبادلة، أي بمبادلة سهمه في ذلك البستان، مع سهمه في بستان آخر، و مرجع ذلك إلى تقديم القسمة الإفرازية على القسمة التعديلية. اللّهمّ إلّا إذا كانت القسمة على الصورة الإفرازية مضرّة لأجل كون الأرض صغيرة.

نعم لو لم تمكّن القسمة على النحو الأوّل كالدواب و الثياب فيتعيّن النحو الثاني.

ثمّ إنّ الأرض تقسّم قسمة إفرازية و إن اختلفت أشجار أقطاعه كالدار الواسعة إذا اختلفت أبنيتها لأنّ الأصل هو الملك و الأشجار و الأبنية توابع لكنّه تعدل السهام بالتعديل أو بردّ شي ء.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 39

الرابع: في اللواحق و هي ثلاث
الأُولى: إذا ادّعى بعد القسمة الغلط عليه

قال الشيخ: إذا ادّعى أحد المتقاسمين أنّه غَلط عليه في القسمة فإن كانت قسمة

إجبار و قد نصب الحاكم قاسماً يُقسّم بينهما لم يقبل دعواه، لأنّ القاسم أمين أوّلًا و لأنّ الظاهر أنّها وقعت على الصحّة فلا يقبل قول من ادّعى الفساد. «1»

انّ مقتضى القاعدة هو توجّه اليمين على من أنكر ما لم يقم المدّعي البيّنة فإذا أقام، يحكم بفساد القسمة، إنّما الكلام في كيفية حلفه فهل يحلف على الوجه البتّي، أو يحلف على عدم العلم؟ قد تقدّم منّا أنّ كيفيّة الحلف تتبع كيفية الادّعاء فإن ادّعي عليه العلم بالغلط، يحلف على عدمه، و له أن يحلف حلفاً بتّياً إذا كان عالماً واقعاً بعدم الغلط إذا كان الحالف هو القاسم لأنّ الإنسان على فعله بصيرة و لو استحلف الشريك فهو تارة يحلف على النحو البتّي، و أُخرى على نحو عدم العلم حسب ما ادّعى عليه.

الثانية: إذا ظهر البعض مستحقّاً للغير بعد التقسيم

و قد ذكره الشيخ في المبسوط بتفصيل و لخّصه المحقّق في أربع صور:

1- إذا اقتسما ثمّ ظهر البعض مستحقّاً للغير في أحد الطرفين دون الآخر كما إذا اقتسما عشرة كتب على أنّ خمسة منها لهذا و خمسة أُخرى لذاك فظهر أحد الكتب مستحقّاً للغير فصار لواحد أربعة كتب و للآخر، خمسة قال المحقق: بطلت القسمة معلّلًا ببقاء الشركة في النصيب الآخر و قال الشيخ: فإن كان معيّناً نظرت فإن حصل في سهم أحدهما بطلت القسمة لأنّ الإشاعة عادت إلى حقّ شريكه و ذلك لأنّ القسمة تراد لإفراز حقّه عن حقّ شريكه فإذا كان بعض ما حصل له مستحقّاً للغير كان حقّه باقياً في حقّ شريكه. 2

______________________________

(1) 1 و 2 الطوسي، المبسوط: 8/ 141- 142.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 40

يلاحظ عليه: أنّ

للمسألة صورتين يوجب ظهوره مستحقّاً للغير في احداهما بطلان التقسيم من رأس، و أُخرى يوجب البطلان في المقدار الخاص و ذلك لأنّه إذا بان ما في يد الآخر كلّه مستحقاً للغير، فتبطل القسمة و يعود ما في يد الآخر مشاعاً و أمّا إذا بان شي ء ممّا في يد أحد الشريكين مستحقّاً للغير، كالكتاب الخامس مثل الشرائع، فتبطل بمقدار قيمته فيكون ذاك الشريك سهيماً لما في يد الآخر بمقدار قيمة ما ظهر مستحقّاً للغير فلو كان قيمة كلّ الخمسة ألفاً، و كان قيمة الشرائع مائتين يكون شريكاً لما في يد الآخر، بمقدار الخمس فيحتاج إلى التقسيم الثاني بالنسبة إليه أخماساً، فالحكم بإبطال القسمة من رأس يحتاج إلى دليل بعد وقوعه صحيحاً، و الحاصل أنّ كلّ ما كان المقسوم من قبيل الأقل و الأكثر الاستقلاليين، لا يحكم ببطلان القسمة من رأس و إنّما تبطل بمقدار ما علم فيكون سهيماً بهذا القدر.

2- إذا ظهر الاستحقاق في كلا النصيبين بالسوية قال الشيخ: و إن كانا فيها سواء من غير فضل، أخذا لمستحق حقّه و ينصرف و كانت القسمة في قدر الملك الصحيح صحيحة لأنّ القسمة لإفراز الحقّ و قد أفرز كلّ واحد منهما حقّه عن شريكه. «1» و قال المحقّق: لم تبطل لأنّ فائدة القسمة باقية و هو إفراد كلّ واحد من الحقّين.

و في الجواهر: نعم ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحدث نقصاً في حصّة أحدهما خاصّة بأخذه و لم يظهر به تفاوت بين الحصّتين مثل أن يسدّ طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه فإنّ القسمة حينئذ باطلة لبطلان التعديل. «2» نعم يصحّ التقسيم إذا كان المقسوم كالكتب.

3- لو كان المستحق نصيبهما معاً لكن لا بالسوية بطلت القسمة

لتحقّق الشركة و إلى ذلك ينظر الشيخ لقوله: فإن وقع المستحق في نصيبهما معاً نظرت فإن

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 142.

(2) النجفي: الجواهر: 40/ 365.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 41

وقع منه مع أحدهما أكثر ممّا وقع مع الآخر بطلت القسمة لما مضى «1» لبطلان التعديل.

4- هذا إذا كان المال المستحقّ للغير معيّناً و أمّا إذا كان مشاعاً فيهما. قال الشيخ: هذا إذا كان المستحق معيّناً و أمّا إن كان مشاعاً في الكلّ بطلت في قدر المستحقّ و لم تبطل فيما بقي، و قال قوم تبطل فيما بقي أيضاً و الأوّل مذهبنا و الثاني أيضاً قويّ لأنّ القسمة تمييز حقّ كلّ واحد منهما عن صاحبه و قد بان أنّه على الإشاعة. 2 و وصفه المحقّق بأنّه الأشبه، و هو الحقّ لأنّ التقسيم كان بلا إذن الشريك، فيحتاج إلى تقسيم ثلاثي.

و مع ذلك ففي القول ببطلان التقسيم مطلقاً نظر كما إذا كان التقسيم الثنائي، لا يزيد شيئاً على التقسيم الأوّل كما إذا مات الرجل و ترك ابناً و زوجة فللزوجة الثمن و للابن الباقي ثمّ ظهرت زوجة أُخرى له فهي تكون شريكه لها في الثمن من غير فرق بين تجديد التقسيم أو إبقائه، و مثله ما إذا ظهر ابن آخر له فهو يكون شريكاً لأخيه بالمناصفة و الأحوط تنفيذ التقسيم من جانب الثالث.

الثالثة: لو قسّمت الورثةُ تركة ثمّ ظهر على الميّت دين قال المحقّق: فإن قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة، و إن امتنعوا نُقضت و قضي منها الدين. 3

قد حقّق في محلّه أنّ الدين لا يتعلّق بالعين و لا يكون الدائن شريكاً للورثة في غير المستوعب و لا مالكاً للتركة

في المستوعب منه، بل الدين على ذمّة الميّت و التركة ملك لهم لكنّها كالعين المرهونة فلو قضت الورثة، الدين، تنفك عن الرهن و إلّا فللدائن، استيفاء دينه من التركة كالمرتهن، و على ذلك لا تبطل القسمة مطلقاً. نعم إذا كان الدين مستوعباً و امتنعت الورثة من أداء الدين يرجع إلى أخذ جميعها و يكون التقسيم بلا أثر.

______________________________

(1) 1 و 2 الطوسي، المبسوط: 8/ 142.

(2) 3 نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 105.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 42

النظر الرابع في أحكام الدعاوي

اشارة

و فيه: مقدمة، و مقاصد

أمّا المقدمة: فتشتمل على فصلين:

الفصل الأوّل في تمييز المدّعي عن المنكر
اشارة

لمّا وقع عنوان المدّعي أو المدّعى عليه أو «من أنكر» أو ما يقرب منها موضوعاً لأحكام شرعية في النصوص يجب على القاضي التعرّف عليها و لأجل ذلك حاول الفقهاء تعريفها بوجوه و المهم تعريف المدّعي إذ بالتعرّف عليه يعرف المنكر و قد عرّف بوجوه:

1- المدّعي: من لو تَرك تُرِك.

2- المدّعي: من خالف قولُه الظاهرَ.

3- المدّعي: من خالَف قولُه الأصل.

4- المدّعي: من يدّعي أمراً خفياً.

5- المدّعي: من تُطلَب منه البيّنة.

إنّ هذه التعاريف لو كانت تعاريف حقيقية لا تخلو أكثرها من إشكال.

أمّا الأوّل: أعني «من لو تَرك تُرِك» فلا ينطبق على الدعوى الثانية الناشئة من الدعوى الأُولى، فلو ادّعى رجل ديناً على ذمّة رجل، فقال الثاني: قضيتُ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 43

ديني، فإنّه مدّع بالنسبة إلى قضاء الدين مع أنّه لو ترك لم يترك. و يمكن أن يقال: إنّ المعرَّف هو المدّعي المنشئ للدعوى ابتداءً و أمّا دعوى الخروج عن عهدة الدين فليس داخلًا في المعرّف و إنّما هو من لوازم الدعوى الأُولى، نظير دعوى الاعسار و الوفاء و ردّ المغصوب و الوديعة و نحوهما ممّا لا يترك الشخص عن المطالبة بالحق لو ترك.

و أمّا الثاني: فالظاهر أنّ من جعل موافقة الظاهر و مخالفته ملاكاً لتمييز المنكر عن المدّعي، انتقل إلى هذه الضابطة بمشاهدته في الفقه موارد قُبل فيها قول من يوافق الظاهر مع يمينه كالأمين مطلقاً مثل الودعي فتصوّر أنّ ذلك لأجل كونه منكراً، فيكون مقابله مدّعياً مع أنّه لا مانع من جعله مدّعياً و مقبولًا قوله مع اليمين لورود النصّ عليه و قد مرّ مواضع يقبل فيها قول المدّعي مع اليمين.

و على

كلّ تقدير فهل المراد من الثالث أصالة البراءة، أو الأصل الموجود في نفس المال كأصالة الصحّة إذا كان أحد الطرفين يدّعي الصحّة و الآخر الفساد أو الأعمّ منه و من الأمارات المعتبرة كاليد. تظهر الحال فيه فيما يأتي.

ثمّ إنّ المشكلة هو عدم التساوي بين الثاني و الثالث، في الصدق إذ يلزم على أحدهما كون الرجل مدّعياً و على الآخر كونه منكراً و إليك بيان ذلك:

1- لو أسلما قبل الدخول فادّعى الزوج التقارن، فالنكاح باق و ادّعت الزوجة التعاقبَ فالنكاح منفسخ فلو كان الملاك للتمييز هو الموافقة و المخالفة للظاهر فالرجل هو المدّعي لأنّ قوله مخالف للظاهر لبعد التقارن و شيوع التعاقب و المرأة هي المنكرة لموافقة قولها مع الظاهر و أمّا لو كان الملاك هو الموافقة و المخالفة مع الأصل فالمرأة هي المدّعية لادّعائها الانفساخ المخالف للأصل و الرجل هو المنكر.

2- لو ادّعى الزوج الانفاق مع عيشهما في بيت واحد مع يسار الرجل و أنكرته فلو كان الملاك هو مخالفة الأصل فالرجل هو المدّعي لأنّ الأصل عدم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 44

الانفاق و لو كان الظاهر هو الملاك، فالمرأة هي المدّعية لكون قولها مخالفة للظاهر لأنّ العيش في بيت مع اليسار يوجب الظنّ بالانفاق.

3- لو ادّعى الزوج بعد الخلوة، عدم الدخول فلو كان الأصل هو الملاك فالمرأة هي المدّعية لأنّ الأصل عدم الدخول و لو كان الملاك هو الظاهر فالمدّعي هو الرجل لكون الخلوة غير منفكّة عن الدخول غالباً.

هذا و الإجابة عن التعارض واضح فإنّ أساسه، كون المراد من الظاهر هو الأعمّ من الحجّة شرعاً و عدمها فعندئذ يظهر التعارض بين التعريفين و أمّا إذا كان المراد منه

هو الحجّة و أنّ المنكر في إنكاره معتمد على دليل شرعي فلا ترفع اليد عنه إلّا بدليل أقوى كالبيّنة، فيرتفع التعارض، لأنّ الظواهر في جميع الأمثلة أُمور ظنّية ليست بحجّة شرعية، فينحصر الدليل بالأصل.

ففي المثال الأول، على مدّعي الانفساخ إقامة البيّنة و هي المرأة و إلّا فالمنكر على أصله و دليله.

و في المثال الثاني، على مدّعي الانفاق إقامة البيّنة و إلّا فمنكره على أصله و دليله.

و في المثال الثالث؛ على مدّعي الدخول، إقامة البيّنة و إلّا فمنكره على أصله و دليله.

فإذا كان المراد من الظاهر في جانب المدّعي و المنكر هو المعتبر شرعاً، فيكون المدّعي هو من خالف قوله الظاهرَ المعتبرَ و المنكر من وافقه فعلى كلّ من المدّعي و المنكر، الاعتماد على الدليل غير أنّ الحقّ مع المنكر لوجود الدليل المعتبر معه إلّا أن يأتي المدّعي بدليل أقوى.

ثمّ إنّه ربّما يعترض على التعريف الثالث بأنّه ربّما يكون قول المدّعي موافقاً للأصل كما إذا ادّعى فساد المعاملة الموافق لأصل البراءة، و لكنّه ضعيف لأنّ المراد من الأصل هو الأصل الحاكم في المسألة و هو أصالة الصحّة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 45

هذا كلّه حول التعاريف الثلاثة الأُولى و أمّا الرابع فأضعف التعاريف حيث جعل الميزان، ادّعاء الأمر الخفي ميزاناً للمدّعي إذ لا فرق بين الخفي و الجليّ مع انّه لم يُعلَم ما هو الميزان للخفاء و الجلاء.

و ربّما يعتذر عن هذه النقوض بأنّها تعاريف لفظية، و لكن الفقهاء يتعاملون معها معاملة التعاريف الحقيقية إذ يبذلون جهودهم في معرفة الأصل الموجود في المسألة حتّى يكون ميزاناً لتمييز المنكر عن المدّعي.

و لمّا كانت التعاريف عند صاحب الجواهر غير كاملة، تخلّص عن التعريف

و جعل المرجع العرف على حسب غيرهما من الألفاظ التي لم تثبت لها حقيقة شرعيّة إلى أن قال: فالمراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له أو خروج من حقّ عليه سواء وافق الظاهر و الأصل بذلك أو خالفهما و سواء تُرك مع سكوته أو لم يترك فإنّ المدّعي عرفاً لا يختلف باختلاف ذلك و كيف كان، فالرجوع إلى العرف في مصداقهما أولى من ذلك كلّه و لعلّ لا اشتباه فيه بعد امتياز خصوص الدعوى بين المتخاصمين «1».

و إليه جنح السيّد الطباطبائي حيث قال: إنّ المرجع فيه هو العرف، و أضاف و هذا بحسب المصاديق يرجع إلى التعاريف المذكورة. «2» و هو خيرة سيدنا الأُستاذ في تحريره حيث قال: إنّ تشخيص المدّعي و المنكر عرفي كسائر الموضوعات. «3»

و نحن نوافق الأساتذة و نقول أنّهما من المفاهيم العرفية و لكن ليس المفهومان مستعصيين عن التعريف الجامع و لعلّ في عبارة الجواهر إلماع إلى التعريف الجامع حيث قال: «من قام بإنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه» و إن شئت قلت: إنّ المدّعي يريد إثبات حقّ لنفسه أو لمن ينوب عنه

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 371 و 376.

(2) ملحقات العروة: 2/ 35.

(3) تحرير الوسيلة: 2/ 369.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 46

أو يريد إسقاط حقّ ثابت و إليك التوضيح:

إنّ المدّعي و المنكر من المفاهيم العرفية غير المختصّة بالمسلمين بل هما موجودان في جميع الشعوب فهؤلاء بفطرتهم يميّزون المدّعي عن المنكر و لا يتوقفون في قضائهم على إعمال واحد من هذه الموازين و لو أردنا أن نصوغ فطرتهم في قالب لفظي فلنا أن نقول: المدّعي من يدّعي إثبات حقّ

أو إسقاط حقّ ثابت، فمن ادّعى شيئاً من ذلك، فعليه الإثبات و لعلّ التعريف الأخير أسد التعاريف حيث قال: المدّعي من يطلب منه البيّنة و المراد منها هو الدليل و ذلك انتقالًا من عالم التكوين إلى عالم الادّعاء، فكما أنّ وجود كلّ ممكن ثبوتاً رهن علّة و محدث، فهكذا ادّعاء حدوث حادث لم يكن له سبق، رهن دليل فمن ادّعى طروء أمر جديد فعليه الإثبات فلا يقبل قوله إلّا معه، و قد نقل عن الشيخ الرئيس أنّه قال: إنّ من قبل قول المدّعي بلا دليل، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية و على هذه الفطرة جرى الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حيث قال: البيّنة على المدّعي «1» و أمّا المنكر فلا يحتاج إلى الدليل لأنّه لا يدّعي شيئاً، بل يتلقّى قول المدّعي قولًا بلا دليل.

و بالجملة إنّ المدّعي يريد تغيير الوضع الحاضر و المنكر ممسك به، فالأوّل هو المدّعي و عليه الدليل حسب الطبع، فما لم يأت بدليل فالمنكر على ما هو عليه.

نعم ربّما دلّ الدليل بالاكتفاء باليمين في مورد المدّعى مكان البيّنة و ذلك لا يخرجه عن كونه مدّعياً و ذلك لأدلّة خاصّة و من ذلك دعوى الودعي ردّ الوديعة، و دعوى الأمين تلف المال، و مدّعي صحّة البيع مع ادّعاء الآخر، الفساد فيقبل قول مدّعي الصحّة بيمينه كلّ ذلك لأجل دليل خاصّ و لولاه كان على كلّ من يدّعي إثبات حقّ، أو إسقاط حقّ ثابت، إقامة الدليل و هي البيّنة و لعلّه إلى ما ذكرنا يرجع التعريف الأخير من أنّ المدّعي من يطلب منه البيّنة.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8- من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3-.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 47

الميزان هو الغاية من إنشاء الدعوى لا مصبّها

و من هنا يعلم أنّ الميزان في تمييز المدّعي و المنكر هو الدقّة و الإمعان في الغاية التي أُقيمت الدعوى لإثباتها، لا مصبّ الدعوى في بدء النظر ففي مورد اختلاف الزوجين كلّ منهما يدّعي شيئاً أعني التقارن أو التعاقب، و لكن المدّعي هي المرأة، لأنّ الغاية من إنشائها انفساخ العقد، و تحلّلها من الزوجية، بخلاف الرجل، فليس ادّعاء التقارن شيئاً زائداً على بقاء الوضع السابق على ما كان عليه و منه يظهر حال الاختلاف في كون المأخوذ مبيعاً في مقابل ثمن، أو هبة فإنّ ظاهرهما كونهما متداعيين أحدهما يدّعي البيع و الآخر الهبة و كلاهما من العناوين الوجودية، لكن الغاية من إنشاء الدعوى هو تملّك مال الغير بلا عوض مع اتفاقهما على كونه مال الغير قبل العقد المختلف فيه و الضابطة الأُولى في الأموال هي الاحترام، و من يدّعى الهبة يريد إخراج الموضوع من تحت القاعدة فيحتاج إلى الدليل.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي ذكر للمسألة الأخيرة صوراً قلّما تخطر ببال المتداعيين إلّا أن يكونا عارفين بشقوق المسألة فلاحظ.

شرائط المدّعي
اشارة

ذكر المحقّق للمدّعي شروطاً خمسة نُقدِّم البحث في أربعة منها، ثمّ نذكر الخامسَ منها بعدها قال: يشترط البلوغ، و العقل، و أن يدّعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه، و ما يصحّ منه تملّكه. ثمّ فرّع على ذلك قوله: فلا تسمع دعوى الصغير، و لا المجنون، و لا دعواه مالًا لغيره إلّا أن يكون وكيلًا أو وصيّاً أو وليّاً أو حاكماً أو أميناً لحاكم. و لا تُسمع دعوى المسلم خمراً أو خنزيراً.

و لنأخذ كل شرط بالبحث:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 48

أمّا الشرط الثاني [أي العقل]

، فلأنّه يشترط في الدعوى كونه جدّياً لا هزلياً، و المجنون لا جدّ له و عبارته لا يعتدّ بها عند العقلاء فلا تشمله عمومات القضاء.

أمّا الشرط الأوّل، [أي البلوغ]

فقد استدلّ عليه في الجواهر بالوجوه التالية:

1- عدم الخلاف في عدم السماع.

2- انسياق غير الصبي من العمومات.

3- الدعوى إنشاء يترتّب عليه أحكام و هو رهن كون عبارته معتبرة غير مسلوبة.

4- تضافر الفتوى على أنّه لا يجوز أمره حتّى يبلغ.

و فصّل السيّد الطباطبائي بين دعوى الصبي فيما يوجب تصرّفه في مال أو غيره ممّا هو ممنوع منه فلا تُسمع، و غيره فتُسمع بمقتضى عمومات وجوب الحكم بالعدل و القسط كما إذا ادّعى أنّه جني عليه أو سلب ثوبه أو أخذ منه ما في يده بل لو ادّعى أنّه غصب دابّته أو نحو ذلك، و أتى بشهود على مدّعاه فلا دليل على عدم سماعه خصوصاً إذا كان الخصم ممّن يخاف منه الفرار أو كان من المسافرين. «1»

ثمّ إنّ الوجوه التي اعتمد عليها صاحب الجواهر ضعيفة أمّا الأوّل فلا يكون حجّة إلّا إذا كشف عن دليل وصل إليهم و لم يصل إلينا كما حقّقناه عند البحث عن الشهرة الفتوائية. و ليس المقام في ذلك.

و أمّا الانصراف فهو فرع ورود دليل ظاهر في أنّه بصدد بيان شرائط المدّعي حتّى يدّعي الانصراف عن الصبي و هو منتف أضف إلى ذلك أنّ طبيعة الموضوع تقتضي دفع الظلامة عن كلّ إنسان و الصبي إنسان فإذا ادّعى أنّ فلاناً ضربه أو جرحه أو أخذ منه مالًا و أقام بينة فلا وجه لعدم سماعه.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 36.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 49

فمضافاً إلى أنّه ليس كلّ دعوى انشاء، بل هو

إخبار أنّ إنشاء الصبي المميز المتثبت معتبر في العقود غاية الأمر أنّه غير مستقلّ في الأُمور الماليّة و قد روي أنّ رسول اللّه تزوّج أُمّ سلمة زوجها إيّاه عمر بن أبي سلمة و هو صغير لم يبلغ الحلم. «1»

و بذلك يعلم ضعف الوجه الرابع فإنّ المراد منه هو أنّه لا يجوز أمره، مستقلًا حتّى يبلغ و يدلّ على ذلك ما رواه حمران عن أبي جعفر في حديث: «إنّ الجارية إذا تزوّجت و دخل بها و لها تسع سنين ذهب عنها اليُتم و دفع إليها مالها، و جاز أمرها في الشراء و البيع إلى أن قال و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع و لا يخرج عن اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة». «2»

فالمراد من الجواز و عدمه هو المعنى الوضعي أعنى النفوذ و عدمه فهو بنفسه لا ينفذ إنشاؤه.

فإن قلت: إذا كان دعوى الصغير مسموعة و لم يكن له بيّنة، فكيف يُحلِّف أو كيف يَحْلِفْ إذا رُدّ عليه الحلف؟

قلت: أمّا الإحلاف فينوب عنه الحاكم حفظاً لحقوقه و أمّا حلفه فلا يحلف إذا ردّ و لا دليل على ترتّب تمام آثار الدعوى عند السماع.

نعم لا تسمع دعواه إذا كانت مستلزمة للتصرّف المالي كما إذا ادّعى أنّه أقرض ديناراً لأنّها دعوى فاسدة.

و منه يظهر حال السفيه و لم يذكره المحقق لكن ذكره السيّد الطباطبائي فلو تعلّقت دعواه بأُمور ماليّة فلا تُسمع و أمّا إذا تعلّقت بقذف أو جناية أو نكاح أو طلاق بل الدعاوي المالية إذا ادّعى إتلاف الغير ماله فتُسمع و منه يظهر سماع مثله في الصبي المميز.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 14، أبواب عقد النكاح، الباب 16، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 1، أبواب مقدّمات العبادات،

الباب 4، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 50

و أمّا الشرط الثالث: فهو أن يدّعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه

و ليس المراد من الولاية هو ولاية الأب و الجدّ بل الأعم كما صرّح به المحقّق في كلامه، حيث صرّح بصحّة إقامة دعوى الوكيل و الوصي و الحاكم و الأمين له و بكلمة جامعة يجب أن تكون الدعوى عقلائيّة، و لا تكون كذلك إلّا إذا كان للمدّعي بالدعوى مساس عرفاً كالأمثلة المذكورة بل و غيرها و على ضوء ذلك يجوز للودعي و المرتهنِ و الحارسِ إقامة الدعوى فإنّ هؤلاء و إن لم يكونوا مالكين، لكن لهم أمام المالكين مسئولية خاصّة فإذا كان مع دعواه بيّنة، أعادت ملك الغير إلى محلّه و إذا كان المعيار كون الدعوى عقلائية يصحّ ما ذكره السيّد الطباطبائي حيث قال: الظاهر سماع الدعوى الحسبية من المحتسبين، كما إذا ادّعى شخص على ميّت له صغار، بدين و المحتسب يعلم أنّه أوفاه و ذمّته بريئة و له شهود بذلك لعدم انصراف العمومات من ذلك.

و أمّا الشرط الرابع: أعني أن يدّعي شيئاً يصحّ منه تملّكه فلا تُسمع دعوى المسلم خمراً أو خنزيراً

و ذلك لأنّه بعد ثبوت المدّعى، لا يترتّب عليه الأثر، إذ لا يملكه بعد الحكم، كما هو الحال كذلك لو اعترف الخصم بلا حاجة إلى بيّنة. اللّهمّ إلّا إذا كان الخمر متّخذاً للتخليل فللمتّخذ حقّ الاختصاص، و مثله ما لو ادّعى عليه ثمنهما بحجّة أنّه باعهما منه حال كونهما كافرين ثمّ أسلما قبل أن يقضي دينه، فيكلّف بدفع الثمن.

إلى هنا تمّ الكلام في الشروط الأربعة و إليك الكلام في الشرط الخامس.

الشرط الخامس: كون الدعوى صحيحة لازمة
اشارة

قال المحقّق: «و لا بدّ من كون الدعوى صحيحة لازمة فلو ادّعى هبة لم تسمع حتّى يدّعي الإقباض و كذا لو ادّعى رهناً». و قال في الدروس: و كلّ دعوى ملزمة معلومة فهي مسموعة فلا تُسمع دعوى الهبة من دون الإقباض، و كذا الرهن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 51

عند مشترطه فيهما و لا البيع من دون قوله: «و يلزمك تسليمه إليّ» لجواز الفسخ بخيار المجلس و شبهه. «1»

الظاهر أنّه لا حاجة إلى قيد الصحّة في عنوان البحث لما مرّ من أنّه لا يصحّ إقامة الدعوى على ما لا يملكه، و المهمّ هو تفسير قوله: «لازمة» فهناك تفسيران:

الأوّل: لصاحب المسالك و تبعه صاحب الجواهر حيث قال المراد بكونها لازمة أن تكون ملزمة للمدّعى عليه فلو قال: وهب لي كذا لم يُسمع حتّى يقول: و أقبضني لأنّ الهبة أعمّ من المقبوضة و لأنّه قد يهب و يرجع عن قوله، و كذا لو ادّعى رهناً، بناء على أنّ القبضَ شرط في صحّة الرهن. «2»

و بعبارة أُخرى: يجب أن تكون الدعوى على كيفية لو اعترف بها الخصم، لكانت محدِثاً للتكليف له، ففي الأمثلة المذكورة لو اعترف بأصل الهبة و الوقف مجردين

عن القبض، لا يترتّب عليه الأثر، لأنّه جزء المملِّك فلا يملك الموهوب له و الموقوف عليه إلّا بالقبض، فثبوت مثل هذا، لا يترتّب عليه أثر شرعي و لو قال مكان «لازمة» ملزمة، أو يترتّب عليه الأثر الشرعي لكان أوضح.

الثاني: ما فسّر به المحقّق الأردبيلي كلام المحقق حيث جعل قوله: لازمة، مقابل جائزة بأن يكون المدّعى عقداً لازماً، لا جائزاً، و إليك نصّه:

يشترط كون ما يدّعى به ملكاً لازماً للمدّعي أو لمن يدّعي له على المدّعى عليه لا ملكاً متزلزلًا، يجوز للمدّعى عليه الرجوع عنه، مثل دعوى الهبة و القبض بالإذن فإنّ الهبة بدونه لا تلزم فلو ادّعى هبة مال معيّن مجرّداً عن القبض لا يسمع و إذا ضمّ إليها «اقبضتني» و نحوه مثل «هبة يلزمك التسليم إليّ» يقبل.

ثمّ أورد عليه بإشكالات:

1- إذا ثبت الهبة قد يترتّب عليها الفائدة مثل أن يكون ناذراً إقباض كلّ هبة

______________________________

(1) محمّد مكي: الدروس: 2/ 84، كتاب الدعاوى.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 431.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 52

و عدم الرجوع.

2- لو كان اللزوم شرطاً لزم عدم سماع الدعوى مع الإقباض أيضاً، إذ لا يلزم معه أيضاً في كثير من الأفراد.

3- يلزم عدم دعوى شري حيوان إلّا مع ضمّ مضي زمان سقوط خياره الثلاثة و تفرّق المجلس في سائر العقود و نحوها و الظاهر عدم القائل بذلك. «1»

المستفاد من كلامه بعد الإمعان فيه هو أنّه فسّر قوله: «لازمة» أي أن تكون لازمة من جميع الجهات و لا تكون جائزة و لو بالخيار و لأجل ذلك أورد عليهم بإشكالات ثلاثة:

1- إذا ادّعى الأجنبي كون ما في يده، شي ء وهبه زيد، بأنّه يصحّ طرح الدعوى لحصول

الملكيّة بالقبض مع أنّها جائزة ليس بلازمة لصحّة الرجوع فيه و إن كان لا يصحّ في غيره.

2- إذا ادّعى أنّه ابتاع شيئاً من زيد مع عدم انقضاء المجلس.

3- إذا ادّعى أنّه ابتاع حيواناً منه مع عدم انقضاء الثلاثة.

فلا شكّ في صحّة طرح الدعوى في هذه الموارد مع عدم كونها لازمة.

يلاحظ عليه: أنّه ليس المراد كون المدّعى عقداً لازماً حتّى ينتقض بهذه الموارد. بل المراد محدثاً للتكليف ففي هذه الموارد، لو ثبت المدّعى به، لكان محدِثاً له، و أمّا أنّ له الرجوع عن هبته أو بيعه بإعمال الخيار فهو لا يضرّ بكون الدعوى مسموعة.

ثمّ إنّ المحقّق رتّب على الشرط الخامس عدّة مسائل:
المسألة الأُولى: لو ادّعى فسق الحاكم و الشاهد

قال: و لو ادّعى المنكر فسقَ الحاكم أو الشهود و لا بيّنة فادّعى علم المشهود

______________________________

(1) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 117.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 53

له ففي توجّه اليمين على نفي العلم تردد أشبهه عدم التوجّه. ثمّ استدلّ عليه بوجوه ثلاثة:

1- إنّه ليس حقّاً لازماً.

2- و لا يثبت بالنكول و لا باليمين المردودة.

3- و لأنّه يثير فساداً.

أقول: إذا ادّعى المنكر بعد إقامة بيّنة المدّعي، فسقَ القاضي فهل تُسمع الدعوى أو لا؟ للمسألة صورتان:

إحداهما: أن يدّعي فسق القاضي على وجه الإطلاق من دون أن يخاطب المحكوم له بعلمه بفسقه و عدمه و إن كان قضاؤه في المورد سبباً لذلك الادّعاء، فلا شكّ أنّه يصحّ طرحه لكن في محكمة أُخرى، فإنّ الشرط في نصب القاضي، و إن كان هو إحراز عدالته عند الناصب و لكنّه لا يمنع من أن يجرحه المنكر و يكون مسموعاً و هذا لا يثير فساداً إذ لو كانت له بيّنة تُسمع الدعوى و إلّا فتردّ.

نعم لو ادّعى علم الناصب بفسقه و مع ذلك نصبه

فليس له إحلاف الناصب لأنّه مضافاً إلى كونه مثيراً للفساد لأنّ الناصب هو الإمام، الأمين العام، و إحلافه طعن للنظام أنّ الإحلاف ليس في صلاحية مدّعي الفسق، بل يحتاج إلى محكمة تقضي بين المدّعي و الناصب و هو كما ترى له مضاعف أو مضاعفات.

ثانيهما: أن يدّعي علم المشهود له بفسق القاضي فهو قابل للطرح إذ ليست الدعوى فاقدة للأثر بشهادة أنّه لو أقرّ المشهود له بذلك لا يجوز للمقرّ ترتيب الأثر على مثل هذا القضاء و لو افترضنا أنّ المشهود له أقرّبه فلا يكون ذلك سبباً لسقوط أصل الدعوى إذ للمشهود له طرح الدعوى عند قاض آخر.

هذا كلّه إذا أقرّ و إن أنكر و حلف فينفذ الحكم السابق و إلّا فيردّ الحلف إلى المدّعي. و مع ذلك، لا يسقط أصل الدعوى أيضاً كما عرفت.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 54

و أمّا إذا ادّعى فسق الشهود، و عِلْم المشهود له به فإن قلنا إنّ الميزان، كون الشهود عدولًا عند القاضي فلا تكون الدعوى ملزمة للتكليف، لأنّ المعتبر هو عدالة الشهود عند القاضي، لا عند المحكوم له و أمّا لو قلنا باشتراط عدالتهم عند المتخاصمين فالدعوى ملزمة بشهادة أنّه لو أقرّ المحكوم له بفسقها لما صلح له ترتيب الأثر و على هذا فلو أقرّ، و إلّا فإن أنكر و حلف يكون الحكم نافذاً و إن ردّ و حلف المحكوم عليه، يبطل الحكم المبنيّ على شهود لم تثبت عدالتهم و له إقامة الدعوى بشهود أُخرى و ما ذكرنا هو حكم المسألة شرعاً و أمّا تجسيدها في الحاضرة الإسلامية فهو يحتاج إلى تخطيط خاص.

المسألة الثانية: إذا التمس المنكر يمين المدّعي

إذا التمس المنكر يمين المدّعي منضمّة إلى الشهادة لم تجب

إجابته لنهوض بيّنته بثبوت الحقّ، و يدلّ عليه مضافاً إلى الاتّفاق ما ورد من النصوص ففي صحيح محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف قال: لا. «1» و ما ورد في حديث سلمة بن كهيل عن عليّ عليه السَّلام و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته فإنّ ذلك أجلى للعمى، و أثبت في القضاء «2» محمول على الاستحباب و يمكن حمله على ما إذا شهدت البيّنة على أصل الدين دون الثبوت في الذمّة فالتمس المنكر الحلف على الاستحقاق فعلًا.

المسألة الثالثة: إذا ادّعى إقرار الغير بحقّ له عليه

إذا ادّعى على رجل أنّه أقرّ له بالحقّ، من دون أن يدّعي أنّ له عليه الحقّ واقعاً مع قطع النظر عن الإقرار فهل تُسمع الدعوى بمعنى توجّه اليمين على

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و لاحظ 2 و 3.

(2) الوسائل، الجزء 18، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 55

المدّعى عليه لو أنكر؟ قيل فيه وجهان:

1- تسمع، لأنّه يترتّب عليها الأثر في صورة و هو إذا أقرّ فيؤخذ بإقراره و إن كان لا يترتّب عليها إذ أنكر و حلف و يكفي في كون الدعوى قابلة للطرح ترتّب الأثر عليها و لو في صورة خاصّة.

2- لا تسمع لأنّ الحقّ لا يستحقّ بالإقرار في نفس الأمر و إن كان ثبوته يوجب الحقّ ظاهراً.

و ذهب الشهيد في المسالك إلى السماع قائلًا بأنّ المعتبر ثبوت الحقّ ظاهراً و اعترافه ينفعه، و نكوله يثبت عليه الحقّ لو قلنا بالقضاء به أو مع يمين المدّعي و المدّعي يجوز له الحلف على أنّه أقرّ له

بذلك «1» و سيوافيك أنّه لا يشترط في استحقاق المقرّ له عِلْمُه بالسبب المقتضي للإقرار بل يجوز له أخذه تعويلًا على إقراره ما لم يعلم فساد السبب.

المسألة الرابعة: في الكشف عن أسباب الدعوى و عدمه
اشارة

يشترط في صحّة الدعوى أن تكون ملزمة محدثة للتكليف، و مترتّباً عليها الأثر الشرعي و على ذلك فقوام صحّة الدعوى هو كونها موضوعاً للحكم الشرعي. فلو كانت الدعوى بوصف كونها كلّياً ذات أثر شرعيّ و إن كانت مجهولة من ناحية الأسباب، يصحّ طرحها و على القاضي سماعها و إلّا فلا. و على هذا بحثوا عن لزوم كشف أسباب الدعوى و عدمه و فصّلوا بين ما كانت ذا أثر شرعي فلا يجب الكشف، و إلّا فيلزم و قد عنونه الشيخ في المبسوط و بحث عن المسألة على وجه التفصيل نذكر من كلامه موجزه:

قال: تنقسم الدعوى إلى ثلاثة أقسام: ما لا يفتقر إلى كشف، و ما لا بدّ فيه من الكشف، و ما اختلف فيه.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 431.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 56

فأمّا ما لا يفتقر إلى كشف فالأملاك المطلقة، مثل أن يدّعي الدين و العين مثل الدابّة و الدار و العبد و الثوب فإذا قال لي كذا و كذا سمعناها و لم يكلّفه الحاكم أن يكشف عن أسباب الملك لأنّ جهات الملك و أسبابه تتكثر و تتّسع من الإرث و الهبة و الغنيمة و الشراء و الإحياء فإذا كلّف الكشف كان عليه فيه المشقّة لأنّه قد يخفى ذلك السبب.

و أمّا ما لابدّ فيه من الكشف و هو إذا ادّعى القتل فقال قتل هذا وليّاً لنا، كُلّف الكشف فيقول صف لنا القتل عمداً أو خطأً فإذا قال عمداً قال: صف العمد

فإذا وصفه قال: قتله وحده أو معه غيره، لأنّه من الأُمور التي لا يتدارك بعد فواتها فلهذا يكشف عنها.

و أمّا ما اختلف فيه فهو النكاح قال قوم لا يقبل حتّى يقول: نكحتها بولي و شاهدي عدل و قال قوم: لا يفتقر إلى الكشف سواء ادّعى الزوجيّة فقال: هذه زوجتي أو ادّعى العقد فقال: تزوّجت بها. هذا إذا ادّعى الرجل الزوجيّة فأمّا إن ادّعت المرأة الزوجيّة نظرت فإن ذكرت مع ذلك حقّاً من حقوق الزوجيّة كالمهر و النفقة كانت مدّعية و إن لم تذكر حقّا و إنّما قالت هذا زوجي أو تزوّجني قال قوم: ليس بدعوى بل هو اعتراف و إقرار و من أقرّ بحق لا يلزم المقرّ له الجواب. و قال قوم: انّ الدعوى صحيحة و يلزمه الجواب لأنّ إطلاق قولها هذا زوجي أو هذا تزوّجني، تحته ادّعاء لحقوق الزوجيّة فلهذا صحّت الدعوى، و من قال الدعوى صحيحة فهل يفتقر إلى الكشف؟ ثمّ عطف الشيخ على المقام، دعوى سائر العقود كالبيع و الصلح و الإجارة و اختار عدم لزوم الكشف و من قال بالكشف أوجب أو يقول: تعاقدنا بثمن معلوم جائزي الأمر و تفرّقنا بعد القبض عن تراض «1».

هذا كلام الشيخ فقد نفى افتقار صحّة الدعوى إلى الكشف في النكاح

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 259- 261.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 57

و غيره و استثنى القتل معلّلًا بانّ فائته لا يستدرك. «1» و تبعه العلّامة في الإرشاد قال: و لا تفتقر الدعوى إلى الكشف إلّا في القتل. و قال المحقق الأردبيلي في ذيل كلام العلّامة: «عدم افتقار الدعوى إلى التفصيل في غير القتل هو المشهور بل كاد يكون إجماعياً سواء

كان مالًا أو غيره من النكاح و غيره لعموم أدلّة الدعوى و مقبوليّتها على الإطلاق من غير تفصيل، و عدم كون الإجمال مانعاً 2.

أقول: الميزان في سماع الدعوى كونها ملزمة و ذات أثر شرعي فلا شكّ أنّ دعوى النكاح من كلا الطرفين سواء كان ادّعاءً للمسبّب أي الزوجيّة أو السبب أي العقد، كلّها ذات آثار شرعيّة فلا وجه لعدم السماع بحجّة أنّ المدّعي لا يكشف عن أطراف الموضوع بعض الإبهامات الذي لا مدخلية لها في كون الموضوع ذا أثر شرعي، غير أنّ الكلام في استثناء القتل، فإنّ عدم سماعها لأجل اختلاف أنواعه، فإنّ القتل عن عمد يوجب القصاص، و القتل عن خطأ يوجب الدية، و القتل للارتداد، يوجب التعزير لأنّه تدخل في أمر الحاكم، و المرتدّ و إن كان مهدور الدم و لكنّه لا يجوز لغير الحاكم إهدار دمه.

و على ذلك فوجه افتقار الدعوى إلى الكشف في القتل إنّما هو لأجل أنّ الاعتراف بالكلّي فاقد للأثر و إنّما الأثر للكلّي المشخّص في صنف أو فرد، لا لأجل أنّ فائته لا يستدرك، إذ لو صحّ ذلك لوجب عدم السماع في النكاح فإنّ الوطء لا يستدرك، اللّهمّ إلّا أن يقال باستدراكه بردّ المرأة مع المهر بخلاف النفس.

ثمّ إنّ المحقّق الأردبيلي احتمل سماع الدعوى في نفس القتل أيضاً و قال: إنّه يمكن الاكتفاء في القتل بعدم التفصيل غايته أنّه لا يمكن إثبات حكم بخصوصه إذا ثبت أصله إذ لو لم يسمع لأدّى إلى إبطال دم امرئ معصوم مع إمكان إثباته بوجه. 3

بقي هنا مطلب و هو؛ أنّه لا يشترط الكشف في سماع أصل الدعوى و لكن

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الأردبيلي: مجمع الفائدة 12/ 123- 124.

نظام

القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 58

إذا انتهى الأمر إلى المحاكمة فلا شكّ أنّ الكشف عن الأسباب و أطراف القضية ربّما يكون سبباً لكون القاضي أقرب إلى الواقع و أبعد عن الخطأ فهناك مقامان مقام سماع الدعوى، و مقام الترافع، ففي المقام الأوّل يكفي كون الموضوع ذا أثر شرعي و أمّا مقام الترافع فالإمعان في أطراف القضية أمر مؤكّد لا ينبغي تركه.

ردّ اليمين في دعوى الزوجيّة

قال المحقّق فيما إذا ادّعت المرأة الزوجيّة و أنكرها الرجل: أنّه يلزمه اليمين، و لو نكل قُضي عليه على القول بالنكول، و على القول الآخر تردّ اليمين عليها فإذا حلفت ثبتت الزوجيّة، و كذا السياقة لو كان هو المدّعي.

أقول: إنّ ردّ اليمين على المنكر في مسألة الزوجيّة مشكل جدّاً لقصور روايات الردّ عن الشمول لغير الحقّ و المال، فقد وردت فيها كلمة الحقّ و المال و هو منصرف إلى غير المقام و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما في الرجل يدّعي و لا بيّنة له قال: «يستحلفه فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له». «1» و في مرسلة أبان عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في الرجل يُدَّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: «يستحلف المدَّعى عليه فإن أبى أن يحلف و قال: أنا أردّ اليمين عليك لصاحب الحقّ فإنّ ذلك واجب على صاحب الحقّ أن يحلف و يأخذ ماله». 2

فالقرائن الموجودة في روايات الباب تصدّ الفقيه عن إسراء حكم الردّ إلى غير الحقوق و الأموال. أضف إلى ذلك أنّ الردّ يوجد مأزقاً في تطبيق الحكم، فلو افترضنا أنّ الرجل ادّعى الزوجيّة و أنكرتها المرأة، فلم يكن للرجل بيّنة فانتهى

الأمر إلى يمينها و قد ردّته إلى الرجل فحلف، فمعنى ذلك أنّه يجوز للرجل إيجاب التمكين عليها و الاستمتاع منها، و لكن وظيفة المرأة بينها و بين ربّها هو الفرار و

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1 و 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 59

عدم التمكين، فما ذا تكون النتيجة إلّا الفوضى في أمرهما و دوام التشاجر بينهما؟!

فإن قلت: إنّ الإشكال جار فيما إذا أقام الرجل البيّنة على الزوجيّة مع كونها منكرة، فالوظيفتان مختلفتان كالسابق.

قلت: البيّنة حجّة شرعيّة و طريق إلى الواقع فيجب على المرأة التمكين و لا وزر عليها، و هذا بخلاف ما إذا كانت منكرة و قصّرت في الحلف و ردّته إلى الرجل فحلف، فعندئذ هي التي أوجدت المأزق في حياتها و سلطت الأجنبي على عرضها باختيارها.

و الذي أظنّ هو أنّه يجب على القاضي حبس المرأة حتّى تجيب بأحد الأمرين إمّا أن تقرّ بالزوجيّة أو تحلف.

لزوم الكشف عند ادّعاء الفرع و عدمه

ثمّ إنّ هنا فروعاً حول لزوم الكشف و عدمه تدور حول ادّعاء الفرع و إليك بيانها:

1- لو ادّعى أنّ هذه بنت أمته من دون أن يقول ولّدتها في ملكي.

2- لو ادّعى أنّ هذه بنت أمته و أضاف أنّها وَلّدتْها في ملكي.

3- لو ادّعى أنّ هذه بنت أمته و قال ولدتها في ملكي و هي الآن مملوكة لي.

قال المحقّق: لا تسمع الدعوى في الصورتين الأُوليين، أمّا الأُولى لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثمّ تصير الأم له. و أمّا الثانية لاحتمال أن تكون حرّة أو ملكاً لغيره، فلا تسمع الدعوى لعدم كونها موضوعاً لحكم شرعي، و بذلك يعلم أنّه لو قامت البيّنة على هاتين

الصورتين لا تسمع.

نعم، تسمع الدعوى و تقبل البيّنة إذا كانت على النحو الثالث لأنّه موضوع ذو أثر شرعي حيث يدّعي أنّه المالك للفرع دون ذي اليد، فيأتي دور المرافعة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 60

و مثل هذا إذا قال: هذه ثمرة نخلي فله أيضاً صور ثلاث لا تسمع في الأُوليين و تسمع في الثالثة بنفس الدليل السابق في ادّعاء البنت لأنّ كون التمر ثمرة للنخل الذي هو يملكه لا يكون دليلًا على أنّه ملكه لاحتمال أن يكون النخل عند إثماره ملكاً للغير ثمّ انتقل إليه، كما أنّ كون التمر ثمرة للنخل حين كونه مالكاً للأصل لا يدلّ على كونه مالكاً للثمرة الآن، لإمكان بيعها مع الحفظ على أصلها. نعم لو قال: هذه ثمرة نخلي أثمرها في ملكي و هي الآن مملوكة لي تسمع، لكونها ذات أثر شرعي.

هذا هو حال الادّعاء و به تبيّن حال الإقرار و تأتي فيه الصور الثلاث الماضية في الادعاء فلا يكون إقراراً على النفس إذا أقرّ على النحو الثالث فإليك البيان: فلو أقرّ ذو اليد أنّ التمر ثمرة النخل الذي يملكه زيد، فلا يكون إقراراً على نفسه و لصالح صاحب النخل إذ لا ملازمة بين كونه ثمرة لنخل زيد و كونه مالكاً لها بالفعل لإمكان كون النخل عند الإثمار ملكاً للغير ثمّ انتقل الأصل إلى زيد بعده أو كان ملكاً له عند الإثمار و لكن انتقلت الثمرة منه إلى ذي اليد، و لأجل عدم كونه إقراراً على النفس لو فسّره بما ينافي مالكيّة زيد و قال و مع ذلك فهي ملكي، لا يعدّ ذلك إنكاراً بعد الإقرار سواء كان التفصيل متصلًا أو منفصلًا و ما ذلك

إلّا لأجل انّ كلامه لم يكن ظاهراً في الإقرار بملكية صاحب النخل بالنسبة إلى الثمرة. نعم لو أقرّ بما سبق و أضاف قوله: و هي ملك زيد يكون إقراراً على نفسه.

و على ضوء ذلك فالإقرار و الادّعاء توأمان يرتضعان من ثدي واحد. فلو قلنا باعتبار الظهور فكلاهما سيّان، و لو قلنا باشتراط التصريح فكلاهما كذلك، و لا فرق بين الإقرار و الادّعاء.

نعم يظهر من صاحب المسالك أنّه فهم من كلام المحقّق أنّه بصدد التفريق بين الإقرار و الادّعاء و أنّه يكفي في الإقرار القول بأنّه ثمرة نخل فلان مع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 61

عدم إضافة ما ينافي ذلك إليه عملًا بالظاهر من كونها تابعة للأصل حيث لا معارضة و لو كان هناك شي ء لذكره فإطلاق كونها من الأصل الذي هو مملوك للمقرّ له، ظاهر في تبعيّتها له بخلاف الدعوى فإنّ شرطها التصريح بالملك له و لو بالاستلزام و لم يحصل، ثمّ ذكر أنّ الفرق بين الدعوى و الإقرار لا يخلو عن إشكال لأنّ الاحتمال قائم على تقديري الإقرار و الدعوى و العمل بالظاهر في الإقرار دون الدعوى لا دليل عليه. «1»

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره متين و لكن من أين استظهر من كلام المحقّق أنّه بصدد التفريق بين الإقرار و الادّعاء فيكفي في الإقرار نسبة الثمرة إلى نخل الغير مع عدم إضافة ما ينافي ذلك إليه بخلاف الادعاء فإنّه يشترط التصريح بانّه ملك المدّعي.

نعم إنّ المحقّق فرّق بين ثمرة النخل و فرع آخر في مقام الإقرار، فاكتفى فيه بصرف النسبة و هو إذا قال هذا الغزل من قطن فلان أو هذا الدقيق من حنطته فاعتبره إقراراً على النفس،

و علّله في الجواهر و غيره بأنّ الغزل و الدقيق نفس حقيقة القطن و الحنطة و إنّما تغيّرت الأوصاف فملك الأصل تقتضي ملك الفرع بخلاف الثمرة و الولد، فإنّهما منفصلان عن أصلهما جنساً و وصفاً و شرعاً، فالإقرار بالفرعية لا تقتضي الإقرار بالملك، و كذا أيضاً في المسالك و أضاف، بل لا أجد فيه خلافاً، بل هو عندهم من الواضحات. «2»

يلاحظ عليه: أنّه لا فرق بين جميع الأمثلة التي تقدّمت من ادّعاء البنت و ثمرة النخل و كون الغزل من قطن فلان، فالإقرار و الادعاء في الجميع سيّان فلا يصحّان إلّا إذا كان ظاهراً في الإقرار على نفسه و ظاهراً في دعوى شي ء لنفسه، فالإقرار بأنّ الغزل من قطن الأرض التي يملكها زيد ليس إقراراً على مالكيته

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 432.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 386.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 62

للغزل حاليّاً لإمكان ابتياعه منه، و إنّما يكون إقراراً إذا قال: و هو ملكه الآن، و مثله الادعاء فلا يكون ادّعاء موضوع ذي أثر شرعي إلّا إذا قال هذا الغزل من قطن أرضي و أنّه ملكي و إلّا فادّعاء كون الغزل من قطن أرضه لا يلازم مالكيّته للغزل و كون الثمرة هناك منفصلة عن الأصل و غير منفصلة في المقام لا توجب فرقاً إذا كانت الدلالة على مستوى واحد.

إلى هنا تمّ ما ذكره المحقق من شرائط سماع الدعوى،

ثمّ إنّ هناك شروطاً أُخر ذكرها السيّد الطباطبائي في المقام نشير إليها:
1- أن يكون للمدّعي طرف

يشترط في صحّة الدعوى أن يكون للمدّعي طرف تكون بينهما مخاصمة و منازعة فعلًا فلو لم يكن له طرف موجود فعلًا و أراد إثبات مطلب و إصدار الحكم عليه ليكون قاطعاً لدعوى محتملة فيما سيأتي كما إذا كان هناك

وقف على كيفية صحيحة عند بعض العلماء دون بعض فأراد إصدار الحكم ممّن يقول بصحّته، دفعاً لادّعاء بعض البطون و نحو ذلك ممّا هو محلّ الخلاف، أو كان له طرف لكن لم يكن بينهما منازعة فعلًا كأن يكون معترفاً بحقّه لكن أراد إثبات حقّه و أخذ الحكم دفعاً لما يحتمل من جحوده بعد ذلك، لا يجب «1» على الحاكم سماعها، و لو سمعها و ثبت عنده بالبيّنة أو الإقرار و حكم به لا يترتّب عليه آثار الحكم من وجوب العمل به و حرمة نقضه لأنّ المتبادر ممّا دلّ على وجوب السماع و ترتّب آثار الحكم صورة وجود المنازعة فعلًا، كذا قاله بعضهم. «2»

أقول: ما نقله السيّد الطباطبائي عن ذلك البعض هو الحقّ لأنّ القضاء مفهوم عرفي قائم بمثلث له أضلاع ثلاثة أحدها المدّعي و الآخر المنكر و الثالث

______________________________

(1) جواب لقوله: فلو لم يكن له طرف موجود.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 63

الحاكم، فإذا لم يكن هناك منازع فلا يتحقّق للقضاء مفهوم.

نعم لو عرضا الموضوع فإن كانت الشبهة حكمية كما إذا كان هناك وقف على كيفية صحيحة عند بعض العلماء دون بعض فما يجيبه يكون فتوى حجّة على مقلديه لا حكماً قضائياً حجّة على الجميع سواء كان حاضراً أو غائباً ....

و إن كانت شبهة موضوعية كما إذا أراد إثبات حقّه و أخذ الحكم دفعاً لما يحتمل من جحوده ليكون ذلك إقراراً من الجاحد على الحقّ عند الحاكم و لكن ليس كلّ إقرار و سماعه و تصديقه قضاءً. و لا دليل على حجية القضاء في الشبهات الموضوعية إذا لم يكن تنازع.

2- تعدّد المدّعي و القاضي

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام

القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 63

يشترط في تحقّق القضاء أن يكون القاضي غير المدّعي تحقيقاً لمفهوم القضاء و أمّا إذا كان القاضي هو المدّعي فهو أشبه بمثلث يفقد أحد أضلاعه. و أمّا حقوق اللّه سبحانه فما يرجع إلى القاضي هناك هو العمل بالبيّنة أو الإقرار و ليس له هناك قضاء و لا حكم و إلّا لاتّحد القاضي و المدّعي، فموضوع القضاء و محلّه هو حقوق الناس، و لأجل أنّ الحدود الإلهية خارجة عن مجال القضاء اتّفقوا فيها على عدم اليمين و ورد به النص «1» و ما يهم القاضي فيها هو الإمعان في كون البيّنة واجدة للشرائط و كون الإقرار نافذاً أو لا.

3- اشتراط الجزم في الدعوى

و هذا الشرط هو الذي بسط السيد الطباطبائي الكلام فيه و قد فرغنا عنه في البحوث السابقة فلا نعود إليه.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 1، 2، 3 و 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 64

الفصل الثاني في التوصل إلى الحقّ
اشارة

الغرض من عقد هذا الفصل هو تمييز المواضع التي يجب على المدّعي أن يرجع إلى القاضي لاستيفاء حقّه عمّا لا يجب عليه، بل يجوز له الاستقلال بالاستيفاء و بما أنّ الحقّ إمّا عقوبة كالقصاص و حدّ القذف. أو مال و هو إمّا عين في يد المدّعي أو دين في ذمّته

فيدور البحث في محاور ثلاثة:
الأوّل: إذا كان الحقّ عقوبة

إذا كان لرجل على آخر حقّ القصاص و القذف فقد اتّفق الفقهاء على أنّ المدّعي لا يستقلّ بالاستيفاء فلا بدّ من رفع الأمر إلى الحاكم لعظم خطره و لأنّ استيفاءه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة. «1»

هذا و قد جرت على الرفع سيرة العقلاء في المجتمعات الحضارية و حتّى العشائرية، حيث ترفع الدعوى إلى شيخ القبيلة، و لو خُوِّل الانتصاف من الظالم إلى الناس لانتهى الأمر إلى فساد عظيم و ربّما تراق دماء الابرياء باتهام القصاص و غيره، و ذلك معلوم جدّاً، نعم خرجت عن ذلك موارد جزئية تحت شرائط خاصّة، قال محمّد بن مكّي الشهيد في الدروس: روي أنّ من رأى زوجته تزني فله قتلهما «2». و مع ذلك ففي رواية عبد اللّه بن القاسم الجعفري عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السَّلام قال: قال سعد بن عبادة: أ رأيت يا رسول اللّه إن رأيت مع أهلي رجلًا فأقتله؟ قال: يا سعد فأين الشهود الاربعة 3. و قد حمله الأصحاب على أنّه لا يثبت ذلك في الظاهر و لا تقبل دعوى الزوج إلّا ببيّنة، و بعبارة أُخرى يجوز القتل ثبوتاً إلّا انّه

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 431.

(2) 2 و 3 الوسائل: 18، الباب 45، من أبواب حدّ الزنا، الحديث 21.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 65

إذا لم يستطع إثبات دعواه يُقتل و قد وردت بعض الروايات في سبّ النبيّ أنّه يجوز قتله إذا لم يخف على نفسه «1». و على كلّ تقدير فخروج مورد أو موردين لا يضرّ بالضابطة و هو كون إجراء الحدود وظيفة الحاكم.

و مع وضوح الحكم يظهر من صاحب الجواهر الميل إلى خلاف ما هو مسلّم بين الفقهاء، لكن بشرط أن يكون الحال معلوماً أو كان الخصم مقراً مستدلًا بقوله سبحانه: (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً) (الاسراء/ 33). قائلًا بأنّ مقتضى إطلاق السلطان هو الأعم من قيامه بالمباشرة أو بالتسبيب مضافاً إلى تسلّط الناس على استيفاء حقوقها. «2»

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد تشريع السلطة للولي و أمّا الكيفية فليست في مقام بيانها و مثلها الدليل الثاني فإن تسلّط الناس على استيفاء حقوقهم فاقد للإطلاق من حيث التسبيب و المباشرة، أضف إلى ذلك أنّ مواضع الحقوق محاطة بشبهات حكميّة و موضوعيّة لا يقدر على حلّها إلّا الفقيه العارف بالحكم و الموضوع، فكيف يمكن أن يُخوَّل مثل ذلك إلى العامي؟!

الثاني: إذا كان الحقّ عيناً في يد الغير

إذا كانت لرجل عين بيد رجل آخر فالمشهور أنّه إن قدر على استردادها من غير تحريك فتنة استقلّ به لأنّها نفس ماله فلا حاجة إلى الرجوع في تحصيله إلى غيره، نعم لو أدّى إلى الفتنة فلا بدّ من الرفع إلى الحاكم دفعاً لها. «3» توضيحه: أنّه فرق بين العين و الدين، فإنّ الحقّ في الأوّل متعين في الموجود فهو مالك له بخلاف الثاني فإنّ الحقّ فيه كلي في ذمّة المدين و لا يتعيّن فيما يقتصّ منه إلّا برضاه، أو بولاية شرعيّة كإذن الحاكم و المفروض انتفاء الأمرين.

______________________________

(1) الوسائل: 18،

الباب 25 من أبواب حدّ القذف، الحديث 3.

(2) الجواهر: 40/ 387.

(3) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 432.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 66

نعم يجوز الاستقلال في العين إذا لم تترتّب عليه فتنة و إلّا فلا يجوز لما علم من مذاق الشارع من عدم جواز فعل تترتّب عليه الفتنة و لأجل ذلك جوّز الإمام بيع الوقف إذا انتهى إبقاؤه على ما كان عليه إلى تلف الأموال و النفوس «1» و قال سبحانه: (إِلّٰا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسٰادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال/ 73) هذا و للمسألة صور نذكرها:

أ: إذا استلزم أخذ العين من الممسك تمزيق الثوب و كسر القفل و نظائره ممّا لا ينفكّ عنه الاستقلال بأخذ الحقّ، فهل هو جائز أو لا؟ الظاهر جوازه، لأنّه إذا جاز الدفاع عن ماله يجوز ما توقّف عليه، اللّهمّ إلّا أن يستلزم فتنة أو فساداً كبيراً، و يمكن أن يقال إنّ الممسك بإمساكه أسقط حرمة ماله بمقدار ما يتوقف عليه الأخذ.

ب: لو افترضنا كون الممسك جاهلًا بأنّ ما تحت يده مال الغير فلا شكّ أنّه يجوز الاستقلال إذا لم يترتّب عليه ضرر، و أمّا إذا ترتّب عليه ضرر يسير كما مثلناه، فالظاهر أنّه لا يجوز لاحترام ماله و عدم سقوطه عن الحرمة لكونه جاهلًا، نعم ذلك إذا أمكن الرجوع إلى الحاكم و أخذ الحقّ عن طريقه و إلّا فلا إشكال في ذلك غير أنّه يضمن الضرر اليسير.

ج: لو افترضنا أنّه وقع في يده مال للممسك سواء كان جاهلًا أو عالماً فهل يجوز التقاص به أو لا؟ الظاهر التفريق بين ما أمكن أخذ الحقّ عن طريق الحاكم فلا يجوز بخلاف ما إذا انحصر الطريق بالتقاصّ.

و سيوافيك هذا التفصيل في المحور الثالث فانتظر.

الثالث: إذا كان الحقّ ديناً في ذمّة الآخر
اشارة

هذا كلّه حول العين و أمّا الدّين فله صور:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 6 من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 67

1- إذا كان المدين معترفاً بالدين باذلًا له متى أراد.

2- إذا كان معترفاً به لكن ممتنعاً عن الأداء.

3- إذا كان جاحداً و كان للمدّعي البيّنة على إثبات حقّه و كان الوصول إلى الحاكم أمراً ممكناً.

4- تلك الصورة و لكن لم تكن له البيّنة على إثبات الحقّ، أو كانت له البيّنة لكن كان الوصول إلى الحاكم غير ممكن أو أمراً حرجياً.

5- إذا كان المدين جاهلًا بالدَين في اعتقاد الدائن.

و إليك بيان أحكام الصور:

أمّا الصورة الأُولى: أعني ما إذا كان باذلًا

، فلا يستقلّ المدّعي بانتزاعه و ذلك لأنّ المدين مخيّر في جهات القضاء فلا يتعيّن الحقّ في شي ء دون تعيينه أو تعيين الحاكم مع امتناعه. و المفروض انتفاء كلا الأمرين، و الحاصل أنّ الدائن يملك الثمنَ الكلي في ذمة المديون و تشخّصه في جزء من أمواله يحتاج إلى تعيينه و المفروض عدمه، أو إلى تعيين الحاكم لانّه ولي الممتنع و المفروض عدم امتناعه فتكون النتيجة عدم تعيّن الدين الكلي فيما انتزع، و على هذا لو وقع مال المديون في يد الدائن، فلا يتعيّن الدين فيه إلّا برضاه. و ما يرد عليك من الروايات من جواز التقاص منصرفة عن صورة كونه باذلًا بل صريحة في خلافها.

و أمّا الصورة الثانية و الثالثة: أعني ما إذا كان معترفاً بالدين لكن ممتنعاً عن الأداء أو كان جاحداً و للغريم بيّنة تُثبتُ عند الحاكم و كان الوصول إليه ممكناً

ففيه قولان ذهب الشيخ في الخلاف و المحقّق في الشرائع إلى الجواز مستدلًا بعموم الإذن في الاقتصاص، خلافاً للمحقّق في النافع و تلميذه في كشفه و للفخر في ايضاحه على ما نقل عن الأخير.

قال الشيخ: إذا كان لرجل على رجل حقّ فوجد من له الحقّ، مالًا لمن عليه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 68

الحقّ إلى أن قال: و إن كان مانعاً إمّا بأن يَجحد ظاهراً و باطناً، أو يعترف باطناً و يجحده ظاهراً، أو يعترف به ظاهراً و باطناً و يمنعه لقوّته، فإنّه لا يمكن استيفاء الحقّ منه، فإذا كان بهذه الصفة، كان له أن يأخذ من ماله بقدر حقّه من غير زيادة سواء كان من جنس ماله أو من غير جنسه إلى أن قال: و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: ليس له ذلك إلّا في الدراهم و الدنانير «1» التي هي الأثمان و أمّا غيرهما فلا يجوز قال: دليلنا: إجماع الفرقة

و أخبارهم و أيضاً روي أنّ هنداً امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبيّ فقالت يا رسول اللّه! إنّ أبا سفيان رجل شحيح و أنّه لا يُعطيني ما يكفيني و ولدي إلّا ما آخذ منه سرّاً فقال: «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف» و النبي أمرها بالأخذ عند امتناع أبي سفيان منه و الظاهر أنّها كانت تأخذ من غير جنس حقّها فإنّ أبا سفيان ما كان يمنعها الخبز و الإدام و إنّما كان يمنعها الكسوة فالظاهر أنّ الأخذ من غير جنس الحقّ. «2»

و ظاهره جواز الأخذ في الصورتين من غير فرق بين كونه ذا بيّنة و عدمه، أمكن الوصول إلى الحاكم و استيفاء الحقّ بحكمه أو لا و لكن الظاهر من المبسوط هو الجواز فيما إذا لم تكن له الحجّة أو كان و لكن لا يقدر على إثباته عند الحاكم، و عدم الجواز في غير هاتين الصورتين.

قال: هذا (أي جواز الأخذ مطلقاً من جنس الحقّ و غيره) إذا كان من عليه الحقّ مانعاً و لا حجّة لمن له الحقّ، فأمّا إن كان له بحقّه حجّة و هي البيّنة عليه، و لا يقدر على إثبات ذلك عند الحاكم و الاستيفاء منه فهل له أخذه بنفسه أم لا قال قوم ليس له لأنّها جهة تملك استيفاء حقّه بها منه فلم يكن له الأخذ بنفسه بغير رضاه، كما لو كان باذلًا، و قال آخرون له ذلك لأنّ عليه مشقّة في إثباته عند الحاكم و مغرمة في استيفائه فكان له الأخذ و هو الّذي يقتضيه عموم أخبار في

______________________________

(1) لعلّ مراده تخصيص الاقتصاص بما إذا كان ما في يده مماثلًا لما في ذمّة المدين.

(2) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و

البيّنات، المسألة 28.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 69

جواز ذلك «1».

ترى أنّه خصّ الجواز بما إذا لم يمكن له البيّنة أو كان إثباته شاقّاً عند الحاكم و مفهومه عدم الجواز في صورة الإمكان و عدم المشقة.

هذا و خالف المحقّق في النافع و لم يجوّز و قال: و لو كان ديناً و الغريم مقرّ باذل أو مع جحوده عليه حجّة لم يستقلّ المدّعي الانتزاع من دون الحاكم. «2» و قد أقرّه عليه تلميذه الفاضل الآبي في شرحه على النافع. «3» و قد نقل الخلاف عن فخر المحققين في الإيضاح و لم نقف عليه في موضعه. «4»

و قد استدلّ صاحب الجواهر و غيره على الجواز في هذه الصورة أي وجود البيّنة مع إمكان الوصول إلى حاكم مبسوط اليد بالعمومات الواردة في الكتاب و السنّة من قوله سبحانه: (فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194) و قوله سبحانه: (وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ) (البقرة/ 194) و قوله تعالى: (فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل/ 126) و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ليّ الواجد يُحِلُّ عقوبته و عرضه» «5» و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف» «6».

و الاستدلال بهذه الآيات ضعيف لأنّ الأولى في مقام بيان لزوم المماثلة في الاعتداء من حيث الكمّية و أمّا سائر الجهات و أنّه هل يتصدّى صاحب الحق بالاعتداء بالمباشرة أو بالتسبيب فليست الآية في مقام بيانه و منه يظهر عدم دلالة الآية الثالثة، و أمّا قوله: (وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ) فالمراد منه أنّ كلّ حرمة تستحلّ ففيه القصاص و أمّا الكيفية، فليس بصدد بيانها خصوصاً أنّه

جاء مقدّمة لقوله (فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ).

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 311.

(2) المحقق، النافع: 284، ط مصر.

(3) الآبي، كشف الرموز: 2/ 505.

(4) فخر المحققين، الإيضاح: 3/ 400.

(5) الوسائل: الجزء 13، الباب 8 من أبواب القرض، الحديث 4 مع اختلاف يسير.

(6) البيهقي: السنن 10/ 141 و قد مرّ في نصّ الخلاف أيضاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 70

و أمّا النبوي فإنّ شمول العقوبة لمثل الاقتصاص بعيد، و أمّا إذن النبي لامرأة أبي سفيان فلأجل أنّه لو لا الإذن، يلزم رجوعها في كلّ أُسبوع أو شهر إلى النبيّ، ليأخذ حقّها و هو كما ترى حيث إنّ الإثبات كان مشكلًا. و الأولى عطف الكلام إلى الروايات الواردة في المقام. فقد استدلّ صاحب الجواهر بروايات غير أنّ المهم ثبوت الإطلاق فيها بالنسبة إلى الصورتين أي صورة وجود الاعتراف و إن كان ممتنعاً عن الأداء، أو وجود البيّنة في صورة الجحد لإمكان إثبات الحقّ عند الحاكم مع إمكان الوصول إليه فقد سردها قدس سره من دون إيعاز إلى تلك الجهة بل القرائن تشهد ورودها فيما إذا كان الدائن فاقداً للبيّنة، أو كان الوصول إلى الحاكم غير ممكن و بعبارة أُخرى انحصر تحصيل الحقّ بالاقتصاص و إليك بعضها:

1- صحيح ابن أبي عمير عن داود بن زربي قال: قلت لأبي الحسن إنّي أُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، و الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك و لا تزد عليه». «1» و مورده ما إذا لم يتمكّن من استيفاء الحقّ بالحاكم و ذلك لأنّه إذا كان السلطان هو الآخذ فكيف يرفع الشكوى إليه أو

إلى عديله و زميله و الغالب في مثل هذه الأُمور فقد البيّنة، أو عدم إمكان التوصّل إلى الحاكم الشجاع الساعي في رفع الظلامة.

2- حسنة أبي بكر الحضرمي: قال: قلت له رجل عليه دراهم فجحدني و حلف عليها، يجوز لي إن وقع له قِبَلي دراهم آن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، و رواه الشيخ عن ابن أبي عمير عن داود بن رزين، لكن داود لم يوثق نعم رواه الصدوق بنفس السند عن داود بن زربي و عدّه المفيد في الإرشاد من رواة الإمام الكاظم الموثقين و نقل العلّامة و ابن داود عن النجاشي أنّه قال: ثقة ذكره ابن عقدة و النسخ التي بأيدينا من رجال النجاشي خال عن التوثيق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 71

نعم ... «1» و ليس السائل و المجيب في مقام البيان بالنسبة إلى وجود البيّنة و عدمها حتّى يتمسّك بإطلاقها، لو لم نقل بانصرافها إلى غير تلك الصورة إذ لو كانت له البيّنة لما ترك ذكرها و نظيرها روايته الأُخرى «2» و ممّا ذكرنا تظهر حال سائر الروايات «3» فيكون المرجع بعد عدم دلالة الروايات هو حرمة التصرّف في مال الغير، و لا يعارضه شي ء حتّى قاعدة «لا ضرر»، لافتراض استيفاء الدين بالرجوع إلى الحاكم إمّا لوجود البيّنة إذا جحد، أو اعترافه و عدم إنكاره.

و الحقّ، هو ما اختاره المحقّق في النافع و تلميذه في شرحه و فخر المحقّقين في الإيضاح و بذلك يظهر ضعف ما في الجواهر حيث قال: «لم نر للقائل بالمنع شي ء يعتدّ به عدا الأصل المقطوع ممّا عرفت بل يمكن

معارضته بأصل عدم وجوب الرفع إلى الحاكم».

وجه الضعف أنّ المحكّم هو الأصل الأوّلي أي حرمة التصرّف في مال الغير إلّا بدليل و القاطع لم يثبت لما عرفت عدم شموله للصورتين، و ما زعم من المعارضة بين الأصلين غير تامّ لعدم ترتّب الأثر على الأصل الثاني، حيث لا يُثبت جواز التصرّف في مال الغير، و المقصود في المقام إثبات جواز التصرّف.

و أمّا الصورة الرابعة فهي القدر المتيقّن من هذه الروايات المجوّزة للاقتصاص بلا حاجة إلى إذن الحاكم

و إلى تلك الصورة يشير المحقّق و يقول: «و لو لم يكن له بيّنة أو تعذّر الوصول إلى الحاكم و وجد الغريم من جنس ماله اقتص مستقلًا بالاستيفاء». «4»

بل من غير فرق بين كون المال من جنس ماله أو غيره بشهادة صحيحة داود

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب، الحديث 4 و 5 و أبو بكر الحضرمي ممدوح. و لا بدّ من حمل الحلف في الرواية إلى الحلف من دون أن يستحلف، أو الحلف عند المشتكي دون حضور القاضي بناء على شرطيّة حضوره عند الحلف بل بأمره.

(2) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب، الحديث 4 و 5 و أبو بكر الحضرمي ممدوح. و لا بدّ من حمل الحلف في الرواية إلى الحلف من دون أن يستحلف، أو الحلف عند المشتكي دون حضور القاضي بناء على شرطيّة حضوره عند الحلف بل بأمره.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8، 9، 10 و 13.

(4) الشرائع: 4/ 109.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 72

ابن زربي، حيث كان المغصوب الجارية و الدابّة، و الواقع في اليد المغصوب منه المال الظاهر في غير المماثل. و سيأتي تفصيله في التنبيه الثالث.

لو كان المال الموجود عنده وديعة

هذا كلّه إذا كان المال الموجود عنده غير وديعة و أمّا إذا كان وديعة قال المحقّق: «ففي جواز الاقتصاص تردّد أشبهه الكراهية». قال الشيخ في الخلاف بعد الحكم بجواز الأخذ بقدر حقّه: إلّا إذا كان وديعة عنده فإنّه لا يجوز له أخذه منها. «1» و مبدأ الخلاف، إختلاف الروايات، و ممّا يدلّ على الجواز صحيح فضل ابن عبد الملك المعروف بأبي العباس البقباق:

«إنّ شهاباً، ماراه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم قال أبو العباس فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك فأبى شهاب قال: فدخل شهاب على أبي عبد اللّه فذكر له ذلك فقال: أمّا أنا فأحب أن تأخذ و «2» تحلف».

و خبر علي بن سليمان قال: كتب إليه رجل غصب مالًا أو جارية ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه، أ يحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب: «نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه و يسلِّم الباقي إليه». 3

و في مقابلهما روايات يصف ذلك العمل بالخيانة ففي خبر ابن أخ الفضيل ابن يسار جواباً عن مثل السؤال: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، و لا تَخُن من خانك». 4 و في خبر سليمان بن خالد: إن خانك فلا تخنه و لا تدخل فيما عتبه عليه 5، و في صحيح معاوية بن عمّار قال: هذه الخيانة. 6

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 28.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 9.

(3) 4 و 5 و 6 الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، 7 و 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 73

و الإمعان في القسم الثاني من الروايات يعطي أنّه حكم أخلاقي حيث قال: «و لا تدخل فيما عتبه عليه» و من المعلوم أنّ تسميته خيانة من باب المبالغة في الكراهة إذ الخيانة هو الأخذ بغير حقّ، لا الأخذ معه على أنّ

مقتضى رواية البقباق هو عدم الكراهة أيضاً حيث قال: «أمّا أنا فأُحب أن تأخذ و تحلف».

بل الظاهر من خبر عبد اللّه بن وضّاح، أنّه لو لا حلف المنكر، لجاز الأخذ و إنّما المانع، هو استحلافه عند الحاكم. «1»

يجب التنبيه على أُمور:
الأوّل: إذا كان ما في ذمّة الآخر مخالفاً في الجنس مع ما وقع في يده، فهل يجوز الاقتصاص عندئذ أو لا؟

الظاهر أنّه يجوز لأنّه مضافاً إلى ترك الاستفصال في عامّة الروايات، أنّه مقتضى صحيحة داود بن زربي حيث إنّ المغصوب هو الجارية و الدابة الفارهة و ما وقع في يده هو المال الظاهر في المغايرة، و لأجل ذلك جاء في الجواب: خذ مثل ذلك و لا تزد عليه «2»، أي خذ مثله في المالية و لا تزد عليه، و نظيره رواية علي بن سليمان فإنّ المغصوب هو المال أو الجارية، فقد أجاب الإمام فيه بقوله: نعم يحلّ ذلك إن كان بقدر حقّه و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، و يسلّم الباقي إليه 3. فإنّ الغالب في تلك الموارد وقوع غير الجارية في يد المغصوب منه فيكون مخالفاً في الجنس.

الثاني: في تعيين البائع، قال الشيخ و من الذي يبيع؟!،

قال بعضهم: الحاكم لأنّ له الولاية عليه، و قال آخرون: يحضر عند الحاكم و معه رجل واطأه على

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) 2 و 3 الوسائل: ج 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 74

الاعتراف بالدين و الامتناع من أدائه، و الأقوى عندنا أنّه له البيع لأنّه يتعذر إثباته عند الحاكم، و الذي قالوه كذب يتنزه عنه. «1»

و قد اعتمد الشيخ في تولّي المغصوب منه للبيع على تعذّر إثباته عند الحاكم، و هو يؤيّد ما ذكرنا من أنّه لو كانت له الحجّة على الدين لما استقلّ بالاقتصاص، و يؤيد جواز التولي الروايتان السابقتان و قد تعرّفت على أنّ موردهما هو فقدان الحجّة على المدين، ثمّ إنّه إذا أمكن الاستئذان من الحاكم فهل يجب أو لا؟ مقتضى الروايتين هو عدم الحاجة

إليه. و ربّما يتصوّر أنّ الجواز فيها لأجل صدور الإذن من الإمام بالنسبة إلى المورد، فلا تدلّان على الغنى من الاستئذان في غير موردهما، و لكنّه توهّم ضعيف لأنّ الصادر عن الإمام لم يكن حكماً قضائياً بل كان لبيان حكم الواقع، و أنّه حكم اللّه عبر القرون و تكون النتيجة عدم الحاجة إلى الاستئذان أيضاً.

الثالث: في كيفية الاقتصاص،

إذا كان المال المأخوذ متّحداً في الجنس مع الواقع تحت اليد فحكمه معلوم، إنّما الكلام فيما إذا كان مختلف الجنس فهناك صور: منها بيعه بالنقدين و أخذهما مكان مالية المغصوب منه. و منها: قبوله بالقيمة العادلة من دون بيع، و منها: بيعه بالجنس المماثل لما غصب منه، و منها: بيعه بأحد النقدين ثمّ اشتراء الجنس المماثل، إلى غير ذلك من الصور المتصوّرة، و لمّا كان الغرض حيازة المالية الفائتة فلا يظهر هناك تعبّد بإحدى الصور، و يجوز الجميع أخذاً بترك الاستفصال.

الرابع: في ضمان العين قبل البيع.

قال الشيخ: و إن هلكت العين في يده قبل البيع قال قوم يكون من ضمان من عليه الدين لأنّ هذه العين قبضت لاستيفاء الدين من ثمنها و كانت أمانة عنده كالرهن و قال آخرون: عليه ضمانه لأنّه قبضها بغير إذن مالكها لاستيفاء الحقّ من ثمنها فهو كما لو قبض الرهن بغير

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 311.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 75

إذن الراهن و الأوّل أليق بمذهبنا فمن قال لا ضمان عليه قال: له أن يأخذ غيرها من ماله، و من قال عليه ضمانها قال صار في ذمّته قيمتها، و له في ذمّة المانع، الدين فإن كان الجنس واحداً كان قصاصاً و يترادان الفضل. «1»

و قال المحقق: الوجه الضمان، لأنّه قبض لم يأذن فيه المالك و يتقاصّان بقيمتها مع التلف. «2»

و هناك قولان آخران:

الأوّل: التفصيل بين مقدار الحقّ و ما هو زائد عنه فيما لو كان المأخوذ زائداً عن مقدار الحقّ، فلا يضمن ما زاد عن مقدار الحقّ، و هو خيرة العلّامة في القواعد.

الثاني: التفصيل بين ما أخذه بعنوان المقاصّة من أوّل الأمر فيضمن و أمّا إذا أخذه بعنوان

الوديعة ثمّ بدا له التقاصّ فلا يضمن.

لا شكّ أنّ مقتضى الاستيلاء على مال الغير يوجب الضمان، خرج منه ما إذا أخذ لصالح صاحب المال من أوّله إلى زمان تلفه كالوديعة، و أمّا غيرها فهو محكوم بالضمان. فإنّ القبض للمقاصّة هو قبض ضمان لا قبض مجّان سواء كان من بدأ القبض أو في الأثناء، فينقلب بقاءً عن القبض عن المجّان إلى الضمان، و لا يقصر ذلك القبض من القبض بالسوم و كونه مأذوناً من جانب الشارع في التصرّف أعم من عدم الضمان و قد أذن الشارع التصرّف في مال الغير عام المجاعة مع أنّ المتصرّف ضامن للقيمة أضف إلى ذلك ما ذكرناه منّا في محلّه من أنّ طبع التصرّف في مال الغير يقتضي الضمان إلّا أن يكون هناك دليل قاطع على عدمه، و من هنا يعلم قوّة وجه الضمان و ضعف عدمه، و قد استدل عليه بوجوه غير تامّة:

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 311.

(2) الشرائع: 4/ 109.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 76

إنّها أمانة شرعيّة مع عدم التعدّي في التلف.

يلاحظ عليه: أنّ الأمانة الشرعيّة عبارة عن الأخذ بأمر الشارع إذا لم تكن للأخذ فيه المصلحة كاللقطة بخلاف المقام، فإنّه إمّا أمانة مالكية كما إذا أخذه بعنوان الوديعة إذا بقي على تلك النيّة أو مقبوض بالضمان كما إذا قبضه بعنوان التقاص، أو استيلاء على ماله من دون إجازة المالك، كما إذا وقع ماله تحت يده صدفة غاية الأمر أنّ الشارع أذن في الأخذ و التصرّف و لكنّه لا يلازم عدم الضمان لما عرفت من أنّ الإذن في التصرّف أعمّ منه.

و منها؛ أنّه محسن في الأخذ و ما على المحسنين من سبيل.

يلاحظ عليه: أنّ

المفهوم من الآية هو اختصاص المحسن بالصورة التي لا يكون فيها للآخذ المصلحة، قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفٰاءِ وَ لٰا عَلَى الْمَرْضىٰ وَ لٰا عَلَى الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ مٰا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذٰا نَصَحُوا لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 91) و القرينة على ذلك قوله: نصحوا للّه و رسوله أي إذا كان عملهم خالصاً لوجه اللّه و الأخذ للتقاص ابتداءً أو استمراراً ليس عملًا خالصاً.

و من ذلك يعلم قوّة الضمان مطلقاً حتّى في الزائد عن قدر الاستحقاق إذا لم يكن منفصلًا عن مقدار ما يستحق، اللّهمّ إلّا إذا كان الزائد منفصلًا فله حكم الوديعة، إذا اخذهما بنفس العنوان و أمّا التفصيل الرابع فيظهر وهنه ممّا سبق و ذلك لانّ أخذه وديعة في بادئ الأمر لا يؤثر فيما إذا انقلبت نيّته و صارت اليد يداً لصالح الآخذ.

مسألتان
الأولى: ادّعاء ما لا يدَ لأحد عليه

قال المحقق: من ادّعى ما لا يد لأحد عليه قضي له. و المراد قضي له بلا

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 77

بيّنة و لا يمين.

أمّا القضاء بدونهما فلعدم الحاجة إليهما، لأنّ المفروض عدم وجود الخصم و المنازع فينتفي موضوعهما. إنّما الكلام في قوله «قضي له» مع أنّ القضاء أشبه بمثلّث له أضلاع ثلاثة، فإذا لم يكن المنازع موجوداً في المقام فلا تتحقّق أركان القضاء، و على ذلك لا بدّ أن يحمل القضاء على المعنى اللغوي لا الاصطلاحي. و هو أنّه يعامل معه معاملة المالك و الدليل على ذلك هو سيرة العقلاء، فإنّهم متفقون على ذلك إلّا أن تكون هناك ما يثير الظنّ بالكذب، و المراد من قوله: «لا يد عليه» أي لا يد لأحد حتّى المدّعي.

نعم هو بعد ادّعائه يستولي على العين و يعامل معه معاملة المالك. و هذا نظير ما مرّ من أنّه خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات و التناكح و المواريث و الذبائح و الشهادات، فإذا كان ظاهره مأموناً جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه. «1»

مضافاً إلى مرسلة ابراهيم بن هاشم عن بعض أصحابه عن منصور بن حازم عند أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه الف درهم فسأل بعضهم بعضاً أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا و قال واحد منهم: هو لي. فلمن هو؟ قال: «للذي ادّعاه».

و رواه الشيخ عن سنده عن محمّد بن احمد بن يحيى عن محمّد بن الوليد عن يونس عن منصور بن حازم، و السند الأخير صحيح و الرواية، بظاهرها تدلّ على أنّ ادّعاء ما لا يد لأحد عليه يترتّب عليه الأثر و يحكم بأنّه له.

و ربّما نوقش في دلالة الرواية بوجهين:

الأوّل: أنّ وجود الكيس وسط جماعة يكشف عن استيلائهم عليه و هو لا ينفك عن كونه تحت أيديهم.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 78

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر ورود الرواية في جماعة مستطرقة نزلوا من راحلتهم و جلسوا لقضاء حوائجهم فكان الكيس ماثلًا بين أعينهم فمثل ذلك لا يعدّ استيلاء و لا يداً.

الثاني: إنّ ظاهر الرواية أنّ العشرة بأجمعهم قالوا: لا. ثمّ ادّعاه واحد منهم. فهذا يكون إقراراً بعد الإنكار، فلا يقبل فيما إذا كان لصالح نفسه.

يلاحظ عليه: أنّ المقصود من الكل ما عدا المدّعي، و هذا ظاهر لمن أمعن في الرواية، فكأنّه

يقول سألت الجماعة فلم يعترف أحد به غير واحد منهم.

ثمّ إنّ المراد من القضاء بكونه مالكاً هو القضاء المطلق لا الحكم بقيد المراعاة أي لو لم ينازعه أحد في المستقبل يحكم له. و على ذلك فلو نازعه آخر في مستقبل الأمر يكون هو مدّعياً و السابق عليه منكراً لثبوت يده و إن لم نعلم سبب الاستيلاء.

الثانية: إخراج السفينة المكسورة

قال المحقق: لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله «أي لمالكه» و ما أُخرج بالغوص فهو لمخرجه و به رواية في سندها ضعف.

أقول: للرواية سندان، أحدهما معتبر عند الأصحاب و إن كان الراوي عامياً، لعمل الأصحاب بروايات بعض العاميين و هو ما رواه الكليني بسند صحيح عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في حديث عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: «و إذا غرقت السفينة و ما فيها فأصابه الناس فما قذف به البحر على الساحل فهو لأهله و هم أحقّ به و ما غاص عليه الناس و تركه صاحبه فهو لهم». «1»

______________________________

(1) الوسائل: ج 17، الباب 11 من أبواب اللقطة، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 79

و الآخر ما رواه الشيخ عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن أبي عبد اللّه عن منصور بن العباس عن الحسن بن علي بن يقطين عن أُميّة بن عمرو عن الشعيري، قال سُئل أبو عبد اللّه عن سفينة انكسرت في البحر، فأُخرج بعضُها بالغوص و أخرج البحرُ بعضَ ما غرق فيها، فقال: «أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله اللّه أخرجه، و أمّا ما أخرج بالغوص فهو لهم و هم أحقّ به». «1»

و السند ضعيف لأنّ المراد من أبي عبد اللّه

هو محمّد بن أحمد الرازي الجاموراني و قد استثناه ابن الوليد من رجال نوادر الحكمة «2». كما أنّ منصور بن العباس ضعيف.

قال النجاشي: منصور بن العبّاس أبو الحسن الرازي: سكن بغداد و مات بها، كان مضطرب الأمر له كتاب كبير. و مثله أُميّة بن عمرو الشعيري، قال الشيخ في رجاله واقفي و الظاهر أنّ الشعيري لقب الراوي و المروي عنه فإنّ السكوني أيضاً شعيري و كلاهما منسوبان إلى باب الشعير محلّة في بغداد و قيل وجه آخر.

و على ذلك فالسند الثاني لا يحتجّ به بخلاف السند الأول، بقي الكلام في دلالته و قد فسّرت الرواية بوجوه:

1- أنّ المراد أنّ ما أخرجه البحر فهو لأصحاب السفينة، و أمّا ما أخرج بالغوص فهو للغواصين، و هذا هو الظاهر. و لمّا كان هذا المعنى مخالفاً لمقتضى القاعدة لأنّ الأصل بقاء السلطة على المال و المالكيّة له سواء غرقت أم لا. سواء أخرجه الماء أم الغوّاص فما لم يعرض صاحب المال بإنشاء لفظي أو فعلي فهو له، و على ذلك فما أخرجه البحر فهو لصاحبه و ما أخرج بالغوص فهو له أيضاً. غاية الأمر لو أمر المالك الغوّاص بالإخراج فعليه له أجرة العمل، و إلّا فلا يستحق شيئاً.

______________________________

(1) الوسائل ج 17، الباب 11 من أبواب اللقطة. الحديث 2.

(2) النجاشي: الرجال: ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى برقم 940.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 80

2 هذا ما دعى بعضهم إلى إرجاع الضمير في قوله: «فهو لهم» إلى أصحاب السفينة أيضاً.

و لكن هذا التفسير يخالف ظاهر الرواية فإنّ الظاهر أنّها بصدد التفصيل بين المالكين، و أنّ ما أخرجه البحر فهو لمالكه و ما أخرجه الغوص فهو

للغواص لا التفصيل بين إخراج اللّه و إخراج الغير.

3- الأخذ بظاهر الرواية و لكن وجه التفصيل هو وجود إعراض المالكين في القسم الثاني أي ما أخرجه الغوّاص بشهادة ما ورد في الرواية الأولى قوله: «و تركه صاحبه» و على ذلك تكون الرواية موافقة للقاعدة. و ظاهر الحال يؤيد ذلك التفصيل و ذلك لأنّ الأشياء ذات الكثافة القليلة تطفو على سطح الماء بسرعة فيستولي عليها أصحاب السفينة قبل مغادرة محلّ الغرق، و أمّا الأشياء الكثيفة فهي تغطس في البحر، و تخرج بعد مضي زمن يلازم مغادرة أصحاب السفينة موضع الغرق فتختصّ بالغواصين.

هذا هو الحكم الشرعي إلّا أنّ القوانين البحرية العالمية بشكل آخر لا مجال لذكرها في المقام.

إلى هنا تمّ الكلام في المقدمة بفصليها و لندخل الآن في دراسة المقاصد.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 81

مقاصد أربعة

المقصد الأوّل في دعوى الأملاك

اشارة

قد عقد المحقق أبواباً باسم المقاصد، فالمقصد الأوّل يتولّى بيان كيفية القضاء في دعوى الأملاك كما أنّ الثاني يتولّى بيان كيفيّته في الاختلاف في العقود و المعاملات، كما أنّ الثالث يبيّن كيفية حلّ الاختلاف في المواريث، و الرابع منها يتكفّل بيان حلّ الاختلاف في الولد، و إليك الكلام في المقصد الأوّل و فيه مسائل:

[المسألة] الأُولى: لو تنازعا عيناً و لا بيّنة في البين
اشارة

إذا تنازعا في عين فله صور أربع:

1- أن تكون العين في يدهما.

2- أن تكون في يد أحدهما.

3- أن تكون في يد ثالث.

4- أن لا تكون هناك يد أصلًا، كما إذا تنازعا على خاتم سقط في بئر للمستطرقين ينتفع بها المشاة و الركاب.

و هذه الصور في حالة عدم وجود بيّنة و أمّا إذا كانت هناك بيّنة فيأتي فيه الكلام في المسألة الثانية و إليك البحث فيها واحداً تلو الآخر:

أ: أن تكون العين في يدهما

، قال الشيخ في الخلاف: إذا ادّعى نفسان داراً و هما فيها أو الثوب و يدهما عليه، و لا بيّنة لواحد منهما، كان العين بينهما نصفين و به قال الشافعي، إلّا أنّه قال: يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه. دليلنا: إجماع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 82

الفرقة و أخبارهم، و أيضاً روى أبو موسى الأشعري أنّ رجلين تنازعا دابّة ليس لأحدهما بيّنة فجعلها النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بينهما. «1»

إنّ مقتضى قاعدة العدل و الإنصاف كون العين بينهما، و هذه القاعدة مطردة في الفقه و قد ورد النصّ على وفاقها في مورد الودعي إذا أودع رجل عنده دينارين و آخر ديناراً واحداً فاختلطا من غير اختيار فضاع دينار منها فقد جاء النصّ بأنّ لصاحب الدينارين ديناراً و نصفاً و لصاحب الدينار الواحد، نصف دينار «2»، مضافاً الى إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة. «3»

إنّما الكلام في لزوم الحلف و عدمه، فمن صوّر أنّ كلّ واحد من الرجلين مدع من جهة و منكر من جهة أُخرى فقد قال بلزوم الحلف لأنّ الموضوع صغرى لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر، بيانه: أنّ

كلّ واحد من المدّعيين منكر لما بيده من نصف العين و مدّع بالنسبة إلى ما بيد الآخر، و بما أنّ كلّ واحد فاقد للبيّنة تصل النوبة إلى وظيفة المنكر فلكل واحد الحلف بالنسبة لما تحت يده بمعنى نفي دعوى الآخر بالنسبة إليه، و قد قال في المسالك في مقام التعليل: «عملًا بالعموم بل لم ينقل الأكثر فيه خلافاً».

و على هذا فالحلف حلف قضائي يترتّب عليه ما له من الآثار، فلو حلفا أو نكلا ترك المدّعى به في يدهما كما كان، و إن حلف أحدهما دون الآخر قضي للحالف بالكل.

ثمّ إن حلف الذي بدأ الحاكم بتحليفه و نكل الآخر بعده، حلف يميناً ثانياً باسم اليمين المردودة إذا لمنقض بالنكول.

و إن عكس أي نكل الأوّل من أوّل الأمر و رغب الثاني في اليمين فقد

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 1.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 12 من أبواب الصلح، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من أبواب الصلح، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 83

اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادّعاه صاحبه (و هو الحلف الشائع في كلّ منكر). و يمين الإثبات للنصف الذي ادّعاه، فتكفيه يمين واحدة يجمع فيها بين النفي و الإثبات لأنّها بوحدتها جامعة بين اليمينين، فيحلف و يقول لا حقّ له في النصف الذي يدّعيه و النصف الآخر لي.

و احتمال وجوب يمينين مستقلّين إحداهما نافية و الأُخرى مثبتة لتعدّد السبب، المقتضي لتعدّد المسبب مدفوع بأنّ مثلها تنحلّ إلى يمينين فتكفي يمين واحدة.

و هل يتخيّر الحاكم في الابتداء باليمين أو يقرع بينهما؟ وجهان و تظهر الفائدة في تعدّد اليمين على المبتدئ على تقدير نكول

الآخر «1» بخلاف نكول المبتدئ فتكفي يمين واحدة من الآخر، و بما انّ تكليف المبتدئ أكثر من الآخر يقرع بينهما.

هذا التفصيل هو الذي ذكره الشهيد على القول بلزوم الحلف و إلّا فلو قلنا بعدم وجوبه يكون هذا التفصيل فاقداً للموضوع.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر ممّن ناقش في لزوم الحلف ببيان موجز توضيحه: أنّ تصوير كلّ واحد منكراً بالنسبة إلى ما تحت يده، يتوقّف على أن يكون له يد على النصف المشاع كما في الدابّة المركوبة لهما، أو الثوب الذي يلبسانه، و من المعلوم أنّ الاستيلاء على النصف المشاع فرع الاستيلاء على الكلّ حتّى يكون له استيلاء على نصف كلّ جزء من أجزاء العين، و استيلاء كلّ واحد منهما على الكلّ بهذا النحو يجعل كلًا منهما متداعياً لا مدّعياً و منكراً. و إلى ذلك يشير صاحب الجواهر بقوله: «ضرورة عدم تعقّل كون اليد على النصف المشاع إلّا بكونها على العين أجمع في كلّ منهما، و حينئذ فلا مدّعي و لا مدّعى عليه منهما، ضرورة تساويهما في ذلك إلى أن قال: و منه يظهر عدم كون كلّ منهما مدّعياً لنصف الآخر

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 434

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 84

و مدّعى عليه في نصفه كي يتوجّه التحالف بل المتّجه إلغاء حكم يد كلّ منهما بالنسبة إلى تحقّق كونه مدّعى عليه، و يكون كما لو تداعيا عيناً لا يد لأحد عليها و لا بيّنة لكلّ منهما فانّ القضاء حينئذ بالحكم بينهما لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذّر إعماله في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على سبب واحد.

يلاحظ عليه؛ بأنّه يتمّ فيما لا يمكن

التقسيم كالدابّة و الثوب فإنّ الاستيلاء على النصف المشاع لا يتحقّق إلّا بالاستيلاء على جميع المبيع و هذا ينتج خلاف المطلوب أي يجعلهما متداعيين، و أمّا بالنسبة إلى العين القابلة للتقسيم كالدار ذات الطابقين، إذا سكن كلّ في طابق خاص فثبوت اليد على النصف لا يتوقّف على الاستيلاء على الجميع.

و الأولى في نفي وجوب الحلف بادّعاء انصراف الروايات إلى ما كانت اليد مستقلّة بالنسبة إلى الكلّ كما إذا كانت اليد لواحد دون الآخر. و أمّا إذا كانت اليد يداً غير مستقلّة كما هو المفروض فشمول روايات الباب بالنسبة إليه بعيد، و مقتضى الأصل العملي عدم الحلف مضافاً إلى ما رواه الشيخ عن قضاء النبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، و مع ذلك فالحكم القضائي بالتنصيف في المقام لا يتحقق إلا باليمين أخذاً بالنبوي: «إنّما أقضي بينكم بالأيمان و البيّنات» فإن لم تتحقق الثانية فلا محيص عن الأولى، فالحكم بالتنصيف حكم قضائي لا بدّ من الاستناد إلى إحداهما.

ب: إذا كانت اليد لأحدهما دون الآخر

قضي بها للمتشبّث مع يمينه إن اتّهمه الخصم و هو أظهر أفراد قاعدة: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر».

ج: و لو كانت في يد ثالث و يدهما خارجة عنها
اشارة

لهذه الصورة الأصلية الثالثة أقسام:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 85

1- صدّق من في يده أحدَهما.

2- صدّق من في يده كليهما.

3- إذا كذّبهما و قال لي، لا لكما.

4- إذا قال هي لأحدكما و لا أعرف صاحبه عينه.

5- ليست لي و لا أعرف صاحبها.

فإليك دراسة الأقسام:

أمّا القسم الأوّل: [أي إذا صدق من في يده أحدهما]

إذا قلنا بنفوذ إقراره، يصير المقرّ له بالإقرار، كذي اليد، فيدخل هذا القسم، تحت الصورة الثانية الأصلية أي إذا كانت لأحدهما يد، دون الآخر و ليس هذا الإقرار، إقراراً على الغير، إذ لم يثبت له حقّ، حتّى يكون الإقرار على ضرره، بل هو إقرار على النفس لصالح الآخر و الفرق بين الاستيلاءين بكونه في الثانية سابقاً على الدعوى، و في المقام متأخّراً عن الدعوى غير مؤثّر لأنّ الأخذ بالإقرار يجعله كذي اليد، فيكون منكراً و المقرّ عليه مدّعياً، و يخرج المقِرّ عن كونه طرفَ الدعوى فيجري ما ذكرناه في ثانية الصور، من أنّ لمن ليس له اليد، إحلافَ من له اليد.

و إن شئت قلت: إنّ المقام عندئذ أشبه بالقضاء بشاهد (المقرّ) و يمين، أي يمين المقرّ له.

نعم للمقرّ عليه إقامةُ دعوى أُخرى على المقِرّ إذا اتّهمه بأنّه مع علمه بأنّ العين له، أقرّ للآخر و له إحلافه على ذلك، و لو نكل يغرم قيمة العين له.

أمّا القسم الثاني: أي إذا صدّق من بيده العين كليهما

فيدخل في الصورة الأُولى الأصليّة أي إذا كانت لهما يد على العين فيجري فيه ما ذكرناه فيها من التنصيف. عملًا بقاعدة العدل و الانصاف، و أمّا إحلاف كلّ منهما الآخر، فقد عرفت انصراف أدلّة لزوم حلف المنكر من مثل المورد، لما مرّ من انصرافه إلى ما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 86

إذا كانت يد المنكر يداً مستقلّة، لا غير تامّة. و مع ذلك كلّه فالحكم القضائي لا بدّ أن يستمدّ من أحد الأمرين اليمين و البيّنة و بما أنّ المفروض فقدان الثانية فلا محيص عن اليمين.

و أمّا القسم الثالث: أعني إذا كذّبهما

، أُقرّت في يده لوجود اليد، و عليه الحلف لهما لكونهما مدّعيين و هو المنكر فإن حلف فهي له.

و أمّا إذا نكل: فإذا ردّ اليمين عليهما و حلفا، يكون كما إذا كان لهما يد على العين فيحكم بتنصيف العين و أمّا إذا حلف أحدهما دون الآخر فيحكم له و لو نكلا تترك العين عند ذي اليد، لعدم وجود الدليل على خلافه من البيّنة و الحلف، فما في الجواهر من أنّه لو نكلا اقتسماه «1» غير تامّ.

و أمّا القسم الرابع، أعني ما إذا قال: هي لأحدهما و لا أعرف صاحبه بعينه،

فهنا احتمالان:

1- الإقراع بين المدّعيين لتمييز المالك عن غيره و هو خيرة العلّامة في القواعد قال: «قرع بينهما لتساويهما في الدعوى و عدم البيّنة» فمن خرجت القرعة باسمه حلف للآخر و كانت له.

2- العمل بقاعدة العدل و الانصاف، و الحكم بالتنصيف و لعلّ الثاني أظهر و تؤيده رواية السكوني عن علي عليه السَّلام في رجل أقرّ عند موته لفلان و فلان لأحدهما عندي ألف درهم ثمّ مات على تلك الحال فقال علي عليه السَّلام: «لو أقام البيّنة فله المال و إن لم يُقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان». «2»

و أمّا القسم الخامس: أعني ما إذا قال ليست لي و لا أعرف صاحبها،

فتخلع

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 409.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 25 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 87

يده عنها، و استيلائهما عليها، يدخلها تحت الصورة الأُولى، أعني ما إذا ادّعيا عيناً و لهما يد فيحكم بالتنصيف. و يمكن القول بالحلف فأيّهما حلف فهو له و إن حلفا يجعل بينهما نصفين أخذاً بمعتبرة إسحاق بن عمّار «1» فإنّها و إن وردت فيما إذا كانت لكلّ بيّنته لكن لو قلنا بتساقطهما يكون المقام من مواردها أيضاً لأنّ وجودهما و عدمهما سواء عندئذ فيكون الحكم الوارد فيهما عاماً للموردين. فلاحظ.

د: بقي الكلام في الصورة الرابعة أعني ما إذا لم يكن تحت يد واحد منهما

فهل المرجع هو الحلف كما في صحيح اسحاق بن عمّار أو الإقراع كما في المرسل عن أمير المؤمنين؟ و سيوافيك بيانه في الصورة الرابعة للمسألة الثانية فانتظر.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 88

المسألة الثانية في تعارض البيّنات
اشارة

الثانية: قال المحقّق: يتحقّق التعارض في الشهادة ....

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدِّم أُموراً:
الأوّل: ما هو الملاك لحجّية البيّنة؟

البيّنة حجّة لأجل كونها طريقاً إلى الواقع و إنّما تتّصف بها إذا لم يكن لها معارض، كما هو الحال في الخبرين، فقول الثقة طريق إلى الواقع بشرط أن لا يعارضه قول ثقة آخر فالتعارض و إن كان غير مناف للطريقة الشأنية لكنّه لا يجتمع مع الطريقة الفعلية، فلذلك صار الأصل في المتعارضين التساقط و عدم الأخذ بهما و لا بواحد من الخبرين أو البيّنتين.

غير أنّه تضافرت الروايات على حجّية خبر الواحد عند التعارض إمّا بترجيح أحدهما على الآخر بنحو من المرجّحات أو بالتخيير بينهما عند عدم المرجّح فلولا روايات الترجيح و التخيير لكانت القاعدة المحكّمة في المتعارضين منه هي التساقط.

و مثله البيّنة فهي طريق فعلي لو لا التعارض، و معه ليست طريقاً فعلياً، و أمّا الطريق الشأني بمعنى كونها طريقاً لو لا المعارض فهو و إن كان ثابتاً لكنّه ليس بمجد.

و على ضوء ذلك فالضابطة في تعارض البيّنات هي التساقط، غير أنّ السنّة أمرت بإعمالها بنحو من الأنحاء التالية:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 89

أ. إمّا بالأخذ بأرجح البيّنتين من حيث العدد و العدالة.

ب. أو بإعمالهما بمعنى الأخذ بمضمونها حسب الإمكان و إن كانت إحداهما أرجح من الأُخرى مثل صورة التعادل.

ج. أو بإعمال بيّنة الداخل، أي البيّنة الموافقة لقول ذي اليد و إهمال البيّنة المخالفة.

د. أو بإعمال بيّنة الخارج، أي الأخذ ببيّنة من ليست له يد و إهمال الأُخرى.

ه. أو القرعة، بين المدّعيين، فمن خرج اسمه تؤخذ بيّنته، و تهمل الأُخرى.

و لكلّ من هذه الأنحاء التي تريد حفظ حجّية البيّنة موارد خاصّة تمرّ عليك فإنّ موارد الأخذ بأرجح البيّنتين أو الأخذ بهما

بقدر الإمكان غير مورد الأخذ ببيّنة الداخل أو الخارج، كما أنّ مورد القرعة غير مورد الأربعة، و الذي تجمعهم تحت مظلّة واحدة، محاولة الأخذ بالبيّنة بنحو من الأنحاء صيانة لها عن التساقط.

الثاني: في أنّ مورد الروايات، الأعيان الشخصيّة.

الروايات الدالّة على إعمال البيّنتين مختصّة بما إذا كان النزاع في الأعيان الشخصيّة، لا في الذمم و العقود و غيرهما. غير أنّ الفقهاء أهملوا هذه الجهة التي نحن بصدد التركيز عليها فأخذوا بإطلاقها و وقعوا في حيص و بيص، فجاءت الفتاوى مخالفة للفطرة السليمة و الأحكام العرفية التي يميل إليها الإنسان بصفاء فكره.

و لأجل أن يكون الادّعاء مدعماً بالبرهان، نذكر في صدر البحث مجموعَ ما ورد حول تعارض البيّنات، و الغرض من سردها الأُمور التالية:

أ. الإحاطة بالروايات بمجموعها قبل الخوض في الفروع، لتكون مقدّمة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 90

للإحاطة بأحكام الصور. حتّى يقيّد إطلاق بعضها بالقيد الوارد في بعضها الآخر من حيث الترجيح أوّلًا، و اعتبار الحلف ثانياً، و الحاجة إلى القرعة ثالثاً فلا يعرف ذلك إلّا بالوقوف على الأحاديث دفعة واحدة.

ب. دراسة الروايات من الزاوية التي نحن بصدد بيانها و هي أنّ مورد الكلّ هو الأعيان الشخصية لا الذمم و العقود و غيرهما، بل يجب في غير الأعيان الشخصية عرض المسألة على القواعد العامّة في باب القضاء و هو التحالف في التداعي و انفساخ العقد، و اليمين في التنازع أي في المدّعي و المنكر.

و النتيجة هو إهمال البيّنتين في مورد التداعي و التنازع، إلّا إذا كان النزاع في الأعيان الشخصية.

ج. الإيعاز إلى بعض التعارض الموجود بين الروايات و إليك سردها:

1- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن الرجل يأتي القوم فيدَّعي

داراً في أيديهم و يُقيم البيّنة و يقيم الذي في يده الدار، البيّنةَ أنّه ورثها عن أبيه و لا يدري كيف كان أمرها، قال عليه السَّلام: «أكثرهم بيّنة يُستحلف و تدفع إليه، و ذكر أنّ عليّاً عليه السَّلام أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مِذْودهم و لم يبيعوا و لم يهبوا، (و أقام هؤلاء البيّنة أنّهم انتجوها على مِذْودهم لم يبيعوا و لم يهبوا) فقضى عليه السَّلام بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم». قال: فسألته حينئذ فقلت: أ رأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنّ أبي هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، و لم يقم الذي هو فيها بيّنة إلّا أنّه ورثها عن أبيه، قال: «إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها و أقام البيّنة عليها». «1»

ترى أنّ مورد الرواية هو الدار الشخصية و قد تعارضت فيها البيّنتان فأمر

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، و أكثر ما سيمرّ بك من الأحاديث فهو من هذا الكتاب، و من هذا الجزء و الباب، و لذلك نختصر غالباً بالاشارة إلى الباب و رقم الحديث فقط. و ما بين القوسين يختلف لفظاً عمّا في الوسائل.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 91

الإمام بالأخذ بأرجح البيّنتين في الموردين.

2- خبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «إنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السَّلام في دابّة في أيديهما و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده فاحلفهما علي عليه السَّلام فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلِف، فقضى بها للحالف فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و

أقاما البيّنة؟ فقال: أحلفهما فأيّهما حلفَ و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين، قيل: فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده». «1»

إنّ الإمام حكم فيها بأحكام مختلفة حسب اختلاف الفروض، و لكن موضوع الجميع هو الدابّة التي هي من الأعيان الشخصية.

3- خبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام اختصم إليه رجلان في دابّة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها فقضى بها للذي في يده و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين». «2»

فالرواية تحمل حكمين، فتارة تحكم بالأخذ بإحدى البيّنتين و أُخرى بكلّ واحدة منهما، و النزاع في الدابّة الشخصيّة.

4- خبر جابر: «إنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه في دابّة فأقام كلّ منهما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لمن هي في يده». «3»

فالنبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أمر بأخذ بيّنة الداخل عند التعارض و النزاع في عين شخصية.

5- خبر منصور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: رجل في يده شاة فجاء رجل

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(3) المستدرك، ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5، رواه غوالي اللئالي، ج 3، ص 526، الحديث 31. و رواه في سنن البيهقي: 10/ 256.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 92

فادّعاها فأقام البيّنة العدول إنّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع، و جاء الذي

في يده بالبيّنة مثلهم عدول، إنّها ولدت عنده و لم يَبع و لم يَهب. فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «حقّها للمدّعي و لا أقبل من الّذي في يده بيّنة، لأنّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي فإن كانت له بيّنة و إلّا فيمين الذي هو في يده هكذا أمر اللّه عزّ و جلّ». «1»

ترى أنّ الإمام حكم بتقديم بيّنة الخارج خلافاً لحديث جابر، و الّذي يهمّنا تعيين موضع النزاع و هو الشاة المعيّنة.

6- المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان، أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلَت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، و إن كان في يدي أحدهما فإنّما البيّنة فيه على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه. «2»

فقد حكم الإمام هنا بأحكام ثلاثة حسب اختلاف الفروض، و موردها عين شخصيّة بقرينة كونها بيديهما أو بيد أحدهما.

7- الرضوي عليه السَّلام: «فإذا ادّعى رجل على رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره و أقام بذلك بيّنة و أقام الذي في يده شاهدين فإنّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلى المدّعي لأنّ البيّنة عليه». «3» و سيوافيك ذيله برقم 14.

و ظهور الرواية في كون النزاع في عين شخصية غير خفي، و مثله الخبر التالي.

8- خبر تميم بن طرفة: إنّ رجلين ادّعيا بعيراً فأقام كلّ واحد منهما بيّنة فجعله أمير المؤمنين عليه السَّلام بينهما. «4»

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.

(2) النوري، مستدرك الوسائل: ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) النوري،

المستدرك: ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(4) الوسائل: ج 18، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 93

و هناك روايات تؤكّد بالقرعة، و سوف نحدّد موردها، و لكنّها بين خبر مجمل لا يحتج بإطلاقه و بين وارد في الأعيان الشخصية. و إليك ذلك القسم من الروايات و هي ثمان:

9- خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «كان علي عليه السَّلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود، عدلهم سواء و عددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين» إلى أن قال: ثمّ يجعل الحقّ للذي تصير عليه اليمين إذا حلف». «1»

الرواية ليست بصدد بيان موضوع القرعة حتّى يتمسك بإطلاقها، بل هي بصدد بيان أنّ من شرائط القرعة مساواة العدول عدالة و عدداً، و أمّا أنّ القرعة في الأعيان الشخصية أو العقود و الذمم فليس بصدد بيانها.

10 موثقة سماعة: أنّ رجلين اختصما إلى علي عليه السَّلام في دابّة فزعم كلّ واحد منهما انّها نتجت على مِذوده و أقام كلّ واحد منهما بيّنة سواءً في العدد فأقرع بينهما سهمين فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة ثمّ قال: «اللّهمّ ربّ السَّماوات السبع و ربّ الأرضيين السبع و ربّ العرش العظيم عالم الغيب و الشهادة الرّحمن الرّحيم أيّهما كان صاحب الدابة و هو أولى بها فأسألك أن يقرع و يخرج سهمه» فخرج سهم أحدهما فقضى له بها. «2»

و الرواية واردة في الدابّة و هي عين شخصية.

1- 1 رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهدين شهدا على أمر واحد و جاء آخران فشهدا على غير الذي

شهدا عليه و اختلفوا قال عليه السَّلام: «يقرع بينهم فأيّهم قرع، فعليه اليمين و هو أولى بالقضاء». «3»

و لا يغرّنك لفظ «على أمر واحد» فإنّه وارد على لسان الراوي لا الإمام عليه السَّلام،

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 12.

(3) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 94

و على كلّ تقدير ليس السائل و المسئول بصدد بيان هذا الجانب، و إنّما يريد السائل معرفة حلّ مشكلة المتعارضين فأشار الإمام إلى القرعة، و من يصار إليه اليمين و أمّا ما محلّها فهل هو الأعيان الشخصية أو يعمّ العقود و الذمم؟ فليس بصدد بيانه. و منها يظهر حال صحيح الحلبي التالي.

2- 1 صحيح الحلبي سئل أبو عبد اللّه عن رجلين شهدا على أمر و جاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا قال: «يقرع بينهم فأيّهم قرع فعليه اليمين و هو أولى بالحقّ». «1» فالرواية بصدد بيان من يصار إليه اليمين.

3- 1 رواية زرارة عن أبي جعفر قال قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، و جاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم، كلّهم شهدوا في موقف. قال عليه السَّلام: «أقرع بينهم ثمّ استحلف الّذين أصابهم القرع باللّه إنّهم يحلفون بالحقّ». «2»

و الظاهر أنّ الرجل كان ودعيّاً و النزاع في مقدار الدراهم المودوعة، فيرجع النزاع إلى الأعيان الشخصية.

4- 1 الرضوي عليه السَّلام: «فإن لم يكن الملك في يدي أحد و ادّعى فيه الخصمان جميعاً فكلّ من أقام عليه شاهدين فهو أحقّ به، فإن

أقام كلّ واحد منهما شاهدين فانّ أحقّ المدّعيين من عُدِّل شاهداه، فإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهوداً يحلف باللّه و يدفع إليه الشي ء». «3»

5- 1 خبر عبد اللّه بن سنان: قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى عليّ عليه السَّلام فزعم ... إلى آخر ما في موثّقة سماعة التي مرّت برقم (10) بتفاوت يسير، ثمّ قال: و كان أيضاً إذا اختصم إليه الخصمان في جارية فزعم

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 11.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 7.

(3) النوري، المستدرك، ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4 و قد مرّ صدر 5 برقم 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 95

أحدهما أنّه اشتراها و زعم الآخر أنّه أنتجها فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى به للذي انتجت عنده». «1»

و كون مورد الرواية عيناً شخصيّة لا يقبل الإنكار.

6- 1 مرسلة داود العطار عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان و جاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان فاعتدل الشهود و عدلوا. فقال عليه السَّلام: «يقرع بينهم فمن خرج سهمه فهو المحقّ و هو أولى بها». «2»

و هذه الروايات الثمان الواردة في العمل بالقرعة عند تعارض البيّنتين لا تتجاوز عن كون محلّها هو النزاع في الأعيان الشخصية.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي قد سلّم أنّ عنوان المسألة في كلمات العلماء في تعارض البيّنتين هو النزاع في الأعيان و قال: و هو مورد غالب الأخبار إلّا أنّ الظاهر أنّ الحكم

في غير الأعيان أيضاً كذلك كما إذا تنازعا في دين خاص معيّن من جميع الجهات أو تنازعا في أنّ الموصي أوصى بمائة دينار مثلًا لزيد أو لعمرو أو تنازعا في منفعة ملك أو في حقّ من الحقوق كالتولية للوقف و حقّ الرهن و حقّ الخيار أو تنازعا في نكاح أو طلاق أو نحو ذلك لظهور الأخبار في المثالية كصحيحة الحلبي و خبر داود بن سرحان و خصوص بعضها في الدين كخبر زرارة و بعضها في الزوجيّة كخبر داود العطّار و اختصاص جملة منها بالأعيان من حيث المورد لا يقتضي اختصاص الحكم بها و إلّا فاللازم تخصيص كلّ بخصوصه من البقرة أو الدابّة أو الجارية أو نحو ذلك، فالحكم في الجميع واحد في العمل بالمرجّح و مع فقده فالقرعة ثمّ الحلف. «3»

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 8.

(3) السيّد الطباطبائي، الملحقات: 2/ 158.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 96

يلاحظ عليه: أنّ قياس النزاع في العقود و النسب و المواريث بالنزاع في الأعيان قياس ممنوع، و ما ادّعى من الإطلاق في الأخبار غير واضح.

أمّا صحيحة الحلبي فقد عرفت أنّها ليست في مقام البيان من حيث سعة الموضوع و ضيقه و إنّما هو بصدد بيان استخراج من يصار إليه الحلف، و منه يظهر حال خبر داود بن سرحان حرفاً بحرف، فلاحظ ما ذكرنا.

و أمّا خبر زرارة فمورده هو الودعي لا الدين و لا أقلّ أنّ الأوّل هو المحتمل مثل الدين.

و أمّا خبر داود العطار فالنزاع فيه في العين الخارجية و الزوجيّة المعيّنة.

ثمّ إنّ صاحب المستند قد اختار

ما اخترناه و لكنّه عالج التعارض في غير الأعيان برفض بيّنة المنكر و العمل ببيّنة المدّعي، قال: «إنّ جميع الأخبار المتضمّنة لسماع بيّنة المنكر أيضاً و مزاحمتها لبيّنة المدّعي كانت مخصوصة بالأعيان من الأموال فلا أثر لها في غيرها إلى أن قال: فمورد التعارض الواقع في غير الأعيان إن كان ممّا يكون أحدهما مدّعياً و الآخر منكراً تطرح بيّنة المنكر و يعمل بمقتضى بيّنة المدّعي». «1»

و لكن سيوافيك أنّ بيّنة المنكر كبيّنة المدّعي حجّة جنباً إلى جنب فمقتضى القاعدة تساقطهما و الرجوع إلى الضوابط القضائية.

الثالث: في بعض الروايات الشاذة:

إنّ في المقام روايات و قد عالج الإمام عليه السَّلام فيهما تعارض البيّنتين بشكل غير ما ورد من الأنحاء الخمسة من الأخذ بأرجح البيّنتين أو التنصيف أو الأخذ ببيّنة الداخل أو بيّنة الخارج، أو العمل بالقرعة، و إليك الروايتين الخارجتين عن ذلك

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 558.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 97

الإطار، و لكن جميعها ورد في إطار خاص و هو النزاع في الأعيان الشخصية.

7- 1 خبر السكوني عن الصادق عليه السَّلام عن أبيه عليه السَّلام عن آبائه عليهم السَّلام: «إنّ عليّاً عليه السَّلام قضى في رجلين ادّعيا بغلة فأقام أحدهما شاهدين و الآخر خمسة فقال عليه السَّلام: لصاحب الخمسة خمسة أسهم و لصاحب الشاهدين سهمين». «1» و المضمون مناف لما دلّ على الترجيح بالأكثرية فيطرح للإعراض إلّا عن أبي علي الإسكافي.

8- 1 ما عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام «في رجل ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بوليّ و شهود و أنكرت المرأة ذلك، فأقامت أُخت هذه المرأة على رجل آخر البيّنة أنّه تزوّجها بوليّ و شهود و لم يوقتا وقتاً، إنّ البيّنة بيّنة

الزوج، و لا تقبل بيّنة المرأة لأنّ الزوج قد استحقّ بضع هذه المرأة و تريد أُختها فساد النكاح فلا تصدق و لا تقبل بيّنتها إلّا بوقت قبل وقتها أو دخول بها». «2»

الرابع: في وجود التعارض الصريح بينها
اشارة

لا يخفى وجود التعارض بين الروايات و نشير إلى موردين:

1- فيما إذا كانت العين بيدهما

مقتضى معتبرة إسحاق أنّه يقضي للحالف، مع أنّ مقتضى رواية ابن طرفة و المرسل أنّها بينهما.

2- فيما إذا كانت العين بيد أحدهما

ففي حديث إسحاق و خبر جابر و غياث أنّه يقضي لصاحب اليد مع أنّ

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 10.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 98

مقتضى خبر منصور و المرسل و الرضوي الأوّل أنّه يقضى لغيره. و أمّا الاختلاف من حيث الإطلاق و التقييد فحدِّث عنه و لا حرج.

و على كلّ تقدير، الروايات الواردة في المقام مشوشة جدّاً كفتاوى العلماء، غير أنّك بفضله سبحانه تقف على رفع التعارض عند دراسة الصور.

الخامس: في صور المسألة

إنّ صور المسألة أربع لأنّ العين إمّا أن تكون في يدي المتداعيين، أو بيد أحدهما، أو بيد ثالث، أو لا يد عليها. و أقام كلّ واحد البيّنة. و الحقّ أنّ المسألة من عويصات الفنّ و قد ألّف بعضهم رسالة خاصّة و المقصود من التعارض ما إذا كانت البيّنتان على وجه لا يمكن الجمع بين مضمونيهما كأن تشهد إحداهما أنّ العين ملك لزيد، و الأُخرى على أنّها ملك لعمرو كذلك، بخلاف ما إذا شهدت الأُولى بأنّها كانت ملكاً لزيد أمس، و الثانية بأنّها ملك لعمرو الآن لعدم المنافاة في المضمون بعد كون الزمان متغايراً

إذا عرفت ذلك فلنشرع في بيان أحكام الصور:
الصورة الأُولى: إذا كانت العين بيدهما و لكلّ بيّنة
اشارة

ذهب المشهور من فقهائنا إلى أنّه يقضي بها بينهما نصفين، من دون إقراع و لا ترجيح بكثرة العدالة و العدد. قال ابن فهد: و أكثر المتأخرين لم يذكروا هذين المرجّحين إلّا في القسم الثالث أعني: خروج أيديهما. «1»

و قال في المسالك: إذا تعارضت البيّنتان و كانت العين في يدهما لا إشكال في الحكم بينهما نصفين لكن اختلف في سببه. «2»

______________________________

(1) ابن فهد الحلي: المهذّب: 4/ 493.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 443.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 99

و قال في الجواهر في شرح قول المحقّق: «يقضي بينهما نصفين» من دون إقراع و لا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية بلا خلاف أجده بين من تأخّر عن القديمين: الحسن و أبي علي «1» بل صرّح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجّحات الآتية في غير هذه الصورة. «2»

و قال السيّد الطباطبائي: الأشهر التنصيف سواء تفاوتت البيّنتان عدالة و عدداً أم اختلفتا و عن المفاتيح بلا خلاف و عن بعضهم الرجوع إلى المرجّحات من الأكثرية أو الأعدلية و عن

بعضهم: الحاجة إلى الحلف أيضاً. «3»

هذا هو القول المشهور و قد خالفه القديمان و الصدوق و المفيد.

و هؤلاء خالفوا إمّا بالرجوع إلى القرعة، كما هو الظاهر من العمّاني أو بالرجوع إلى المرجّح كما هو الظاهر من الثلاثة الأخيرة و إليك نصوصهم:

1- قال ابن أبي عقيل بالقرعة بينهما و هي لكلّ أمر مشكل لأنّ التنصيف تكذيب للبيّنتين. «4»

2- قال ابن الجنيد: إذا ساوت البيّنتان من حيث الوصف (العدالة) و العدد يطلب من المدّعيين فإن حلف أحدهما استحقّ الجميع و إن حلفا اقتسماها و إذا اختلفتا من حيث العدالة و الأكثرية يقرع فمن أخرجته القرعة حلف و أخذ العين. 5

3- و قال الصدوق: فإن أقام كلّ واحد منهما البيّنة فإنّ أحقّ المدّعيين من

______________________________

(1) كان عليه أن يضيف إليهما الصدوق و المفيد كما سيظهر.

(2) الجواهر: 40/ 410.

(3) السيّد الطباطبائي: ملحقات العروة: 2/ 156155.

(4) 4 و 5 مختلف الشيعة، كتاب القضاء، الفصل الثامن، المسألة الأُولى، 141، و قد لخّصنا عبارة القديمين.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 100

عدل شاهداه و إن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهوداً. «1»

4- و قال المفيد: إذا تنازع نفسان في شي ء إلى أن قال: و إن رجّح بعضهم على بعض في العدالة حكم لأعدلهما شهوداً ... و إن كان لأحدهما شهود أكثر عدداً حكم لأكثرهما شهوداً. «2»

و ليعلم أنّ استنباط المخالفة من كلامهم مبنيّ على الأخذ بإطلاق كلامهم الشامل للصورة الأُولى التي نحن بصدد بيان حكمها و إلّا فلا تظهر منهم المخالفة و لعلّ كلامهم في غير هذه الصورة.

الاستدلال على قول المشهور
اشارة

إنّ الاعتماد على هذا القول يتوقّف على إثبات أُمور:

الأوّل: ما هو السبب للحكم بالتنصيف؟

الثاني: عدم الرجوع إلى سائر المرجّحات كالأكثرية

عدداً أو عدالة أو القرعة و سائر المرجّحات التي سترد عليك عند البحث عن الصورة الثانية من كون الشهادة على الملك المطلق أو السبب.

الثالث: عدم الحاجة إلى اليمين.

و إليك بيان الأُمور الثلاثة:

أمّا الأوّل: [ما هو السبب للحكم بالتنصيف؟]

فالحكم بالتنصيف لأجل أحد الأُمور التالية:

1- تساقط البيّنتين بسبب التساوي بقي الحكم كما لو لم تكن هناك بيّنة و هذا هو الأقوى عندي كما سيظهر آخر البحث.

______________________________

(1) الصدوق، المقنع، 133، باب القضاء و الأحكام.

(2) المفيد، المقنعة، 114، باب كيفية سماع القضاء، البينات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 101

2 حجيّة بيّنة الداخل دون بيّنة الخارج أو ترجيح بيّنة الداخل على بيّنة الخارج باليد.

3- حجّية بيّنة الخارج دون بيّنة الداخل، لأنّ البيّنة للمدّعي لا للمنكر، و كلّ منهما مدّع بالنسبة إلى ما في يد الآخر فيقضي لكلّ بما في يد الآخر أخذاً ببيّنة المدّعي و طرحاً ببيّنة المنكر.

و النتيجة على الجميع و إن كانت واحدة، لكن الثمرة تظهر في اليمين فلو قلنا بالأوّل أي تساقط البيّنتين، فلا بدّ لكلّ من يقضى له، من اليمين، لأنّ الدعوى لا تحسم إلّا بالبيّنة أو باليمين فإذا طرحت الأُولى فلا محيص عن الثاني، فيحلف كلّ على الآخر. و هذا بخلاف الأخيرين لأنّ القضاء عليهما بالبيّنة، إمّا ترجيحاً لبيّنة الداخل على الخارج أي ترجيحاً لاحدى البيّنتين على الأُخرى، أو طرحاً لبيّنة الداخل بناء على عدم حجّية بيّنة الداخل (المنكر) في مقابل حجّية الخارج (المدّعي).

و قد ذكر المحقّق الأردبيلي مباني التنصيف في هذه الصورة و قال: لا إشكال حينئذ في التقسيم بينهما نصفان، إنّما الإشكال في سببه فيحتمل أن يكون سببه تعارضَ البيّنات و تساقطها فيكون (لكلِّ واحد) ما كان في يديهما و لا بيّنة، فيحلف

كلّ واحد للآخر بالنفي، و يدفع خصمه عمّا في يده، فيبقى ذلك له بيمينه.

و يحتمل أن يكون السبب تقديم بيّنة ذي اليد، فيرجّح كلّ واحد على الآخر بما في يده بسبب البيّنة و اليد فلا يمين.

و يحتمل أن يكون كلّ واحد خارجاً بالنسبة إلى ما في يد الآخر و معه البيّنة فيكون القول قوله، مثل من كان له بيّنة على ذي اليد و لا يمين حينئذ أيضاً و ظاهر كلامهم و هو الظاهر أيضاً مع قطع النظر عن الأخبار عدم اليمين و كون الحكم مستنداً إلى التساوي إذ لكلّ واحد يد و بيّنة فالعقل يحكم بالتساوي لعدم الترجيح و لا يمين، فإنّ اليمين في عرف الشرع، إنّما هي مع عدم البيّنة و بدونها

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 102

نادرة في صورة مخصوصة و ليس هذه منها. «1»

و مع ذلك كلّه فالظاهر أنّ السبب هو تساقط البيّنتين، لا ترجيح بيّنة الداخل أو تقديم الخارج على الآخر و ذلك لوجهين:

1- إنّ يد كلّ منهما على الكلّ لا على النصف، فما دلّ على تقديم بيّنة الخارج أو الداخل فيما إذا كان لأحدهما يد دون الآخر لا في مثل المقام الذي لكلّ يد على الجميع غاية الأمر يد غير مستقلّة أي لها معارض، و على ضوء هذا، فبيّنة كلّ من المدّعيين بالنسبة إلى العين بيّنة الداخل.

2- إنّ كلًّا من البيّنتين يشهد على كون المجموع لصاحبها، فالعمل بها في النصف ليس عملًا ببيّنة الداخل أو الخارج، و هذا يكشف عن أنّ السبب، هو تساقط البيّنتين و رجوع الصورة إلى ما إذا لم يكن لأحدهما بيّنة، التي تسالم القول فيها بالحكم بالتنصيف. كما حقق في

محلّه

هذا كلّه حسب القواعد، و تدلّ على الحكم بالتنصيف عدّة روايات:

1- إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: هما بيني و بينك فقال: «أمّا الّذي قال هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، و أنّه لصاحبه و يقسم الآخر بينهما». «2» و كون الدرهمين تحت يدهما واضح و إطلاقه يعمّ ما إذا كان لهما بيّنة أو لم يكن خصوصاً لو قلنا بأنّ السبب هو سقوط البيّنتين فتكون الصورة داخلة تحت الخبر حقيقة أو حكماً.

2- إطلاق مرسل محمّد بن أبي حمزة عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام نحوه. 3

______________________________

(1) المحقق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 228. و ما بين القوسين (لكلّ واحد) إضافة منّا للايضاح.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 1 و اوعز إلى المرسل في ذيل الحديث.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 103

3- صريح رواية ابن طرفة: إنّ رجلين ادّعيا بعيراً فأقام كلّ منهما بيّنة فجعله علي عليه السَّلام بينهما. «1»

4- و مفهوم خبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام اختصم إليه رجلان في دابّة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه انتجها فقضى للذي في يده و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين». 2

وجه الاستدلال: إنّ لقوله: «لو لم تكن في يده» حالتين، أن لا يكون لهما يد أبداً، أو كان لكليهما يد. كما هو المفروض في المقام.

5- المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام

أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان، أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان و إن كان في يدي أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه. 3

6- رواية السكوني عن الصادق عن أبيه عليهما السَّلام في رجل استودع رجلًا دينارين فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها، قال: «يعطي صاحب الدينارين ديناراً و يقسّم الآخر بينهما نصفين. 4 وجه الاستدلال أنّ يد الودعي، يد المودعين فكأنَّ لكلّ واحد يداً على الدينار بضميمة ترك الاستفصال عن إقامة البيّنة و عدمها.

و هذه الروايات الست و إن كانت بعضها خاضعة للنقاش من إنكار الإطلاق، لكن المجموع من حيث المجموع كاف في إثبات الحكم بالتنصيف.

و قال في الجواهر 5 مضافاً إلى إطلاق النبوي و لو كان مراده من النبوي ما

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4، 3.

(2) 3 الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4، 3.

(3) 4 الوسائل: الجزء 13، الباب 12 من أحكام الصلح، الحديث 1.

(4) 5 الجواهر: 40/ 413.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 104

نقله في ص 421، و مرّ برقم 6 و هو المروي في السنن «1» و الخلاف «2» و المستدرك «3». فهو راجع إلى الصورة الثانية و إن كان مراده ما نقله في صفحة 402 فالمفروض فيه عدم البيّنة لهما.

و أمّا الثاني أي عدم العبرة بالمرجّح

لانّ الترجيح فرع وجود الحجّتين، و تساويهما، فعلى السبب الأوّل لا حجّة في البين أصلًا و على الثالث الحجّة منحصرة ببيّنة الخارج و على الثاني

و إن كان كلّ حجة لكن لا تساوي بينهما، لكون اليد مرجّحاً حتّى يتوقّف اختيار أحدهما على المرجّح.

إلى هنا ظهر أنّ القول المشهور مبني على أحد هذه الأسباب الثلاثة و أنّ عدم الرجوع إلى المرجّحات لأجل عدم الموضوع له.

أضف إلى ذلك، أنّ بعض ما دلّ على التنصيف بلا مرجّح، يحكى عن الإمام في مقام القضاء فلو كان الرجوع إلى المرجّح أمراً لازماً يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و إنّما يجوز التأخير إذا كان الإمام في مقام بيان الحكم، لا في مقام تحقيقه و تجسيده في الخارج.

و ما يظهر من إطلاق بعض النصوص السابقة الدالّة على الترجيح بكثرة العدالة، و العدد الشامل لهذه الصورة بإطلاقه لا بنصّه أو إطلاق الأدلّة الدالة على الترجيح بالقرعة الشامل لهذه الصورة، محجوج بالنصوص المتعاضدة من دون ملاحظة شي ء من هذه المرجّحات، فما يظهر من السيّد الطباطبائي من الرجوع إلى القرعة في هذه الصورة بل في عامّة الصور، ممّا لا يمكن المساعدة معه و إنّما انفرد هو بهذه الفتوى بين العلماء على أنّ الظاهر من المرسل «4» من أمير المؤمنين و الرضوي الثاني 5 اختصاص القرعة بما ليس في أيديهما و هو الذي استظهره السيّد

______________________________

(1) البيهقي، السنن: 10/ 255

(2) الطوسي، الخلاف: 3/ 352، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 2.

(3) النوري، المستدرك: الجزء 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(4) 4 و 5 مرّا برقم 6 و 14.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 105

الطباطبائي أيضاً في ملحقاته.

و أمّا الثالث: أي عدم اليمين

فظاهر الروايات أنّ الحكم كذلك من غير يمين و لعلّه لأجل أنّ الحكم القضائي في المقام مستند إلى البيّنة، إمّا ترجيحاً كما في السبب الثاني أو

انحصاراً كما في السبب الثالث على ما عرفت على خلاف المختار.

لكن مقتضى معتبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في نفس هذه الصورة: «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السَّلام في دابّة في أيديهما، و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده فأحلفهما عليّ عليه السَّلام فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف» «1» هو القضاء للحالف مكان الحكم بالتنصيف إلّا أن يحلفا و في سنده رجلان:

1- غياث بن كلوب قال الشيخ في العدّة: إنّ العصابة عملت برواياته فيما لم ينكر، و لم يكن عندهم خلافه. «2» و قد عرفت وجود المخالف في المورد من الروايات.

2- الخشاب و هو لقب عدّة، منهم: الحجاج بن رفاعة و أحمد بن عيسى، و التواب بن الحسن، و الحسن بن موسى، و عمران بن موسى و ظاهر نقد الرجال للتفريشي انصرافه إلى الحسن بن موسى و لم يثبت. «3» و لعلّ المراد هو أحمد بن عيسى بن جعفر العلوي الذي وثقه الشيخ في رجاله. «4» أو الحسن بن موسى الذي هو من وجوه الحديث و لعلّ الثاني هو المتعيّن كما سيوافيك.

و مع ذلك فالاعتماد على هذه الرواية، مع وجود المخالف المتضافر

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) الطوسي، العدّة: 1/ 56.

(3) المامقاني، تنقيح المقال: 3/ 62.

(4) الطوسي، الرجال: 439.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 106

و إعراض المشهور، و اشتماله على حكم شاذ في ذيله كما سيوافيك في الصورة الثالثة (إذا لم تكن يد واحد عليها) مشكل. و لأجله لم يعتمد المشهور عليها. و حكموا بالتنصيف بلا يمين و قال في

الجواهر: إلّا أنّه خبر واحد، و في سنده ما فيه، و المشهور نقلًا و تحصيلًا على خلافه فلا يصلح تقييداً لما دلّ من النصوص على التنصيف بدونه.

و لكن هناك شي ء و هو أنّ الحكم القضائي لا بدّ أن يستند إلى البيّنة أو اليمين و بما أنّك عرفت، سقوط البيّنتين و أنّ التنصيف ليس عملًا بهما، فحسم مادة النزاع يتوقّف على اليمين إلّا أن يكون الحكم بالتنصيف حكماً غير قضائي بل حكماً شرعياً ظاهرياً على التنصيف فليس التنصيف إلّا تصالحاً بين المتداعيين و إن كان الحكم الواقعي محفوظاً في ظرفه فالأحوط لو لم يكن الأقوى الحكم بالتنصيف كما يقوله المشهور لكن مع التحالف و به تقيّد إطلاق سائر الروايات كما هو الحال إذا نكلا، نعم لو حلف واحد منهما دون الآخر يختصّ به.

هذا و قد اختار السيّد الأُستاذ في هذه الصورة قول المحقق و قال: و إن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج و عدم اعتبار بيّنة الداخل. «1»

ثمّ إنّ المحقّق الأردبيلي اختار في هذه الصورة التنصيف أوّلًا ثمّ عدل إلى الترجيح بالحكم للأعدل و الأكثر، و مع كون أحدهما أعدل و الآخر أكثر، احتمالات ثالثها القرعة و اليمين كما في صورة اليمين للجمع بين الأخبار فإنّ بعضها مطلقة و بعضها مقيّدة فتحمل الأُولى على الثانية. «2»

______________________________

(1) الإمام الخميني: تحرير الوسيلة: 2/ 433، المسألة 8.

(2) المحقق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 225 و 232.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 107

الصورة الثانية: إذا كانت العين بيد واحد منهما و لكلّ بيّنة
اشارة

إنّ لهذه الصورة حالات ذكرها المحقّق في الشرائع و نقدّم التعرّف عليها ثمّ نبحث عن حكم كلّ حالة مستقلًا:

1- إذا شهدت البيّنتان بالملك المطلق.

2- إذا شهدت البيّنتان بالسبب كالنتاج في

الحيوان.

3- إذا شهدت بيّنة ذي اليد بالسبب و بيّنة الآخر بالملك المطلق.

4- عكس الحالة الثالثة بأن شهدت بيّنة ذي اليد بالملك المطلق و بيّنة الآخر على السبب.

و إليك البحث في كلّ واحدة.

إنّ في هذه الصورة حسب اختلاف الحالات الأربع أقوال كثيرة أنهاها المحقّق النراقي في المستند إلى تسعة. «1» فكثرة الأقوال راجعة إلى اختلاف الحالات.

و ربّما يوجد في المسألة أقوال أُخر و تردّد جماعة في المسألة أيضاً كما في الدروس و اللمعة و المسالك و الكفاية. «2»

امّا الحالة الأُولى [إذا شهدت البيّنتان بالملك المطلق.]
اشارة

ففيها أقوال أربعة:

1- تقديم بيّنة الخارج

قال المحقق: يقضي بها للخارج دون المتشبّث، أي يحتجّ ببيّنة الخارج و هي بيّنة غير ذي اليد و تترك بيّنة الداخل و هي بيّنة ذي اليد و هو خيرة المحقق في

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 555553.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 155.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 108

الشرائع و ألمح إليها الشيخ الطوسي في الخلاف في آخر كلامه. قال: و قال أحمد بن حنبل لا أسمع بيّنة صاحب اليد بحال في أيّ مكان كان، و قد روى ذلك أصحابنا أيضاً. و تحقيق الخلاف مع أبي حنيفة هل تسمع بيّنة الداخل أم لا، عند الشافعي تسمع، و عنده لا تسمع و الفقهاء يقولون بيّنة الداخل أولى و هذه عبارة فاسدة إلى أن قال: و هذه المسألة ملقّبة به بيّنة الداخل و الخارج فانّ الداخل من كانت يده على الملك و الخارج من لا يد له عليه. «1»

و قال في المبسوط: إذا تنازعا داراً يد أحدهما عليها، فأقام من هي في يديه البيّنةَ أنّها ملكه، و أقام الخارج البيّنةَ أنّها ملكه و أنّه أودعها إيّاها أو آجرها فالبيّنة بيّنة الخارج لأنّ اليد له فإنّ بيّنته أثبتت أنّ يد من هي في يديه نائبة مناب يد الخارج و قائمة مقامه، فاليد له فكانت بيّنة صاحب اليد أولى كما لو أقام الخارج البيّنة أنّها له و أنّه غصبه إيّاها كان عليه ردّها و كذلك هاهنا. «2»

و قال ابن إدريس: إذا تنازعا عيناً و هي في يد أحدهما و أقام كلّ

______________________________

(1) الخلاف، ج 3/ 353، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 2.

(2) المبسوط: 8/ 299 و لا تظن التهافت بين قوله: «فالبيّنة،

بيّنة الخارج» و قوله: «لأنّ اليد له» لأنّ كون صاحب بيّنة الخارج ذا يد حسب ما قرّر، تنزيلي لا حقيقي كما يشير إليه قوله: «فإنّ بيّنته أثبتت».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 109

واحد منهما بيّنة بما يدّعيه من الملكيّة، انتزعت العين من يد الداخل و اعطيت الخارج، و كانت بيّنة الخارج أولى، و هي المسموعة سواء أشهدت بيّنة الداخل بالملك بالإطلاق أو بالأسباب بقديمه أو بحديثه كيفما دارت القصّة فإنّ بيّنة الخارج أولى على الصحيح بالمذهب و أقوال أصحابنا و لقوله عليه السَّلام: المجمع عليه من الفريقين المخالف و المؤالف الملتقى عند الجميع بالقبول و هو «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه»، فقد جعل عليه السَّلام البيّنة في جنبة المدّعي بغير خلاف «1».

و قال الشهيد الثاني: إذا كانت العين المتنازع فيها في يد أحدهما و أقام كلّ واحد منهما بيّنة ففي ترجيح أيّهما أقوال أحدها ترجيح الخارج مطلقاً سواء أشهد بالملك المطلق أم المقيّد بالسبب بأن شهدت إحداهما بالملك المطلق و الأُخرى بالسبب، ذهب إلى ذلك الصدوقان و سلّار و ابن زهرة و ابن إدريس و الشيخ في موضع من الخلاف. «2»

و لنقتصر بهذا المقدار من أصحاب هذا القول.

استدلّ لهذا القول بوجوه:

1- المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان: أنّهما يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ منهما و ليس في أيديهما. فأمّا إن كان في أيديهما فهو نصفان. و إن كانت في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه. «3»

و محل الاستشهاد ذيله أعني قوله: «و إن كانت في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي» و

مورده إذا كان لكلّ واحد من ذي اليد و غيره بيّنة لأنّ السؤال عن البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد، فقد أجاب الإمام بثلاثة أجوبة على ثلاث صور: 1 الإقراع إذا لم يكن في أيديهما و عدلت بيّنة كلّ منهما. 2 التنصيف إذا كان في أيديهما. 3 تقديم بيّنة المدّعي إذا كانت في يد أحدهما. فلا معنى لحمل الذيل على ما إذا كانت البيّنة لخصوص المدّعي و على أيّ حال فالرواية مرسلة تصلح للتأييد و الاعتضاد.

2- خبر محمّد بن حفص «4» عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد

______________________________

(1) ابن إدريس، السرائر: 2/ 168.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 434.

(3) النوري، مستدرك الوسائل: 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4) و محمّد بن حفص بن عمر وكيل الناحية الثقة غير محمّد بن حفص الراوي عن منصور بن حازم إذ هما يختلفان طبقة فلا يمكن لوكيل الناحية المقدّسة الرواية عن الإمام الصادق عليه السَّلام بواسطة فرد كمنصور بن حازم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 110

اللّه عليه السَّلام: رجل في يده شاة فادعاها فأقام البيّنة العدول انّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع و جاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول انّها ولدت عنده لم يبع و لم يهب فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «حقّها للمدّعي و لا أقبل من الذي في يده بيّنة لانّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة و إلّا فيمين الذي هو في يده. هكذا أمر اللّه عزّ و جل». «1»

و دلالة الحديث لا غبار عليه إلّا أن يقال أنّه لا صلة له بالحالة

الأُولى لأنّ البيّنتين شهدتا بالسبب حيث قالوا انّها ولدت عنده و هو خلاف المفروض أعني الشهادة على الملك المطلق و إنّما يصحّ به الاستدلال على الصور الآتية اللّهمّ إلّا إذا قلنا بما قاله ابن إدريس من أنّ التفصيل بين الشهادة بالملكية و الشهادة بالسبب غير مؤثر و إنّ هذه التفاصيل من فقهاء العامة كما يظهر من الخلاف و سيوافيك حقّ المقال فيها عند دراسة القول الخامس و على أيّ حال فالرواية ضعيفة.

3- الحديث النبويّ: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر» و قد قرر دلالته ابن إدريس في كلامه كما مرّ و قال الشهيد الثاني: وجه الدلالة انّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم جعل لكلّ واحد منها حجّة فكما لا يمين على المدّعي، لا بيّنة للمدّعى عليه، و التفصيل يقطع الشركة و في هامش المسالك يقول: لانّ قوله عليه السَّلام يدل على انّ كلّ واحد من المدّعي و المنكر مخصوص بشي ء و ليس للمنكر شركة مع المدّعي في البيّنة. و فيه بحث يظهر بالتأمّل الصادق. «2»

و قد أشار صاحب الجواهر إلى وجه التأمل و قال: ضرورة عدم دلالته على أزيد من استحقاق المدّعي على المنكر اليمينَ دون البيّنة بخلاف المنكر، فانّ له على المدّعي البيّنة، و هو غير (عدم) قبول البيّنة من المنكر و لو في الجملة، المستفاد

______________________________

(1) الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 434 قسم الهامش.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 111

مما تسمعه من نصوص الباب و فتاوى الأصحاب. «1»

و حاصل النظر انّ مورد النص أو المتيقن هو ما إذا كان للمدّعي بيّنة دون الآخر و أمّا

إذا كانت لهما بيّنة فليس الحديث ناظراً إلى ردّ بيّنة المنكر. و سيأتي توضيحه عند نقل القول الثاني.

4- ما ورد في الفقه الرضوي: «فإذا ادّعى رجل على رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره، و أقام بذلك بيّنة، و أقام الّذي في يده شاهدين فانّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلى المدّعي، لانّ البيّنة عليه». «2»

و الفقه الرضوي يصلح لأن يكون مؤيّداً إذا قام على الحكم دليل صالح قابل للاعتماد. و قد عرفت عدم قيامه.

إلى هنا تبيّن أنّه ليس لهذا القول دليل يعتمد عليه فمن مرسل يرويه المحدث النوري في مستدركه، إلى ضعيف في سنده، كمحمّد بن حفص، إلى حديث صحيح كالنبوي المجمع عليه لكنّه يفقد الدلالة، إلى ما يصلح للتأييد، لا للاحتجاج كالرضويّ و مع ذلك فإنّ هذا القول خيرة أكثر الفقهاء و السيّد الأُستاذ في تحريره.

2- تقديم بيّنة الداخل
اشارة

و قد اختار الشيخ في الخلاف هذا القول و قال: إذا ادّعيا ملكاً مطلقاً و يد أحدهما على العين كانت بيّنته أولى و كذلك إذا أضافاه إلى سبب، فإن ادّعى صاحب اليد الملك مطلقاً و الخارج أضافه إلى سبب كانت بيّنة الخارج أولى و به قال الشافعي «3» و قد استدل لهذا القول بوجوه:

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 417. و لعلّه سقط لفظ «العدم».

(2) النوري، مستدرك الوسائل: الجزء 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(3) الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، 353، المسألة 2 و قد تقدّم أنّ الشيخ أفتى بخلافه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 112

منها: رواية جابر و قد استدلّ بها الشيخ في الخلاف فقال: إنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

في ناقة فقال: كلّ واحد منهما نتجت هذه الناقة عندي و أقام كلّ منهما بيّنة فقضى بها رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم للذي هي في يديه. «1»

و يظهر من سنن البيهقي أنّ هذا الرأي كان رائجاً أيّام قضاء شريح حيث نقل بسنده أنّ رجلين اختصما إلى شريح في دابّة فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها له و أنّه انتجها فقال شريح: هي للذي في يديه، النتاج أحقّ من العارف. «2»

و لكن الاستدلال برواية جابر يرجع إلى الصور الآتية، أعني الشهادة بسبب الملك و المفروض في المقام هو الشهادة على أصل الملك إلّا أن يقال بعدم الفرق بين الصور، و أنّ هذه التفاصيل، راجعة إلى فقهاء العامّة و القيد ورد في السؤال دون كلام النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

و منها: معتبرة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين في دابّة في أيديهما و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، حلّفهما عليّ فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف منهما.

فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ فقال: أحلِّفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين.

قيل: فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده». «3»

و محلّ الاستشهاد هو السؤال الثالث، و أمّا السند ففيه غياث بن كلوب و هو ممن عملت العصابة برواياته فيما لم ينكر و لم يكن عندهم خلافه. «4»

______________________________

في تلك المسألة و لا يظهر ما هو المختار عنده

(1) نفس المصدر.

(2) البيهقي، السنن: 10/ 256 و

ما رواه الشيخ عن جابر في الخلاف يختلف لفظاً مع ما نقلناه عن السنن.

(3) مرّ برقم 2.

(4) الطوسي، عدة الأُصول: 1/ 56.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 113

و إسحاق بن عمّار ثقة و قد وصفه الشيخ بها في الفهرست. «1»

و الخشاب و هو الحسن بن موسى الخشاب قال النجاشي من وجوه أصحابنا مشهور كثير العلم و الحديث. «2»

و منها: رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «إنّ أمير المؤمنين اختصم إليه رجلان في دابة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه انتجها فقضى بها للذي في يده». «3»

و الرواية معتبرة و أمّا غياث بن إبراهيم التميمي الأسدي فقد وثّقه النجاشي و لكن مورد الرواية فيما إذا شهد على السبب مع أنّ البحث فيما إذا شهدا على الملك المطلق. و سيوافيك عدم الخصوصية له. و ظاهر إطلاق رواية غياث عدم الحاجة إلى الحلف فيقيّد بما ورد في معتبرة إسحاق فتكون النتيجة هو أنّ العين لذي اليد مع يمينه.

فإذا كان المعتمد هو رواية ابن عمّار فيقيد بها إطلاق رواية «غياث» حيث لم يذكر فيها الحلف.

القضاء بين القولين:

إذا دار الأمر بين الأخذ بين القولين، فالقول الثاني، أحقّ بالأخذ لوجود حديثين معتبرين كرواية إسحاق بن عمّار و غياث بن إبراهيم، و إن كانت الأُولى تشمل على حكم شاذ كما سيوافيك في الصور الآتية فلا يجوز العدول عنهما، بالروايات الضعاف، كما عرفت، و جبران ضعفها بعمل المشهور، لا يجعلها عدلًا للروايات المعتبرة على أنّ فتوى المشهور غير واضحة و المسألة مشوّشة جدّاً من حيث الفتوى و الحاصل أنّ المرسل عن علي عليه السَّلام، و خبر منصور بن حازم

______________________________

(1) الطوسي، الفهرست: 39.

(2) النجاشي: الرجال، برقم

84.

(3) مرّ برقم 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 114

و الموجود في الفقه الرضوي، لا تعادل صحيح إسحاق بن عمّار، و معتبر غياث بن إبراهيم.

فلم يبق في المقام إلّا الاستناد بالنبوي في مدلوله السلبي و هو عدم حجّية بيّنة المنكر و لكن كونه حاملًا لهذا المعنى السلبي، غير واضح جدّاً فإنّ المتبادر منه بيان الوظيفة الأوّلية للمدّعي و المنكر، و إلّا فلا مانع من سماع البيّنة للمنكر أيضاً، كما أنّ للمدّعي اليمين المردودة، و اليمين الذي هي جزء البيّنة، و اليمين الاستظهاري و أيضاً يمكن أن يقال: القدر المعلوم من الحديث أنّه لا يُلْزم المنكر بالبيّنة و إنّما يلزم باليمين لا أنّه لا تقبل من البيّنة. «1»

أضف إليه أنّه كيف يمكن نفي حجيّة بيّنة المنكر مع دلالة بعض الروايات على صحّة الاحتجاج بها؟ نظير:

1- صحيح حمّاد بن عثمان قال: بينما موسى بن عيسى في داره التي في المسعى، يشرف على المسعى إذ رأى أبا الحسن موسى عليه السَّلام مقبلًا من المروة، على بغلة فأمر ابن هياج رجلًا من همدان منقطعاً إليه أن يتعلّق بلجامه و يدّعي البغلة فأتاه فتعلّق باللجام و ادّعى البغلة، فثنّى أبو الحسن رجله، و نزل عنها و قال لغلمانه: «خذوا سرجها و ادفعوا إليه» فقال: و السرج أيضاً لي فقال: «كذبت عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن علي و أمّا البغلة فأنا اشتريناها منذ قريب و أنت أعلم و ما قلت». «2» فإنّ بيّنة الإمام على أنّ السرج له، بيّنة المنكر.

2- ما رواه حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال له رجل إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد

أنّه له قال: «نعم». «3» و من المعلوم أنّ المقصود الشهادة، في وقت النزاع، في غيره.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 154.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 115

و لعلّ في صحيح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه في حديث فدك «1» إشعاراً بذلك حيث إنّ الإمام اعترض على أبي بكر بأنّه يفرق بينه و بين الناس فعند ما يكون الإمام مدّعياً و غيره منكراً، يطلب منه البيّنة و عند ما يكون الإمام منكراً و غيره مدّعياً، يطلب منه البيّنة أيضاً، فما هو الوجه في هذا التفريق، و الإمام يركّز على بطلان التفريق و لو كان بيّنته المنكر، غير مقبول مطلقاً، لكان هو أولى بالإنكار مع أنّ الإمام لم ينكر عليه و إنّما أنكر، على التفريق.

فهذه الروايات تؤكّد على حجّية بيّنة المنكر كبيّنة المدّعي، أضف إلى ذلك إطلاقات أدلّة البيّنة، بلا تقييد بالمدّعي. بل يمكن استفادة حجّيته من رواية أبي بصير «2»، حيث رجّح إحداهما على الأُخرى بالأكثرية، و من ذيل رواية إسحاق ابن عمّار و موردهما نفس الصورة التي نحن فيها حيث رجّحها على الأُخرى باليد و الترجيح آية حجّية المتعارضين في حدّ نفسهما.

فالقول بتقديم بيّنة الداخل، لتأيّدها باليد هو الأوفق بالقواعد، و الأنسب لدى العقلاء فإن أخذ العين من ذى اليد مع بيّنته، و دفعها إلى المدّعي بحجّة أنّ البيّنة للمدّعي، مما لا يقبله الذوق السليم و العقل الصريح بشرط الحلف على ما ورد في رواية ابن عمّار.

3- تقديم بيّنة الخارج عند التساوي و الأكثر عدداً في غيره

و قد نسب هذا القول إلى الصدوقين و

المفيد فحكموا بترجيح بيّنة الخارج عند التساوي و تقديم ذات الترجيح عند وجوده فالترجيح بالعدالة عند الصدوق، و بالأكثرية عند المفيد .. و ذلك لخبر أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن

______________________________

(1) الوسائل: 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(2) مرّ برقم 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 116

الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم و يقيم البيّنة، و يقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه و لا يدري كيف كان أمرها، قال: «أكثرهم بيّنة يستحلف و تدفع إليه، و ذكر أنّ علياً عليه السَّلام أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم انتجوها على مِذْودهم و لم يبيعوا و لم يهبوا و قامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك فقضى عليه السَّلام بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم». «1»

و الرواية صحيحة و شعيب الوارد في السند هو شعيب العقرقوفي هو ابن أُخت أبي بصير يحيى بن القاسم راوي الحديث عن الإمام. قال النجاشي: ثقة عين «2». و لكن الرواية قاصرة عن إفادة تمام المدّعى، لأنّها صريحة في لزوم الترجيح بالأكثر عدداً و أمّا لزوم تقديم بيّنة الخارج عند التساوي فلا دلالة لها عليه، غاية ما يمكن أن يقال أنّه يقيّد القول الثاني المختار بمضمون هذه الرواية، و تصير النتيجة هو تقديم بيّنة الداخل إلّا إذا كان هناك ترجيح من حيث العدد لبيّنة الخارج، نعم النسبة بينها و بين ما دلّ على تقديم بيّنة الداخل عموم من وجه.

و ذلك لعدم التعارض بينهما في المتساويين، و لا فيما إذا كانت بيّنة الداخل ذات ترجيح، و إنّما يتعارضان فيما إذا كانت بيّنة الخارج ذات الترجيح

فعلى ما سبق تقدّم بيّنة الداخل، و على ما ذكر في الحديث تقدّم بيّنة الخارج. فأيّهما يقدّم؟ فيه وجهان، بما أنّ القول بتقديم ذات الترجيح موجب للجمع بين الروايات، يكون الأخذ به أولى.

4- تقديم ذي اليد مع الحلف أو إبائهما

و هذا القول مروي عن ابن الجنيد قال: فإن حلفا جميعاً أو أبيا أو حلف

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) النجاشي، الرجال: برقم 518.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 117

الذي في يده كان محكوماً للذي هي في يده بها. فإن حلف الذي ليست في يده و أبى الذي في يده أن يحكم، حكم بها للحالف.

و لعلّ وجه الحلف، مع كون البيّنة كافية في إثبات الحقّ لمن كانت له، هو أنّ المراد من التقديم تعيّن من يُقدَّم قوله منهما و كونه بمنزلة المنكر، لا لكون البيّنة حجّة فعلية في إثبات الحقّ ففائدته جعل من قُدِّمت بيّنته بمنزلة المنكر و حينئذ يحتاج إلى الحلف على قاعدة المدّعي و المنكر. «1»

و لو قلنا بلزوم الحلف، تكون نتيجة الجمع بين الأقوال الثلاثة: الثاني و الثالث و الرابع، هي تقديم بيّنة الداخل لدى التساوي مع الحلف على النحو المذكور، و تقديم الأكثر عدداً، عند عدم التساوي ثمّ الحلف و بذلك يجمع بين الأقوال الثلاثة الأخيرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الحالة الأُولى بأقوالها الأربعة و إليك الكلام في الحالات الثلاث الباقية:

الحالة الثانية: إذا شهدتا بالسبب

إنّ البيّنة تارة تشهد على المسبّب كالملك من دون أن تذكر سببه و أُخرى تشهد على السبب كالنتاج و الاشتراء و الصياغة، و النسج من قطن المالك.

ثمّ السبب بين ما لا يتكرّر كالنتاج إذ لا يمكن أن تتولّد الدابّة مرّتين، و ثوب قطن و أبريسم فإنّه لا يمكن نسجهما دفعتين، و ما يتكرّر كآنية الذهب و الفضّة و الصفر و الحديد إذ يصحّ لكلّ واحد أن يقول صيغ في ملكي و كذلك ما يمكن نسجه مرّتين كالصوف و

الخزّ.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ هناك تفاصيل في فقه العامة بين الشهادة

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 154.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 118

بالسبب و الشهادة بالملك المطلق، و من السبب بين ما لا يتكرّر و ما يتكرّر «1» و ليس في أخبارنا شي ء من هذه التفاصيل و لو جاء في بعضها ذكر السبب فإنّما جاء لبيان منشأ الدعوى لا أنّه دخيل في الحكم مضافاً إلى أنّه ورد في كلام السائل فلا تستفاد منها المدخلية. و مع ذلك فقد تأثّر بعض الأصحاب من هذه الفتاوى و جاءوا ببعض التفاصيل التي ذكرها المحقق و نكتفي بما ذكره المحقق الذي منها هذه الحالة الثانية أي إذا شهدتا بالسبب ففيه قولان:

1- تقدّم بيّنة الداخل و هو المحكي عن كتابي التهذيب و الاستبصار للشيخ، و قد استدلّ له بما تقدّم من صحيح إسحاق بن عمّار «2»، و معتبر غياث بن إبراهيم 3، و رواية جابر 4 و أنت خبير بعدم دلالتها على ما رامه فإنّ القيد ورد في الأوّليين في سؤال الراوي و قد ذكر لبيان منشأ الدعوى و علّتها لا أنّ لها دخلًا في الحكم و تقرب منهما رواية جابر، و لأجل ذلك فالأولى الاستدلال بها على تقديم اليد المتصرّفة على غيرها مطلقاً، لا الجمود على صورة ورود السبب في الشهادة كما هو المختار.

2- و من الأصحاب من رفض هذه الروايات و قال بالأخذ ببيّنة الخارج قائلًا بأنّه لا بيّنة على ذي اليد كما لا يمين على المدّعي عملًا بقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «اليمين على من أنكر» و التفصيل قاطع للشركة و قد وصفه المحقق بأنّه أولى لكن

عرفت عدم دلالة النبويّ على المفهوم السلبي، فالأولى الأخذ بهذه الروايات مع إلغاء قيدية ورود السبب.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الضابطة عند القائل بهذا التفصيل تقديم بيّنة الخارج إلّا في هذه الصورة إذا شهدتا بالسبب فتقدم بيّنة الداخل، فلو ورد السبب في بيّنة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 2.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و 3.

(3) 4 البيهقي، السنن: 10/ 256.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 119

الداخل دون الأُخرى، فلا محيص له عن الالتزام به لأنّ ذكر السبب إذا كان موجباً لترجيح ذي اليد، إذا شهدتا بالسبب فليكن كذلك مطلقاً و على ذلك فلو كانت بيّنة الخارج غير مشتملة على ذكر السبب و كانت بيّنة الداخل مشتملة عليها فطبع الحال يقتضي تقديم الثانية و هي الحالة الثالثة الّتي نتلوها.

الحالة الثالثة: إذا شهدت بيّنة ذي اليد بالسبب و الخارج بالملك

فتقدم بيّنة الداخل أيضاً كالحالة الثانية و هو الظاهر من الشيخ في نهايته «و متى كان مع واحد منهما يد متصرّفة، فإن كانت البيّنة تشهد بأنّ الحقّ ملك له فقط و تشهد الآخر بالملك أيضاً انتزع الحقّ من اليد المتصرّفة و أعطى اليد الخارجة و إن شهدت البيّنة لليد المتصرّفة بسبب الملك من بيع أو هبة أو معاوضة كانت أولى من اليد الخارجة. «1» و قال: فإنّه يقضي لصاحب اليد.

و لعلّ مستند الشيخ هو خبر عبد اللّه بن سنان ففيه عن علي عليه السَّلام: إذا اختصم إليه الخصمان في جارية فزعم أحدهما أنّه اشتراها، و زعم الآخر أنّه انتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي نتجت عنده. «2»

يلاحظ عليه: أنّ كلًّا من البيّنتين شهدتا بالسبب: الاشتراء و النتاج،

غير أنّ الإمام رجّح أحد السببين (النتاج) على الآخر و أين هو من المدّعى من تقديم بيّنة الداخل إذا شهدت بالسبب على الخارج إذا شهدت بالملك المطلق.

نعم ظاهر الرواية تقديم الشهادة على السبب القديم (النتاج) على السبب الحادث (الاشتراء) من غير فرق بين كون مدّعي السبب القديم ذا يد أو لا و سيوافيك البحث فيه عند البحث عن مرجّحات تعارض البيّنتين.

______________________________

(1) الطوسي، النهاية: 344.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 120

الحالة الرابعة: عكس الحالة الثالثة

أي إذا شهدت بيّنة ذي اليد بالملك المطلق و بيّنة الآخر بالسبب، فعلى الضابطة التي اشير إليها في الثالثة، و الثانية، يعلم حكم هذه الحالة و هي تقديم بيّنة الخارج لقوّتها بالشهادة على السبب. و لم يذكرها المحقق و إنّما ذكرناها استيفاءً للصور.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية:

ما دلّ على تقديم بيّنة الخارج، غير تامّ لا يحتجّ به بخلاف ما دلّ على تقديم بيّنة الداخل، غير أنّ تقديمه ليس بمعنى إنهاء أمر القضاء بل لا بدّ من الحلف على النحو المألوف.

نعم هذه هي الضابطة إلّا إذا كانت إحدى البيّنتين تترجّح على الآخر بالكثرة فيقدّم المرجَّح، أمّا التفصيل بين الشهادة على السبب أو الملك المطلق فليس له دليل صالح و اللازم حذف البحث عن أحكام الحالات الثلاث الأخيرة لعدم مدخلية هذه الحالات على ما علمت و التركيز على الحالة الأُولى، و قد عرفت أنّ لازم الجمع بين الروايات هو تقديم بيّنة ذي اليد بشرط الحلف عملًا برواية ابن إسحاق، و تقديم الأكثر عدداً عند عدم التساوي عملًا برواية أبي بصير. و اللّه العالم.

بقي هنا شي ء و هو أنّ مقتضى صحيحة عبد

الرحمن بن أبي عبد اللّه «1» و صحيح الحلبي 2 و موثقة سماعة 3 هو الرجوع إلى القرعة عند التساوي و اليمين على من خرج اسمه، و اليمين و إن لم تكن مذكورة، في الموثقة لكن يقيد إطلاقها

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 120

______________________________

(1) 1، 2، 3 مرّ الجميع برقم 9، 12، 10، 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 121

بما في الأوّلين. و إطلاقها يعمّ الصورتين إذا كان في أيديهما أو في يد واحد منهما.

و الجواب: أنّ الروايات الثلاث ليست نصوصاً في المورد، غاية الأمر وجود الإطلاق فتحمل على ما إذا لم يكن في أيديهما و لا يد واحد منهما و يشهد على ذلك ما رواه صاحب الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السَّلام «1» حيث إنّ الإمام لم يقرع في كلتا الصورتين. و على ذلك فما دلّ على الإقراع راجع إلى الصورتين الأخيرتين.

الصورة الثالثة لو كانت العين بيد ثالث
اشارة

إذا كانت العين بيد ثالث ففيه أقوال تناهز الثمانية «2» نذكر منها ثلاثة:

الأوّل: اجراء الشقوق التالية:

1- أن يُصدِّق ذو اليد أحدَهما.

2- أن يصدِّق كليهما.

3- أن يدفع كليهما.

4- أن يعترف لأحدهما و لا يعرف عينه.

5- أن يقول ليست لي و لا أعرفُ صاحبه.

فعلى الأوّل، إذا اعترف لأحدهما، يكون المقرّ له مالكاً شرعياً للعين، و يكون المفروض كما إذا كان بيد أحدهما و يكون حكمه، حكم الصورة الثانية الماضية.

و على الثاني، يصير المدّعيان مالكين على الظاهر و يكون المفروض كما إذا كانت العين بأيديهما و أقاما البيّنة و يكون حكمه حكم الصورة الأُولى السابقة.

______________________________

(1) نفس المصدر.

(2) لاحظ: ملحقات العروة: 2/ 156.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 122

و على الثالث أُقرّت في يده فيكون هو المدّعى عليه بالنسبة إلى المتنازعين فيحلف لكلّ منهما، و لو نكل عن الحلف يدخل في الصورة الرابعة أعني: ما إذا ادّعيا عيناً لا يد عليها و سيوافيك حكمها.

و على الرابع حيث يقرّ ذو اليد بأنّها لواحد من المتنازعين يعمل بقاعدة العدل و الانصاف فينصَّف إلحاقاً له بالدينار المردّد عند الودعي بين الشخصين و يحتمل القرعة ثمّ الحلف.

قال المحقّق الأردبيلي: «إنّ الحكم بالتصديق و الحلف و جعله مرجّحاً هنا أيضاً ممكن». «1»

و على الخامس يكون من قبيل ما لا يد لأحد عليها أي الصورة الرابعة الأصلية التي سوف يوافيك حكمها.

نعم إنّ الأكثر كما قيل لم يتعرّضوا بتصديق الثالث لأحد المتداعيين كما تعرّضوا به في صورة عدم البيّنة، قيل و إنّما لم يتعرّضوا لأنّ نظرهم إلى بيان المرجّحات إغماضاً عن حكم اليد و إيكالًا إلى ما ذكروه سابقاً في صورة عدم البيّنة.

قال النراقي: لم يتعرّض الأكثر لتصديق الثالث لأحد المتداعيين هنا كما

تعرضوا له في صورة عدم البيّنة، قيل: «لعلّ إطلاقهم هنا مبني على الإغماض عن حكم اليد و خلافها و نظرهم إلى بيان سائر المرجّحات» و يحتمل أيضاً أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار تصديقه نظراً إلى إطلاق الأدلّة كما فهمه المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث حكم بتفرقة المصنّف بين صورة عدم البيّنة، و صورة وجودها في سماع تصديق الثالث و قال بأنّ الحكم بالتصديق و الحلف هنا أيضاً ممكن و وجه عدم الاعتبار حينئذ كما يظهر من الفاضل في التحرير أنّ البيّنتين

______________________________

(1) المحقق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 232.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 123

متطابقتان على عدم ملكية الثالث فلا يكون إقراراً لأنّه إنّما يكون في ملك الشخص واقعاً أو ظاهراً، و مع البيّنتين لا يكون كذلك، و للتأمل فيه مجال. «1»

و قد يقال: يحتمل أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار تصديقه، نظراً إلى إطلاق الأخبار لا لتطابق البيّنتين على عدم ملكية الثالث.

و قال صاحب الجواهر: و لو أقرّ الثالث بالعين لأحدهما فالوجه كما في القواعد أنّه كاليد، تقدَّم على قيام البيّنتين أو تأخّر لقيام المعنى القائم في اليد فيه، و يحتمل العدم بعد إقامة البيّنتين لكشفهما عن أنّ يد المقرّ مستحقّة للإزالة، فإقراره كإقرار الأجنبي بل قد يشكل إن لم يكن إجماع اندراج ذلك قبل إقامة البيّنتين فضلًا عمّا بعده فيما دلّ على حكم ذي اليد بالنسبة إلى الدخول و الخروج و لعلّه أطلق بعضهم الحكم من غير فرق بين إقرار الثالث و عدمه. «2»

و قال في مسألة ما إذا تنازع مشتريان و ادّعى أحدهما شراء المبيع من زيد و قبض الثمن و أقام البيّنة، و ادّعى آخر

شراءه من عمرو و قبض الثمن و أقام البيّنة: «و إن كانت بأيديهما و صدق كلّ منهما مشتريه فكلاهما ذو اليد». «3»

و قال السيّد الطباطبائي: إنّ ذلك منهم لوجود الفرق بين صورة وجود البيّنتين و صورة عدمها لزوال حكم يده مع تطابق البيّنتين على كون ما في يده لغيره فلا اعتبار بإقراره بخلاف صورة عدم البيّنة في ظاهر الشرع. «4»

يلاحظ عليه: أنّ البيّنة لو لا التعارض توجب زوال حكم اليد، و أمّا مع التعارض فلا تكون حجّة في مدلولها المطابقي فضلًا عن الالتزامي، و عندئذ يسقط قوله: «لزوال حكم يده مع تطابق البيّنتين على كون ما في يده لغيره فلا اعتبار بإقراره» و ذلك لأنّ الأخذ بالمدلول الالتزامي (أنّه ليس لذي اليد) مع

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 557.

(2) الجواهر: 40/ 432431.

(3) الجواهر: 40/ 469.

(4) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 158.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 124

رفض المدلول المطابقي أمر مشكل فلو لم يكن في النصوص ما يخالفه لكان الأخذ به متعيّناً و لا يعلم إلّا بدراسة الأقوال.

الثاني: قول الشيخ في المبسوط

و هو ثلاثي الأجزاء:

1- يقضي بالقرعة، إن شهدتا بالملك المطلق.

2- يقسّم بينهما إن شهدتا بالملك المقيّد بالسبب.

3- و لو اختصّت إحداهما بالتقييد، قضى بها دون الأُخرى.

هذا، و الذي وقفت عليه في المبسوط هو ما يلي:

إذا كانت الدار في يدي رجل فتداعاها رجلان قال أحدهما: الدار التي في يديك لي أودعتكها و أقام البيّنة، و قال الآخر: الدار التي في يديك لي آجرتُكها، و أقام البيّنة قال قوم هما متعارضتان لأنّ التنازع في الملك و قد شهدت كلّ واحدة منهما بالملك في الحال لكلّ واحد منهما و هذا محال، فتعارضتا، و إذا تعارضتا قال

قوم: يسقطان، قال قوم: يقرع بينهما و هو مذهبنا و قال بعضهم: يقسم بينهما. «1»

و العبارة تفي بالشق الأوّل دون الشقّين الأخيرين من كلامه و لعلّه ذكرهما في مكان آخر، وقف عليه المحقّق.

أمّا الجزء الأوّل و هو الإقراع عند الشهادة على الملك المطلق، فيحمل ما ورد بالقرعة على هذه الصورة، نظير صحيح الحلبي: سئل أبو عبد اللّه عن رجلين شهدا على أمر و جاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا قال: «يقرع بينهم فأيهم قرع، فعليه الحلف». «2»

و مثله عبد الرحمن بن عبد اللّه البصري عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: كان

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 269268.

(2) مرّ الجميع برقم 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 125

علي عليه السَّلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين «1» و بهذا المضمون غيرهما، و ما في مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار 2 من الاكتفاء بالقرعة من دون الإحلاف يقيّد بما ورد فيه الحلف كما لا يخفى.

يلاحظ عليه: أنّ القرعة وردت في الشهادة بالمقيّد أيضاً كموثقة سماعة 3 و خبر عبد اللّه بن سنان 4 فلا وجه لتخصيصها بما إذا شهدت بالملك المطلق منهما.

و أمّا الجزء الثاني و هو التقسيم بينهما إن شهدتا بالملك المقيّد بالسبب فيدلّ عليه خبر غياث بن إبراهيم، أنّ أمير المؤمنين اختصم إليه رجلان في دابّة و هما أقاما البيّنة أنّه انتجها، فقضى بها للذي في يده و قال:

«و لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين». 5

و على ذلك (الشهادة بالملك المقيّد بالسبب) يحمل خبر تميم بن طرفة 6 إنّ رجلين عرفا (ادعيا) بعيراً فأقام كلّ واحد منهما

بيّنة فجعله أمير المؤمنين عليه السَّلام بينهما» فإنّ ظاهره الشهادة بالملك المطلق، و فيه القرعة لكن يحمل على الشهادة بالملك المقيّد بالسبب للجمع بينه و بين ما دلّ على القرعة في الشهادة بالملك المطلق كما مرّ.

يلاحظ عليه: أنّ خبري سماعة 7 و ابن سنان 8 في باب الشهادة على الملك المقيّد بالسبب، و قد جاء فيهما القرعة، دون التقسيم. و خبر طرفة من باب الشهادة بالملك الشهادة بالملك المطلق، و قد جاء فيه الأمر بالتقسيم و حمل الأخير على المقيّد خلاف الظاهر.

______________________________

(1) 1- 4 مرّ الجميع برقم 9، 16، 10 و 15.

(2) 5 و 6 مرّا برقم 3 و 8.

(3) 7 و 8 مرّا برقم 10 و 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 126

و أمّا الجزء الثالث، و هو تقديم من شهدت بالملك المقيّد بالسبب و رفض من شهد بالملك المطلق فيعلم وجهه ممّا سبق لقوّة الأُولى.

على أنّ في خبر إسحاق ما هو خارج عن الجميع و هو تحليفهما معاً فأيّهما حلف و نكل الآخر كانت للحالف قال: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة فقال: أحلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. «1»

الثالث: قول المحقّق

و ما أفاده في هذه الصورة ثُلاثي الأجزاء و هي:

1- قضى بأرجح البيّنتين عدالة.

2- فإن تساويا قضى لأكثرها شهوداً.

3- و مع التساوي عدداً و عدالة يقرع بينهما فمن خرج اسمه أُحلف و قضي له، و لو امتنع أُحلف الآخر و قضي له و إن نكلا قُضي بها بينهما بالسوية.

أمّا الأوّلان فهما موقوفان على أمرين:

1- حمل أخبار القرعة على الصورة الثالثة (إذا لم يكن في يد واحد

منهما) و إخراج الصورتين الأُوليين من تحتها، و يدلّ على ذلك أمران:

أ: ما دلّ من النصوص على أنّ حكم الصورة الأُولى هو التنصيف، و أنّ حكم الصورة الثانية، هو تقديم بيّنة الخارج أو الداخل على تفصيل و النصوص الواردة فيهما دليل على عدم شمول أخبار القرعة للأُوليين.

ب: تنصيص الإمام بذلك في المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام «2» في البيّنتين يختلفان في الشي ء الواحد، يدّعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدَلَتْ بيّنة كلّ

______________________________

(1) مرّ برقم 2.

(2) مرّا برقم 6 و 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 127

واحد منهما. و ليس في أيديهما.

2- إنّ قوّة العدالة و كثرتها مرجّحة و في الوقت نفسه الترجيح بها مقدّم على الترجيح بكثرة العدد.

و يمكن استفادة الأمر الأوّل من الحديثين التاليين ففي رواية عبد الرحمن البصري «كان عليّ إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم». «1» فيدلّ على الترجيح بكثرة العدالة مثل كثرة العدد، فإنّ المراد من كون «عدلهم سواء» مقابل «عددهم سواء» الأعدلية.

و في المرسل «اعتدلت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما» «2» و لا يصدق الاعتدال إلّا إذا تساوت البيّنتان في العدالة و العدد.

و لم نجد في الأدلّة ما يدلّ على تقديم الترجيح بالأعدلية على الأكثرية كما هو مفاد كلام المحقّق مع ورود الأكثرية في غالب النصوص، و ورد الأعدليّة في خبرين فلو انحصر المرجّح، بالأعدلية فتقدّم و أمّا لو اشتمل الأخير على الأكثرية فتقديم الأعدلية على الأكثرية كما ترى.

نعم نفى صاحب الجواهر الريبَ في تقديمها على الأكثرية بادّعاء ابن زهرة الإجماعَ المعتضد بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب و وجود ذلك في رسالة علي بن بابويه

التي قيل فيها. كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها و النهاية التي هي متون الأخبار.

و أمّا الجزء الثالث و هو الإقراع عند التساوي فمن خرج اسمه أُحلف و قضي له.

و لو امتنع أُحلف الآخر فقضي له.

و إن نكلا قضى بها بينهما بالسوية.

______________________________

(1) مرّا برقم 6 و 9.

(2) الجواهر: 40/ 428.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 128

أمّا اليمين على من خرج اسمه بالقرعة فهو مورد النصوص كرواية البصري «1» و داود بن سرحان. 2

و أمّا توجّه اليمين إلى الآخر، إذا نكل من خرج اسمه فهو ظاهر قوله في خبر البصري: «ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف» على أنّ توجه اليمين إلى من خرج اسمه بالقرعة دون الآخر، عند ما نكل من خرج اسمه لا يرضى به الوجدان. أضف إلى ذلك ما عرفت من أنّ القضاء الحاسم يعتمد على أحد أمرين: البيّنة و اليمين و لا عبرة بالأُولى بعد التعارض فيبقى الثاني.

و أمّا التنصيف فلأنّه المستفاد من ذيل معتبرة إسحاق بن عمّار 3، حيث جاء فيها «فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين» فإذا كان حلفهما سبباً للتنصيف فيفهم عرفاً انّ نكولهما أيضاً سبب له.

اعلم أنّ ما ورد في ذيل معتبرة إسحاق بن عمّار راجع إلى هذه الصورة فقد جاء فيه:

إذا لم تكن العين في يد واحد منهما و أقاما البيّنة، يحلفان فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين فإنّ ظاهرها جواز حلفهما مع أنّ المستفاد من أدلّة القولين: الثاني و الثالث، تحليف من قدّمت يمينه بالمرجّح أو القرعة، فإن حلف قضى له، و إن لم يحلف يحلف الآخر، و لا عامل للذيل و

سيوافيك في الصورة الرابعة ما يجمع به.

الصورة الرابعة إذا ادّعيا ما لا يد عليها لأحد و أقاما البيّنة،

كما إذا ادّعيا الخاتَم الساقط في البئر الذي حُفر للمستطرقين في الصحراء، فقال في الجواهر: إنّ حكمها لهم ما

______________________________

(1) 1 و 2 مرّا برقم 9 و 11.

(2) 3 مرّ برقم 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 129

كانت في يد ثالث لإطلاق الدليل. قال: و لا ينافي ذلك إطلاق خبر تميم بن طرفة بعد تنزيله على غيره. «1»

قال النراقي: لو لم تكن العين في يد أحد، فإن كانت لواحد منهما بيّنة يقضى له، و إن كانت البيّنة فظاهر عبارة الصدوقين أنّ حكمه حكمَ يد الثالث و قال بعض فضلائنا المعاصرين أنّه الأولى و هو كذلك لإطلاق أكثر الأخبار المتقدّمة إن لم نقل جميعها بالنسبة إلى هذه الصورة. «2»

و عليه فيقضى بأرجح البيّنتين عدالة فإن تساويا قضى لأكثرهما شهوداً، و مع التساوي عدداً و عدالة يقرع فمن خرج اسمه أُحْلِف و قُضي له و لو امتنع، أُحلف الآخر و قضى له و إن نكلا قضى به بينهما بالسوية.

و بذلك يجمع بين المرسل «3» الدال على الإقراع، و معتبر إسحاق «4» الدال على تحليفهما، بحملهما على بيان بعض المقصود.

خاتمة المطاف

قد وقفت على الآراء المتضاربة في مسألة تعارض البيّنتين، كرواياتها المشوّشة و قد وافقنا القول المشهور في غالب الموارد و بذلنا غاية الجهد في الجمع بين روايات الباب.

ثمّ إنّ هناك رأياً للسيّد الطباطبائي و حاصله الرجوع إلى القرعة، ثمّ الحلف في عامة الصور إلّا مورد واحد قال: إنّ الأقوى في جميع الصور الأربع الرجوع إلى المرجّحات المنصوصة و غيرها و مع عدمها فإلى القرعة في غير الصورة الأُولى (مراده ما إذا كانت العين بيد ثالث) لما عرفت أنّ اليد مرجّحة لبيّنتها فلا يبقى

محلّ للقرعة فمن خرجت القرعة باسمه يُستحلف فإن حلف يقضى له و إلّا فإن حلف

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 432.

(2) النراقي، المستند: 2/ 557.

(3) مرّا برقم 6 و 2.

(4) مرّا برقم 6 و 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 130

الآخر فكذا يقضى له و إن نكلا قسم بينهما، و في الصورة الأُولى (إذا كانت العين بيد ثالث) إذا قدّمنا إحدى البيّنتين يحتاج إلى الحلف أيضاً لما ذكرناه من أنّ فائدة التقديم سماع قول من قدّمت بيّنته لا أنّها حجّة فعلية كافية. «1»

يلاحظ عليه بوجهين:

1- إنّ القول بشمول روايات القرعة للصورة الأُولى يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنّ ما دلّ على التنصيف فإنّما يعتمد على عمل الإمام في مقام القضاء فلو كان هناك مجال للقرعة فلما ذا لم يعمل بها الإمام و حكم بالتنصيف و لم يكن المقام، مقام بيان الحكم الشرعي حتّى يجوز تأخير القيد.

2- إنّ تقديم القرعة على بيّنة الداخل أو الخارج (في الصورة الثانية) خلاف صريح ما دلّ على أنّ المرجع هو الأخذ بإحدى البيّنتين فلو كان هناك مجال للقرعة لكان ترك ذلك مخلًا.

فالأولى إحالة ما دلّ على الإقراع على الصورتين الأخيرتين كما عليه المشهور من المتأخرين.

نعم إنّ روايات الباب غير نقيّة جدّاً و مشوّشة و لذلك اختلفت الآراء في هذا المقام إلى حدّ ربّما يوجد لشخص واحد رأيان أو أكثر و قد اعتذر عنهم السيّد الطباطبائي و قال: و أمّا الفقهاء فحيث إنّهم لم يلاحظوا مجموع الأخبار بإجراء قاعدة الجمع بينهما و بنوا على الترجيح بذكر السبب فرّقوا بين الصور الأربع و اختلفت أقوالهم فيها خصوصاً فيما إذا كانت العين بيد أحدهما فقد اختلفوا فيها إلى حدّ

أنهاها النراقي في المستند إلى تسعة أقوال. 2

و لكنّك عرفت أنّ السيّد الطباطبائي أيضاً لم يلاحظ جميع الأخبار فقد أسقط العمل بالتنصيف مع وروده في غير واحد من الروايات.

______________________________

(1) 1 و 2 السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 154.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 131

إكمال

قال المحقق: و يتحقق التعارض بين الشاهدين و الشاهد و المرأتين. و لا يتحقق بين شاهدين و شاهد و يمين و لا تعارض بين شاهد و امرأتين و شاهد و يمين.

أقول: أمّا الأوّل فلصدق البيّنة لكلّ واحد منهما و يعبر عنه قوله سبحانه حيث يقول: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ) (البقرة/ 282).

و أمّا الثاني أي الشاهدين و شاهد و يمين فلعدم صدق البيّنة على الثاني و إن كان تثبت به الأموال، و لكن ليس كلّ ما يثبت به الشي ء بيّنة.

و أمّا الثالث فلنفس الدليل المذكور في الثاني.

مواضع القسمة

قال المحقّق: «كلّ موضع قضينا فيه بالقسمة فإنّما هو في موضع يمكن فرضها دون ما يمتنع كما إذا تداعى رجلان زوجة».

قد عرفت موارد الحكم بالتنصيف، فالمراد منه ما يقبل الشركة سواء قبل التقسيم في العين كالحنطة، أو قبل التقسيم في القيمة كالعبد، و أمّا ما لا يقبل ذلك فلا، كما إذا تداعى الرجلان زوجة فهو موضع القرعة، ففي مرسل داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود انّ هذه المرأة امرأة فلان و جاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان فاعتدل الشهود و عدلوا فقال: «يقرع بينهم فمن خرج سهمه فهو الحقّ و هو أولى بها». «1»

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 132

و لو لا أنّ بعض روايات القرعة وردت فيما يقبل القسمة و الشركة و لو في القيمة لحملناها على مورد لا يقبل القسمة و الشركة، غير

أنّ ورودها في غير هذا المقام عاقنا عن الحمل.

غير أنّ من خرجت القرعة باسمه تتوجّه عليه اليمين لأنّ القرعة بمعنى من تصير عليه اليمين و قد وردت اليمين في غير واحد من أخبار القرعة. «1»

نعم قال في المسالك بعد نقل الرواية: «فلا فائدة في الإحلاف بعد القرعة لأنّ فائدته القضاء للآخر مع نكوله و هو منفي هنا. و في الرواية دلالة على نفي اليمين هنا». «2»

يلاحظ على الثاني بما عرفت من ورود الحلف في غير واحد من أخبار القرعة، و أمّا الدليل الأوّل فلا ملازمة بين توجّه اليمين و القضاء بالنكول أو ردّ اليمين إلى الطرف الآخر، أمّا القضاء بالنكول فقد عرفت أنّه يجب أن يحبس الناكل حتّى يحلف أو يعترف أو يردّ اليمين. و أمّا ردّ اليمين فليس المقام من موارده لأنّه من شئون المنكر لا من شئون المدّعي الذي خرجت القرعة باسمه و ليس حلفه دليلًا على كونه منكراً بل هو مدّع يُسمع قوله مع اليمين.

في مرجّحات البيّنات
اشارة

ذكر الفقهاء مرجّحات لتقديم إحدى البيّنتين على الأُخرى، و قد ذكر المحقّق منها اثنين و إليك بيانها:

الأوّل: التقديم بزيادة التاريخ

قال المحقّق: «و الشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث مثل أن

______________________________

(1) لاحظ صحيح الحلبي برقم 11 و خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه برقم 5.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 436.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 133

تشهد إحداهما بالملك في الحال و الأُخرى بقديمه، أو إحداهما بالقديم و الأُخرى بالأقدم فالترجيح لجانب الأقدم، فعلى ذلك لو شهدت إحداهما أنّ العين لزيد من رمضان و قالت الأُخرى إنّها لعمرو الآن، أو شهدت إحداهما بأنّ العين لزيد من قبل ثلاث سنين و قالت الأُخرى إنّها لعمر من قبل سنتين فعلى مذهب المحقّق تقدّم البيّنة التي تشهد على القديم أو الأقدم.

قال الشيخ: إذا تنازعا عيناً من الأعيان عبداً أو داراً أو دابة فادّعى أحدهما انّها له منذ سنتين، و الآخر ادّعى أنّها له منذ شهر و أقام كلّ واحد منهما بما يدّعيه البيّنة أو ادّعى أحدهما أنّه له منذ سنة و قال الآخر: هي الآن ملكي و أقام كلّ واحد منهما بما يدّعيه البيّنة، الباب واحد و العين المتنازع فيها في يد ثالث كانت البيّنة المتقدّمة أولى و به قال أبو حنيفة و هو اختيار المزني و أصح قولي الشافعي و له قول آخر أنّهما سواء.

ثمّ استدل على مختاره بأنّهما إذا تعارضتا فيما تساويا فيه و هو مدّة شهر و سقطتا و بقي ما قبل الشهر ملك و بيّنة لا منازع له فيه فيحكم له بذلك قبل الشهر فلا يُزال عنه بعد ثبوته إلّا بدليل «1».

و حاصله: أنّ البيّنة متقدّمة التاريخ تثبت الملك

في وقت لا تعارضها البيّنة الأُخرى فيه و في وقت تعارضها الأُخرى تتساقطتان في محلّ التعارض و يثبت موجَبها فيما قبل محل التعارض و الأصل في الثابت دوامه.

يلاحظ على الاستدلال: بأنّ الاستصحاب في المقام إمّا مرجع في القضاء أو مرجح لإحدى البيّنتين أو ضميمة لها حتّى يستند إليها القاضي، و الكلّ باطل.

أمّا الأوّل: فلأنّ المرجع في القضاء هو البيّنة و اليمين حسب النبوي الثابت و ليس الاستصحاب منهما و على فرض كونه مرجعاً فإنّما هو إذا علمت الحالة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 134

السابقة عن غير طريق البيّنة المتعارضة.

و أمّا الثاني و هو أن يكون الاستصحاب مرجّحاً لإحداهما فإنّما يصحّ إذا كانت الحالة السابقة محرزة لا بالبيّنة بل بدليل آخر فحينئذ يمكن ترجيح احدى البيّنتين بالاستصحاب، و أمّا المقام فليست الحالة محرزة إلّا بنفس البيّنة، و المفروض أنّها سقطت بالتعارض، و أمّا التفكيك بين مدلول البيّنة بمعنى رفضه في مورد التعارض و الأخذ به في خارجه فأمر لا يوافقه العقلاء في مقام الاحتجاج.

و أمّا الثالث: أي القضاء بإحدى البيّنتين بضمّ الاستصحاب و هو أيضاً باطل لأنّ الأصل في طول البيّنة فكيف يمكن أن يكون معها مستنداً للقضاء.

و يردّ على جميع الصور أنّه تبعيض في التصديق أي تصديق البيّنة في السابق دون اللاحق كما أنّ مقتضى بعض الوجوه الاعتبارية تقديم الشهادة بالحادث على القديم لاحتمال اطّلاع الثاني على ما لم يطلع عليه الأوّل إذ من المحتمل أن يكون مصدر شهادته هو الاستصحاب و مصدر شهادة الآخر هو العلم بالانتقال إلى المشهود له بالبيع و الهبة و غيرهما و لأجل ذلك

لو شهدت أنّه اشتراه من الأوّل قدّمت على الأُخرى قطعاً لأنّها لما صرّحت بالشراء علم أنّها اطّلعت على ما لم تطلع عليه الأُخرى.

فإنّها و إن شهدت بأنّها ملك من ابتداء سنتين مثلًا إلى الآن لكن غايته أنّها علمت ملكه و لم تعلم بمزيله في المدّة، و إذا شهدت الأُخرى بالاشتراء فقد أخبرت عن علمها بالمزيل.

و مع ذلك ففي بعض النصوص إشارة إلى تقديم الشهادة بالسبب القديم، على السبب الحادث ففي صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السَّلام أنّه إذا كان اختصم الخصمان في جارية فزعم أحدهما انّه اشتراها و زعم الآخر أنّه انتجها فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي انتجت عنده. «1»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 135

ثمّ إنّ في مورد ترجيح إحدى البيّنات على الأُخرى بالمرجّح الثاني فروعاً تعرّض بها في الجواهر «1» من حيث كون العين في يدهما أو يد أحدهما تظهر حالهما ممّا ذكرناه.

الثاني: الترجيح بالمدلول

قال المحقّق: و كذا الشهادة بالملك أولى من الشهادة باليد لأنّها محتملة و كذا الشهادة بسبب الملك أولى من الشهادة بالتصرّف.

أمّا الأوّل: لأنّ اليد و إن كانت ظاهرة في الملك إلّا أنّها محتملة لغيره لجواز استنادها إلى العارية و الإجارة و غيرهما بخلاف الملك فإنّه صريح في المطلوب. فكانت الشهادة به مرجّحة و لا فرق على هذا الطريق بين كون تاريخ شهادة اليد متقدّماً بأن شهدت أنّ يده على العين منذ سنة و شهدت بيّنة الملك بتاريخ متأخّر أو متأخّراً لاشتراك الجميع في المقتضي و هو وجود احتمال في اليد بخلاف الملك.

و أمّا الثاني: أعني إذا تعارضت البيّنة بسبب الملك

و البيّنة بالتصرّف، بأن شهدت الأُولى أنّ العين لفلان اشتراها من فلان و شهدت بيّنة الآخر أنّها وجدته يتصرّف في العين تصرّف المالك من البناء و الهدم و البيع و الرهن ففي جميع ذلك تتقدّم الشهادة على سبب الملك على البيّنة بالتصرّف. «2»

و حاصله أنّ اليد و إن كانت أمارة ملكية لكن فيما إذا لم تعارضها البيّنة بالملك فإنّ التصرّف (مثل تصرّف المالك) دليل على الملكيّة حيث لا تعارضه البيّنة على سبب الملك لوجود الاحتمال في التصرّف و عدمه في الشهادة على الملك أو السبب.

كلّ ما ذكروه و إن كان صحيحاً إلّا أنّه لا نحتاج في المقام إلى هذا الإطناب،

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 439.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 437.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 136

لأنّه لو افترضنا وجود العلم الوجداني باليد أو التصرّف لأحد المتنازعين فإنّه يكون محكوماً ببيّنة المتنازع الآخر القائمة على الملكيّة عملًا بقول الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر» و المنكر من له اليد على العين أو المتصرّف فيها مثل تصرّف المالك، فإذا كانت البيّنة متقدّمة على العلم الوجداني فكيف لا تتقدّم على البيّنة القائمة مقام العلم.

تمّ الكلام في المسألة الثانية.

المسألة الثالثة: إذا أقرّ المدّعى عليه بأنّ العين لثالث
اشارة

قال المحقّق: لو ادّعى شيئاً، فقال المدّعى عليه: هو لفلان، اندفعت عنه المخاصمة، حاضراً كان المقرّ له أو غائباً، فإن قال المدّعي: احلفوه انّه لا يعلم أنّها لي، توجهت اليمين، لأنّ فائدتها الغرم لو امتنع لا القضاء بالعين لو نكل أو ردّ، و قال الشيخ: لا يحلف، و لا يغرم لو نكل. و الأقرب أنّه يغرم، لأنّه حال بين المالك و بين ماله، بإقراره لغيره، و لو

أنكر المقرّ له، حفظها الحاكم، لأنّها خرجت عن ملك المقرّ، و لم تدخل في ملك المقرّ له، و لو أقام المدّعي بيّنة، قضي له أمّا لو أقرّ المدّعى عليه بها لمجهول، لم يندفع الخصومة و أُلزم البيان.

أقول: ذكر المحقق في هذه المسألة فروعاً خمسة، نأخذ بالبحث عن كلّ واحد.
الفرع الأوّل: إذا ادّعى شيئاً فقال المدّعى عليه هو لفلان.

اندفعت عنه المخاصمة، حاضراً كان المقرّ له أو غائباً. و المراد من خروجه عن طرف النزاع عدم توجّه الحلف إليه و ذلك لما مرّ من أنّ الحلف يتعلّق بما له صلة بالإنسان و أمّا كون هذا المال للغير فليست له صلة بالمقرّ فلا يتوجّه إليه اليمين.

الفرع الثاني: إذا ادّعى المدّعي أنّ المقرّ كان يعلم بأن العين له

و مع ذلك أقرّ بأنّها للغير، فهل له إحلاف المقرّ أو لا؟ قولان: أحدهما للشيخ و الآخر للمحقّق:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 137

1- قال الشيخ: ليس له الإحلاف، فإنّه لو نكل، أو ردّ اليمينَ إلى المدّعي و حلف، لا يحكم على المقرّ بالغرامة، لأنّه من آثار الإتلاف و هو بعدُ لم يُتلف و إنّما اعترف بأنّه للغير.

2- قال المحقّق ما هذا توضيحه: له الإحلاف، لأنّه لو حلف دفع عن نفسه التهمة و إن نكل أو ردّ اليمين إلى المدّعي و حلف، يغرم لأنّه حال بين المالك و ماله بإقراره لغيره و ليست الغرامة من آثار الإتلاف بل أعمّ منه و من مطلق الخسارة الواردة على المالك لأجل إقراره.

و هناك قول بالتفصيل لصاحب المسالك و هو أنّه لو قلنا في رجل أقرّ لشخص بعد الإقرار لآخر بأنّه يَغْرُم القيمة للثاني فله إحلافه في المقام فلعلّه لا يحلف بل يقرّ فيغرمه القيمة. و إن قلنا في ذلك الباب بأنّه لا يغرم، فعند ذلك يأتي التفصيل المذكور في بابه: إنّ يمينَ المدّعي كإقرار المنكر أو كبيّنة المدّعي فإن قلنا بالأوّل فلا يحلف لعدم ترتّب الأثر على إقراره بانّه للغير، مع العلم بأنّه للمدّعي لأنّ إقراره بأنّه للثالث بمنزلة الإقرار بعد الإقرار لآخر و المفروض عدم ترتّب الأثر عليه في صورة العلم الوجداني فكيف إذا ثبت بيمين

المدّعي و إن قلنا بأنّه كبيّنة المدّعي فله التحليف لأنّه إذا نكل و حلف المدّعي (أثبت بدليله الشرعي أنّ العين له) فإذا كانت العين تالفة أخذ القيمة و لو ردّ عليه العين (إذا لم تكن تالفاً) ردّ القيمة لأنّه إنّما غرم القيمة للحيلولة «1».

و أورد عليه في الجواهر بأنّه لو افترضا أنّ يمين المدّعي المردودة بمنزلة بيّنة المدّعي، لكن مفاد البيّنة في المقام هو أنّ المقرّ مع علمه بأنّ العين للمدّعي، أقرّ بأنّه للثالث، و هذا لا يترتّب عليه الأثر حسب الفرض. و بعبارة أُخرى ليست يمين المدّعي المنزّل منزلة البيّنة فوق العلم الوجداني بأنّه قد أقرّ للغير مع العلم بانّه للمدّعي، و المفروض عدم ترتّب الأثر عليه. نعم لو كانت مفاد البيّنة التنزيلية

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 437.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 138

هو أنّ العين للمدّعي، كان له إحلافه فلو نكل أو ردّ اليمين يغرم، لأنّ يمين المدّعي بمنزلة البيّنة على كون المدّعي مالكاً و لكن أين هو من مفاد اليمين المردودة في المقام حسب الفرض.

و مع ذلك فالحقّ هو الغرامة و ذلك لأنّه لو حلف دفع الاتّهام عن نفسه و أمّا لو نكل أو ردّ اليمين إلى المدّعي، ثبت أنّه صار سبباً للحيلولة بين المالك و ماله و هذا المقدار من السببيّة كاف في تغريمه إلى أن تعود العين إليه بإقامة الدعوى على المقرّ له، و عندئذ تدفع الغرامة المؤقّتة إلى المقرّ.

الفرع الثالث: و لو أنكر المقرّ له

قال المحقّق: حفظها الحاكم لأنّها خرجت عن ملك المقرّ و لم تدخل في ملك المقرّ له. و لو أقام المدّعي بيّنة قضى له.

حاصله أنّ العين تبقى بيد الحاكم، لكونها مجهولَ المالك، فلو أقام

المدّعي البيّنة على أنّها له، قضى له. و قال العلّامة في قواعده: تدفع إليه بلا بيّنة و لا يمين، لكون دعواه دعوى بلا منازع و هو غير تامّ لأنّه إنّما يكون كذلك فيما إذا لم يكن عليها يد و المفروض استقرار يد الحاكم عليها و هو يد نيابيّة عن مالكها الواقعي، فلا يدفع إلّا إلى مالكها الواقعي، نظير اللقطة، فلا يدفع لمن ادّعاها إلّا بعد ثبوت كون المدّعي مالكاً.

الفرع الرابع: لو اعترف ذو اليد (المدّعى عليه) بأنّها لمجهول

لم تندفع الخصومة و أُلزِمَ البيان.

أقول: إنّ المقرّ تارة يقول ليست لي بل هي لغيري على وجه يحتمل دخول المدّعي في ضمنه فعندئذ أُلزم البيان، لأنّه متّهم بأنّه حال بينه و بين ماله، و أمّا إذا صرّح بأنّها ليست للمدّعي و إنّما هي لغيره، فبذلك دفع عن نفسه الخصومة، فلا دليل على إلزامه بالبيان فيخرج المقرّ عن أطراف النزاع و بما أنّ المقرّ اعترف بانّها للغائب فلو أثبت المدّعي بالبيّنة أو الشاهد و اليمين أنّ العين له يقضى له، لكن الغائب على حجّته، و لأجل ذلك يلزم على الحاكم أخذ الضامن لئلّا يتضرّر

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 139

الغائب إذا ثبت خلافه.

المسألة الرابعة: دوران الأمر بين الإجارة و الإيداع

قال المحقّق: إذا ادّعى أنّه أجّره الدابة و ادّعى آخر أنّه أودعه إيّاها تحقّق التعارض مع قيام البيّنتين بالدعويين، و عُمِل بالقرعة مع تساوي البيّنتين في عدم الترجيح.

ما ذا يريد المحقّق من كلامه هذا فهل الدعويان المختلفتان من مصاديق الدعوى في الأملاك أو من مصاديق الدعوى في العقود؟ و بما أنّ الثاني يأتي في المقصد الثاني و هو بعدُ لم يخرج عن المقصد الأوّل يلزم حمل العبارة على الاختلاف في دعوى الملك. فنقول:

المقصود أنّه إذا كانت العين بيد ثالث غائب فادّعى أحد المدّعيين أنّه أجّرها له و ادّعى المدّعي الآخرُ أنّه أودعه إيّاها فيعود واقع النزاع إلى الاختلاف في مالك العين فالأوّل يدّعي أنّه المالك آجرها للثالث و الثاني يدّعي أنّه المالك لكنّه أعاره إيّاها فليس النزاع في العقد الخارجي حتّى يدّعي أحدهما أنّه كان إجارة و الآخر أنّه كان إيداعاً، بل النزاع في المالكية يدّعي أحدهما بتصرّفه فيها بالإجارة، أنّه المالك، و الآخر يدّعي بتصرّفه فيها

بالإيداع، أنّه المالك و عند ذلك يعود النزاع إلى الاختلاف في دعوى الملكيّة و بذلك يظهر ضعف ما ذكره في المسالك من أنّ ذكر هذه المسألة في المقصد الثاني أولى لأنّ الاختلاف فيها اختلاف في العقود. «1»

و ذلك لأنّه إنّما يكون النزاع في العقود إذا كان النزاع ثُنائياً لا ثلاثياً كما في المقام و ذلك بأن اتّفق المالك و القابض على صدور عقد من المالك فيدّعي الأوّل أنّه كان إيداعاً و الآخر أنّه كان إجارة أو بالعكس و لو كان كذلك فالمرجع في

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 437.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 140

الصورتين هو ضمان ما أتلف إلّا إذا ثبت تسليط المالك على ماله بالمجّان.

ثمّ إنّ المفروض أنّ من بيده المال إمّا غائب عن محلّ المحاكمة أو ميّت و ليس للوارث فيها ادّعاء فلا تلحق المسألة بالصورة الثالثة التي، قلنا إنّ لها حالات خمس: حيث إنّ الثالث إمّا أن يصدّقهما أو يصدّق أحدهما أو يكذبهما إلى آخر ما ذكرناه بل الأولى إلحاقها بالصورة الرابعة الأصلية الماضية، التي يدّعي المدّعيان فيها عيناً، ليس لأحد عليها يد و المقام أيضاً نظيرها و قد تقدّم أنّ المرجع فيها هي القرعة، لخبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري و فيه: كان علي عليه السَّلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين «1» و نظيره خبر داود بن سرحان 2 و حسنة زرارة 3 و صحيح الحلبي 4.

ترى أنّ جميعها تؤكد على القرعة عند عدم الترجيح و إلّا فالعمل بأرجح البيّنتين و قد اتخذ المحقق هذه الروايات سنداً لفتواه و روايات القرعة و

إن كانت مطلقة تعم الصور الأربع، لكنّها محمولة على غير الصورتين الأُوليين جمعاً بين الأدلّة كما أنّها ساكتة عن ردّ اليمين إذا نكل من خرجت القرعة باسمه، لكنّه ورد في صحيح إسحاق بن عمّار 5 و فيه: «فقيل له فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة. فقال: احلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين». 6 بعد تقييد الإحلاف في الصحيح بالإقراع جمعاً بينه و بين الروايات السابقة كما يقيّد معتبر غياث بن إبراهيم بمجموع ما سبق حيث جاء فيها: «لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين».

المسألة الخامسة: قد ذكر المحقّق فيها فروعاً ثلاثة:
اشارة

______________________________

(1) 1، 2، 3، 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5، 6، 7، 11.

(2) 5 و 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 141

الفرع الأوّل: لو ادّعى داراً في يد انسان و أقام بيّنة أنّها كانت في يده أمس أو منذ شهر، فهل تُسْمع البيّنة أو يقضى بظاهر اليد؟

التحقيق أنّه يقضى بظاهر اليد لأنّ مفاد البيّنة لا يتجاوز عن كونه مالكاً، أو كون العين تحت يده أمس، أو متصرّفاً فيها في ذلك الظرف، و هي بهذا المضمون لا تعارض ظاهر اليد الدال على كونه مالكاً الآن، إذ لا منافاة بين المضمونين، حتّى يقدّم أحدهما على الآخر.

أضف إلى ذلك، أنّ الشهادة لا تطابق الدعوى إذ بيّنته قائمة على مالكيته في الظرف الغابر و لكنّه يدّعي أنّه المالك الآن، فكيف تثبت بها.

نعم استقرب المحقّق القضاء على وفق البيّنة قائلًا بأنّ اليد الحاضرة و إن كانت دليل الملك لكن الملكية السابقة المسلّمة إذا ضمّ إليها الاستصحاب يثبت انّه المالك الآن، و أمّا كونها أرجح لتضمّن البيّنة مع الاستصحاب شيئاً زائداً على مفاد اليد و هو كونه مالكاً في الزمن السابق.

و ذهب الشيخ إلى عدم السماع و قال:

«إذا ادّعى داراً في يد رجل فقال: هذه الدار الّتي في يديك لي و ملكي فأنكر المدّعى عليه فأقام المدَّعي البيّنة أنّها كانت في يديه أمس أو منذ سنة سواء، فهل تُسمع هذه البيّنة أم لا؟ قال قوم: هي غير مسموعة. و قال آخرون: مسموعة و يقضى للمدّعي، و لا فصل بين أن تشهد البيّنة له بالملك أمس، و بين أن تشهد له باليد أمس، و الصحيح عندنا أنّ هذه الدعوى غير مسموعة.

فمن قال: هي مسموعة حكم بالدار للمدّعي، و من قال: غير مسموعة

فلا بيّنة مع المدّعي فيكون القول قول المدّعى عليه مع يمينه». «1»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 269.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 142

يلاحظ على مختار المحقّق أوّلًا: أنّه لو افترضنا العلم الوجداني بكون المدّعي مالكاً أمس لا يكون معارضاً لمفاد اليد، فكيف بالبيّنة القائمة مقامها؟!

و ثانياً: أنّ اليد مقدّمة على الاستصحاب و إلّا لزمت لغوية حجّية اليد، إذ ما من عين تحت يد إنسان، إلّا و هي كانت ملكاً للغير قبل استيلاءه عليها فلو كان الاستصحاب مقدّماً على مفاد اليد، لزمت لغوية تشريع حجّيتها و لذلك قالوا بحكومة اليد على الاستصحاب.

و ثالثاً: مَنِ المستصحب، فهل هو الحاكم، أو الشاهد؟ أمّا الأوّل فليس بصحيح لأنّ أداة القضاء حسب النبوي الشريف منحصرة في البيّنة و اليمين لا غير، أمّا الثاني، فقد تعرّض به العلّامة في القواعد و قال لو قال: أعتقد أنّه ملكه بالاستصحاب ففي قبوله إشكال، أوجهه أنّ له الشهادة بما شهد، لا بما استصحب.

الفرع الثاني إذا شهدت بيّنة المدّعي أنّ صاحب اليد غصبها أو استأجرها منه

حكم ببيّنة المدّعي، لأنّها شهدت بالملك و سبب يد الثاني.

حاصله: وجود الفرق بين الفرعين فإنّ البيّنة في الأوّل شهدت بملكية المدّعي في الأمس، و لذلك لم تزاحم مقتضى اليد و هو أنّ المتشبّث مالك، بخلاف هذا.

توضيحه: إنّ البيّنة إمّا أن تشهد بأنّ استيلاء الثاني على العين كان عدوانياً أو أمانيّاً من جانب المالك و هو مستمر إلى حين الشهادة، و إمّا أن تشهد بأنّه كان كذلك في السابق من دون تعرّض للوضع الحاضر.

أمّا الأوّل: فالبيّنة بالدلالة الالتزامية تدلّ على أنّ المدّعي هو المالك و الآخر هو الغاصب أو المستأمن من جانب المالك فتقدم على مقتضى اليد لتبين فسادها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص:

143

و على الثاني فالشهادة و إن كانت مقتصرة على الماضي غير انّ قول من أقام البيّنة هو الموافق للأصل و هو عدم تجدّد يد أُخرى غير الأُولى له. فيكون منكراً فيكون قول القائل بحدوث يد أُخرى وراء الاستيلاء الغصبي أو الاستيجاري مدّعياً فيحلف.

و بذلك بان الفرق بين الفرعين و حاصله تبيّن فساد اليد في الثاني دون الأوّل. و إلى ما ذكرنا ينظر كلام الشيخ حيث قال:

هذا إذا لم يعلم سبب يد المدّعى عليه، فأمّا إذا علمت سبب يد المدّعى عليه، فقالت البيّنة نشهد أنّه كان في يده، و أنّ الذي هو في يده أخذه منه أو غصبه إيّاها أو قهره عليها فحينئذ يقضى للمدّعي بالبيّنة لأنّها شهدت له بالملك، و سبب يد الثاني، فلهذا حكمنا عليه بذلك، و يفارق إذا لم يشهد بسبب يد الثاني، لأنّ اليد إذا لم يعرف سببها دلّ على الملك، فلا تزال بأمر محتمل، فبان الفصل بينهما. «1»

الفرع الثالث قال المحقق: لو قال غصبني إيّاها و قال آخر بل أقرّ لي بها و أقاما البيّنة

قضي للمغصوب منه و لم يضمن المقرّ لأنّ الحيلولة لم تحصل بإقراره بل بالبيّنة.

قال الشيخ: إذا تنازعا داراً في يدي رجل فادّعى أحدهما فقال هذه الدار غصبتني عليها و أقام البيّنة بذلك و قال الآخر: الدار لي أقرّ لي بها و أقام البيّنة بذلك، حكمنا بها للمغصوب منه لأنّها شهدت له بالملك، و أنّ الدار في يده غصب، و الّتي شهدت على الإقرار بها كان إقراره بدار مغصوبة، فلا ينفذ إقراره فيها فيدفع الدار إلى المغصوب منه و لا يغرم المدّعى عليه شيئاً للّذي شهد له بالإقرار، لأنّه ما حال بينه و بينها، و إنّما حالت البيّنة بينه و بين الدار، فلأجل

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 269.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة

الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 144

ذلك لم يلزمه شي ء. «1»

توضيح صورة الفرع: أنّ النزاع في الفرعين السابقين كان ثنائياً فكان المدّعي ذا بيّنة أمام صاحب اليد غير أنّ البيّنة كانت قائمة في الفرع الأوّل على الملكية في الظرف الغابر، من دون تعرّض لفساد اليد، بخلافها في الصورة الثانية فهي كانت قائمة على فساد اليد على التفصيل السابق، و أمّا المقام فالنزاع ثلاثي فالعين بيد الثالث و أحد الشخصين يدّعي كونه مالكاً بشهادة بيّنته و الشخص الآخر يدّعي أنّ ذا اليد أقرّ بمالكيته و أقام بيّنة على إقرار الثالث لذلك الشخص، ففي هذا الفرع تقدّم بيّنة المدّعي لأنّها أثبتت فساد اليد و أنّها كانت عدوانية أو غير مالكية فيفسد إقراره في زمن اليد لانّه إقرار إمّا بعين مغصوبة أو غير مملوكة، فلا ينفذ في حقّ الآخر.

ثمّ إنّ هناك سؤالًا، و هو أنّ المقرّ أي الشخص الثالث هل يضمن قيمتها للمقرّ له أو لا؟ و الظاهر عدم ضمانها لانّه ليس من قبيل من أقرّ لشخص بعد إقراره لشخص آخر و إنّما أقرّ لشخص واحد و هو بعدُ على إقراره و لم يكن سبباً للحيلولة بينها و بين مالكها (المقرّ له) و إنّما حالت بيّنة المدّعي، فلا يصحّ تنزيل بيّنة المدّعي إقراراً أوّلًا و إقراره للمقرّ له إقراراً ثانياً. غاية ما في الباب يعد إقراره حسب الظاهر إقراراً كاذباً و أمّا الواقع فاللّه هو العالم.

تمّ الحديث حول المقصد الأوّل من المقاصد الأربعة التي تعرفت على فهرسها و إليك الكلام حول المقصد الثاني.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 270.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 145

المقصد الثاني: في الاختلاف في العقود

اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى: إذا اتّفقا على استئجار دار معيّنة شهراً معيّناً و اختلفا في الأُجرة
اشارة

و للمسألة شقوق و إليك بيانها:

1- إنّهما إمّا أن يعدما البيّنة.

2- و إمّا أن يقيما البيّنة.

3- و إمّا أن يقيم أحدهما البيّنة.

و على كلّ تقدير فالاختلاف إمّا بعد استيفاء المدّة أو في أثنائها أو في ابتدائها فتكون الصور حينئذ تسع.

أمّا الشقّ الأوّل بصوره الثلاث «1» فالمشهور تقديم قول المستأجر

و عن التذكرة نسبته إلى علمائنا، و أنّ النزاع من قبيل المدّعي و المنكر فالمؤجر يدّعي على المستأجر عشرة دنانير، و المستأجر يعترف بخمسة و ينفي الزائد، فالبيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر، خلافاً للشيخ حيث قال بالتحالف و جعل المقام من قبيل التداعي و قال بوجوب أُجرة المثل «2»، و أفاد ما هذا توضيحه:

إنّ كلًا منهما مدّع و مدّعى عليه، لانّ العقد المتشخص بالعشرة غير العقد

______________________________

(1) لا يخفى على القارئ انّ تفصيل المطالب بصورة المسائل راجع إلينا و إلّا فالمحقق يورد الفروع بلا تفصيل.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 263.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 146

المشتمل على الخمسة خاصة، فيكون كلّ واحد منهما مدّعياً لعقد غير العقد الذي يدّعيه الآخر و هذا يوجب التحالف حيث لم يتفقا على شي ء و يختلفا فيما زاد عنه.

و أورد عليه في المسالك بأنّ العقد لا نزاع بينهما فيه و لا في استحقاق العين المؤجرة للمستأجر و لا في استحقاق المقدار الذي يعترف به المستأجر و إنّما النزاع في القدر الزائد فيرجع فيه إلى عموم الخبر (البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر) و لو كان ما ذكر من التوجيه موجباً للتحالف يورد في كلّ نزاع على حق مختلف المقدار كما لو قال: اقرضتك عشرة فقال: لا بل خمسة، فإنّ العقد المتضمن لأحد المقدارين غير العقد المتضمن للآخر و كما لو قال: ابرأتني

من عشرة من جملة الذي عليه فقال: بل من خمسة، فإنّ الصيغة المشتملة على إسقاط أحدهما غير الأُخرى و هكذا القول في غيره و هذا ممّا لا يقول به أحد، و الحقّ أنّ التحالف إنّما يرد حيث لا يتفق الخصمان على قدر و يختلفان في الزائد عنه كما لو قال الموجر: آجرتك الدار شهراً بدينار فقال المستأجر: بل بثوب، أو قال: آجرتك هذه الدار بعشرة فقال: بل تلك الدار، و نحو ذلك، أمّا في التنازع فالقول المشهور من تقديم قول المستأجر هو الأصح. «1»

ثمّ إنّ صاحب الجواهر بعد ما نقل نقد المسالك أراد إيجاد التصالح بينه و بين الشيخ بأنّه يجب الإمعان في مصبّ الدعوى، فإن كان مصبّ الدعوى هو اختلافها في تشخص العقد الذي هو سبب الشغل فالمورد من قبيل التحالف إذ لا فرق في مشخصاته بين زيادة الثمن و نقصانه و بين غيرهما من المشخصات.

و إن كان مصبّ الدعوى هو طلب الزائد و إنكاره و إن صرّحا بكون ذلك من ثمن الإجارة يكون من باب التنازع و كان الموجر مدّعياً و المستأجر منكراً. «2»

و لا يخفى ما في نظره من التكلّف فإنّ مفهوم المدّعي و المنكر من المفاهيم العرفية الموجودة قبل الإسلام و بعده و ليس الإسلام مخترعاً لهذين المفهومين، و على

______________________________

(1) المسالك: 2/ 438.

(2) الجواهر: 40/ 458.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 147

ضوء ذلك فبما أنّ المترافعين من عامة الناس و ليس لهما غرض إلّا استحصال الحقّ فعلى ذلك لا يكون مصبّ الدعوى و ما يذكرونه في كلامهما مقياساً لتشخيص المدّعي عن المنكر لأنّ كلامهما هذا مرآة و طريق إلى نواياهم و أغراضهم التي دعتهم إلى

الحضور للمحكمة و هي تحصيل الحق، و عليه فلا فرق بين الصورتين سواء قال المدّعي آجرته الدار بعشرة و قال الآخر: آجرني الدار بخمسة، أو قال: لي عليه عشرة دينار من أجل إجارة الدار و قال الآخر: عليّ له خمسة دينار من تلك الجهة و على كلّ تقدير فلو كان النزاع بعد الاستيفاء فالغرض الأصلي للحضور في المحكمة هو استحصال الزائد عن الخمسة.

نعم لو كان هناك اختلاف في المبيع كأن يقول أحدهما: بعتك غنماً و قال الآخر: باعني بقرة، أو قال الأوّل: بعتك الغنم بعشرة دنانير و قال الآخر: باعني بثوب أو كتاب، فلا شكّ أنّ المقام من قبيل التداعي إذ لم يتّفقا على شي ء حتّى يختلفا في الزائد. هذا كلّه حول الصورة الأُولى و إليك الكلام حول الصورة الثانية.

الصورة الثانية إذا اتفقا على استئجار دار معيّنة شهراً معيّناً و اختلفا في الأُجرة و أقام كلّ منهما بيّنة بما قدر

، فقد نقل المحقق قولين:

1- إن تقدّم تاريخ إحداهما عمل به، لأنّ الثاني يكون باطلًا.

و إن كان التاريخ واحداً تحقق التعارض إذ لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين متنافيين و حينئذ يقرع بينهما و يحكم لمن خرج اسمه مع يمينه، قال: هذا اختيار شيخنا في المبسوط. «1»

و لنأخذ هذا القول بالبحث.

______________________________

(1) لاحظ المبسوط: 8/ 263، و قد بسط الكلام في الصور و لخصه المحقق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 148

أمّا الشق الأوّل من كلامه و هو: تقديم أقدم البيّنتين تاريخاً، فكما إذا شهدت إحداهما على إجارة الدار بأُجرة في شهر رمضان و الأُخرى على الإجارة في شهر شوال و هو مبنيّ على أنّ التقدّم بالتاريخ من المرجّحات، و قد تقدّم الكلام منّا عند قول المحقق: «و الشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث» و قلنا هناك: إنّ التقدّم تاريخياً

ليس بمرجّح، بل ليست البيّنتان عندئذ من المتعارضين إذ لا منافاة بين العقدين لإمكان وقوع إقالة بينهما، و الحكم ببقاء الإجارة الأُولى تمسكاً بالاستصحاب غير تام لانّ المستصحِب إمّا هو الحاكم أو الشاهد.

أمّا الأوّل فالمفروض انّ أداة القضاء منحصرة في الأيمان و البيّنات و ليس الاستصحاب منهما.

و أمّا الثاني، فالمفروض سكوت الشاهد عن الحالة اللاحقة و قد تفطّن صاحب الجواهر بهذا الإشكال و حاول دفعه بقوله: «بعد اتّفاقهما على عدم الإقالة» لكن كلام المحقق مطلق، نعم لو اتّفقت البيّنتان أو الطرفان على عدم الإقالة قُدِّمتْ البيّنة الأُولى لأنّ الاتفاق على عدم الإقالة يثبت بقاء الإجارة الأُولى، فيكون العقد الثاني باطلًا.

و أمّا الشقّ الثاني، أي إذا لم تكونا مؤرختين أو كانت إحداهما مؤرخة دون الأُخرى، فالحكم بالإقراع مبنيّ على دخول المورد في روايات الباب التي مرّت في المسائل السابقة، و الفارق بين هذه الصورة و الصورة الأُولى حيث ذهب الشيخ هناك إلى التحالف و التساقط و الحكم بفسخ العقد و الرجوع إلى أُجرة المثل بخلاف المقام، حيث اختار القرعة ثمّ حَلْفِ من خرجت القرعة باسمه، هو وجود البيّنتين في المقام دون الآخر.

و بعبارة أُخرى لمّا كانت الدعوى في الصورة الأُولى مجرّدة عن البيّنة دخل المورد عند الشيخ في باب التداعي و الحكم فيه هو التحالف و انفساخ العقد بحكم الحاكم و الرجوع إلى أُجرة المثل، بخلاف الصورة الثانية فإنّ اقترانها بالبيّنتين

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 149

جعلها داخلة في باب تعارض البيّنتين و الحكم في مثلها هو الإقراع إذا لم تكن إحداهما مرجّحة، و في الحقيقة تكون الصورة الثانية أشبه بالصورة الرابعة من الصور الأربع الماضية في المسائل السابقة و

هو إذا ما ادعيا شيئاً و لم يكن عليه يد واحد منهما، فإنّ العين المستأجرة خارجة عن حريم النزاع، و أمّا المنافع فليست عليها يد لأنّ استيفاءها تدريجي لا يقبل الاستيلاء.

هذا توضيح لكلام الشيخ و سيوافيك ما فيه.

2- ما حكي عن ابن ادريس أنّه يقضى ببيّنة المؤجر. لأنّ القول قول المستأجر لو لم يكن بيّنة، و من كان القول قوله مع عدم البيّنة كانت البيّنة في طرف المدّعي، و حينئذ نقول هو مُدعى زيادة و قد أقام البيّنة بها فيجب أن يثبت.

ثمّ إنّ المحقق بعد ما نقل القولين قال: و في القولين تردّد، و فسّره في الجواهر بقوله: «و في إطلاق القولين تردّد». بناء على ما مضى منه من جعل الدعوى تارة من قبيل المدّعي و المنكر، و أُخرى من قبيل المتداعيين. و حاول بذلك أن يثبت أنّ المحقق تأمل في إطلاق كلّ من القولين و إلّا فالقولان بلا إطلاق صحيحان لكن كلًا في مورده.

يلاحظ على هذا القول، بأنّه لم يدل دليل على ما ادعاه «من أنّ كل من كان القول قوله مع عدم البيّنة كانت البيّنة في طرف المدّعي» و ذلك لأنّه إن أراد انّه تسمع بيّنة المدّعي إذا لم تكن للآخر بيّنة فهو متين و لكنّه غير المدّعى، و إن أراد أنّه تقدّم بيّنة المدّعي على بيّنة المنكر فهو أوّل الكلام لما مرّ من أنّ قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر» لا يحمل معنىً سلبياً و هو عدم حجّية بيّنة المنكر إذا كانت مع المدّعي بيّنة، بل أقصى ما يستفاد منه هو أنّ إقامة البيّنة من واجب المدّعي في مقابل المنكر و أنّ المنكر

يكفيه عدم الدليل على الإثبات، و بعبارة أُخرى أنّ العب ء على عاتق المدّعي و ليس على عاتق المنكر شي ء، لانّ المدّعي يريد إثبات حقّ أو إزالته، فعليه السعي و الجهد دون المنكر، و أمّا أنّه إذا سعى

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 150

المنكر و تحمل العب ء و أقام بيّنة فلا تسمع، فهذا ما لا يستفاد من الحديث النبوي.

و على ذلك تكون البيّنتان متعارضتين، فيؤخذ بأرجحهما كالأكثرية عدداً و عدالة، و إلّا فيرجع إلى القرعة كما ذكره الشيخ.

و مع ذلك كلّه فقول الشيخ من الرجوع إلى القرعة في المقام، مبنيّ على وجود الإطلاق في الروايات الآمرة بالقرعة عند تعارض البيّنتين بحيث يشمل الاختلاف في العقود و قد قدّمنا الكلام فيه بدراسة روايات الباب و حاصله أنّ موردها بين مجمل فاقد للإطلاق كخبر عبد الرحمن البصري فيه: ثمّ يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف. «1» و خبر داود بن سرحان في شاهدين شهدا على أمر و جاء ... فأجاب يقرع بينهم فأيّهم قرع، عليه اليمين و هو أولى بالقضاء 2 و صحيح حمّاد في رجلين شهدا على أمر 3 و بين وارد في الحقوق كخبر داود بن أبي يزيد العطّار 4 الوارد فيما إذا ادعيا زوجيّة امرأة، أو الأموال و هي أكثرها كرواية زرارة الواردة في الاختلاف في مقدار الدرهم الذي كان عنده و رواية سماعة 5 و رواية عبد اللّه بن سنان 6 الواردتين في الاختلاف في ملكية الدابة فكيف يمكن التمسك بها في الاختلاف في العقود كما في المقام حيث إنّ أحدهما يدّعي أنّه آجره بعشر و الآخر بخمس، ففي مثل المقام لا محيص من الرجوع إلى

أحد الأُمور الثلاثة:

1- ترجيح بيّنة المدّعي على بيّنة المنكر، كما عليه ابن إدريس قائلًا بعدم حجّية بيّنة المنكر، عند التعارض.

2- ترجيح بيّنة المنكر أي الداخل لما مرّ من ورود ترجيحها على الأُخرى في الروايات و لكن شمولها للمقام مشكل، لأنّ ترجيح بيّنة المنكر عند الاختلاف في الملكية لأجل أنّ استيلاءه على العين يكون مؤكداً لصدق بيّنته و مرجحاً لها فتقدّم

______________________________

(1) 1- 6 الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5، 6، 11، 8، 7، 12، 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 151

على الأُخرى. و أمّا المقام فليس النزاع في ملكية العين حتّى يعدّ الاستيلاء مرجّحاً لها بل في أُجرة منفعة العين قبل الاستيفاء أو بعده أو أثنائه و نسبة المنفعة التي اتّفقا على نقلها، إلى المدّعي و المنكر، سواء.

3- الرجوع إلى قواعد القضاء بعد سقوط البيّنتين من الحجّية و هو إمّا التحالف و انفساخ العقد و الرجوع إلى أُجرة المثل إذا كان المورد من قبيل التداعي أو استحلاف المنكر إذا كان من باب التنازع و اختلاف المدّعي و المنكر، فيحلف المنكر أو يردّه إلى المدّعي و بما أنّ المقام من قبيل الثاني، بشهادة أنّ المؤجر بصدد إثبات حقّ غير ثابت، فالمرجع حلف المنكر.

الصورة الثالثة: إذا كانت البيّنة لأحدهما

إذا كانت البيّنة لأحدهما فعلى ضوء ما ذكرنا يؤخذ بها سواء كانت للمدّعي أو للمنكر، و على ما ذكره ابن إدريس من عدم حجّية بيّنة المنكر فيؤخذ بها إذا أقامها المدّعي لا المنكر، و قد عرفت ضعفه.

المسألة الثانية لو ادّعى استئجار دار فقال المؤجر بل آجرتك بيتاً منها
اشارة

للمسألة صور ثلاث:

الأُولى: إذا لم تكن لهما بيّنة.

الثانية: إذا كان لهما بيّنة.

الثالثة: إذا كانت لأحدهما بيّنة.

[أما الصورة الأولى إذا لم تكن لهما بينة.]

أمّا الأُولى: ففيها قولان:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 152

1 قول الشيخ و هو أنّه يقرع بينهما.

2- قول ابن إدريس و هو أنّ القول قول الموجر.

أمّا قول الشيخ فهو مبنيّ على أنّ المقام من باب التداعي فيقرع بين المدّعين.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ المقام من قبيل الأقلّ و الأكثر فالمستأجر يدّعي استئجار جميع البيت و الموجر يدّعي غرفةً واحدة، و على ضابط القضاء يحلِفُ المنكر و هو الموجر كما عليه القول الثاني. نعم إنّما يكون من باب التداعي إذا اختلفا في الدار المستأجرة فادّعى كلّ، إجارة دار، غير ما يدّعيه الآخر، و المفروض في كلام المحقّق غير ذلك.

و ثانياً: نفترض أنّه من باب التداعي لكن حكمه التحالف لا القرعة فيتحالفان فينفسخ العقد بحكم الحاكم فيرجع إلى أُجرة المثل عند الاستيفاء، و العجب أنّ المحقّق اختار القرعة و استدل عليه بقوله: «لأنّ كلًا منهما مدع» مع أنّ مقتضى تعليله التحالفُ و الفسخ، لا القرعة.

و أمّا قول ابن إدريس فهو الحقّ كما تبيّن.

و أمّا الصورة الثانية [أي إذا كان لهما بينة]

فقد أفاد المحقّق و قال:

«و لو أقام كلّ منهما بيّنة تحقّق التعارض مع اتّفاق التاريخ و مع التفاوت يحكم للأقدم لكن إن كان الأقدمُ بيّنةَ البيت حكم بإجارة البيت بأُجرته، و بإجارة بقيّة الدار بالنسبة من الأُجرة».

فله دعويان:

الأُولى: أنّه مع اتّفاق التاريخ أو إطلاقهما أو إطلاق إحداهما و تاريخ الأُخرى و التساوي في العدد و العدالة، يقرعُ بينهما، و لكنّه مبنيّ على شمول أدلّة القرعة عند تعارض البيّنتين للاختلاف في العقود كما في المقام، حيث يختلفان في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 153

أنّ العقد هل تعلّق بالبيت وحده أو على مجموع الدار، و قد

عرفت أنّ روايات القرعة بين مجمل لا يحتج به، أو مختص بالأعيان الشخصية و لا يعمّ الاختلاف في العقود، و على ذلك فالرجوع إلى القرعة غير واضح و سيوافيك ما هو المرجع في هذه الحالة.

الثانية: أنّه مع التفاوت في التاريخ يحكم للأقدم، و لكن إن كان الأقدم بيّنة البيت حكم بإجارة البيت بأُجرته و بإجارة بقية الدار بالنسبة من الأُجرة. و ذلك لأنّه إذا كانت بيّنة البيت متقدّمة التاريخ يؤخذ بها فتكون الأُجرة المدعاة على ذمّة المستأجر شرعاً.

و بما أنّ بيّنة المستأجر قامت على استئجار الدار بنفس الأُجرة يحكم بها عليه و لمّا ثبت استئجار البيت بالبيّنة السابقة تستقر بها عليه أُجرة الدار سوى ما يقابل البيت مثلًا إذا فرض أنّ الأُجرة التي اتّفقا عليها عشرة دنانير لكن ادّعى المستأجر أنّها أُجرة الجميع و ادّعى الموجر أنّها أُجرة البيت و كان المتقدّم تاريخاً بيّنة البيت، ثبت على المستأجر خمسة عشرة: عشرة دنانير أُجرة البيت ببيّنة المؤجر و خمسة في مقابل باقي الدار ببيّنة المستأجر.

يلاحظ عليه: أنّه كيف يمكن أن يحكم على المستأجر بدفع خمسة عشر دينار مع أنّهما متسالمان على أنّ الموجر لا يستحق أكثر من عشرة دنانير فكيف يستحق الخمسة مع العلم التفصيلي بعدم الاستحقاق و قياس المخالفة في المقام بالمخالفة في مورد الودعيّ حيث إنّ الدينار المتروك لواحد منهما فكيف يُقسَّم بينهما قياس مع الفارق، لأنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظ في العلم الإجمالي بالمخالفة دون العلم التفصيلي بها، فلا يجوز المخالفة معه أبداً.

و بذلك يظهر أنّ ما اعتذر به صاحب الجواهر عن هذا الإشكال غير تامّ، حيث قال: و لا ينافي ذلك خروجُه عن دعواهما الّتي هي وقوع عقد واحد منهما و كون

العوض فيه عشرة، و إنّما الاختلاف فيما تضمّنه في مقابلة العشرة، الدار

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 154

أو البيت لأنّ الثابت في الشرع حجّية بيّنتهما لا دعواهما و قد اقتضتا ما عرفت. «1» و ذلك لأنّهما إذا اتّفقا على وحدة العقد و مقدار الثمن فكيف يستحقّ أكثر ممّا اتّفقا عليه و ما ذكره إنّما يصحّ في مورد العلم الإجمالي لا التفصيلي كما في المقام.

و الظاهر وحدة الحكم في الصورتين (فقدان البيّنة و واجد منها)، و ذلك لأنّه إذا لم تشمله أدلّة القرعة (لأجل كون النزاع في العقود لا الأعيان الشخصية) فالمرجع هو تساقط البيّنتين عن الحجّية و الرجوع إلى قواعد القضاء و بما أنّ المورد من قبيل الأقلّ و الأكثر فيؤخذ بقول المنكر و هو الموجر لما عرفت في الصورة الأُولى.

اللّهمّ إلّا إذا لم يكن بين البيّنتين تعارض كما إذا كان إحداهما أقدم تاريخاً فيؤخذ بها إذا اتّفقا على عدم عقد ثان فيقضى به سواء كان الأقدم بيّنةَ الموجر أو بيّنة المستأجر، و تكون ذمة المستأجر مشغولة بثمن واحد، فتكون النتيجة:

الأخذ بقول المنكر (الموجر) عند فقدان البيّنة.

الأخذ بقول الموجر عند وجود البيّنتين مع وحدة التاريخ.

الأخذ بأقدم البيّنتين إذا كان هناك اختلاف في التاريخ.

و أمّا الترجيح بالأكثرية عدداً و عدالة فإنّما هو إذا كانت البيّنتان حجّتين و قد قلنا بالتساقط، و إنما أخذنا بالأقدم لأنّه يبطل مفاد البيّنة الثانية و لأجل ذلك لم نأخذ بهما عند وحدة التاريخ.

الصورة الثالثة: إذا كان لأحدهما بيّنة

و حكمها أنّه يؤخذ بها سواء كان المؤجر أو المستأجر.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 463.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 155

المسألة الثالثة: فيما إذا اتّحد البائع و تعدّد المشتري
اشارة

هذه المسألة و ما تليها من الرابعة و الخامسة فيها جهة اشتراك، و جهة اختلاف: أمّا وجه الاشتراك فالاتفاق على المبيع المعيّن في جميعها و أمّا وجه الاختلاف ففي الثالثة وحدة البائع و تعدّد المشتري حسب الظاهر و في الرابعة تعدد البائع و وحدة المشتري كذلك، و في الخامسة تعددهما حسب مفهوم البيّنة.

ففي المسألة الثالثة أي وحدة البائع و تعدد المشتري، يكون المحور عندنا هو إقرار البائع و إنكاره من غير فرق بين صورة فقدان البيّنة و وجدانها على الإطلاق نعم على فرض وجود البيّنة لواحد منهما، يقضى على صاحبها و يغرم البائع لو أقرّ على غير صاحبها. هذا إجمال الكلام و إليك التفصيل:

لو ادّعى كلّ منهما أنّه اشترى داراً معيّنة من شخص بعينه، و أقبض الثمنَ و هي في يد البائع «1» فللمسألة صور ثلاث:

الصورة الأُولى: إذا لم يكن لهما بيّنة

فعندئذ يرجع إلى صاحب اليد فإن كذّبهما حلفَ لهما و اندفعا عنه. و إن صدّق أحدهما دفع له العين و حلف للآخر.

الصورة الثانية: لو أقام كلّ منهما بيّنة مع تساوي البيّنتين عدالة و عدداً و تاريخاً أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة و الأُخرى مؤرخة

، و تحقّق التعارض و لم يمكن الجمع بينهما قال المحقق:

«حكم لمن يخرج اسمه مع بيّنته» و على ضوء ما ذكره فإن حلف يقضى له و يلزم البائع إعادة الثمن إلى الآخر لأنّ قبض الثمنين غير ممكن فإن نكل الخارج بالقرعة أُحلِف الآخر، و إن نكلا قسّمت العين بينهما و رجع كلّ منهما بنصف الثمن.

______________________________

(1) لاحظ المبسوط: 8/ 281280 فقد بسط الكلام في المسألة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 156

و هل لهما الفسخ حينئذ لتبعّض الصفقة؟ وجهان: الخيار لوجود المقتضي للفسخ، و عدمه لأنّ التبعّض جاء مِن قبلهما فإنّ الخارج بالقرعة لو حلف لأخذ الجميع، فكان التبعيض من قبله و على كلّ تقدير فإن فسخ أحدهما أخذ الآخر الجميع لعدم المزاحم و لا خيار له لأنّ المقتضي للخيار تبعّض الصفقة و قد انتفى و يحتمل وجود خيار لأنّه إذا ثبت له ابتداء يستصحب بقاؤه. «1»

يلاحظ عليه: أن لا فرق بين الصورتين (وجود البيّنة و عدمها) فكما يرجع إلى البائع عند عدم البيّنة، فهكذا يرجع إليه عند وجودها فلو أقرّ بهما، يكون المقرّ لهما بمنزلة ذوي اليد فيدخل تحت الصورة الأُولى من الصور الأربع الماضية في مبحث تعارض البيّنات، و إن أقرّ بأحدهما يدخل تحت الصورة الثانية منهما و قد وقفت على حكمهما.

و وجهه، أنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به، فكما أنّ إقراره حجّة فيما إذا لم تكن هناك بيّنة، فهكذا فيما إذا كانت بيّنة، و قيام البيّنة إنّما يزاحم إقراره لثالث لاتّفاقهما على نفي الثالث، و أمّا

الإقرار لواحد منهما أو لكليهما فلا يزاحمه قيام البيّنة كعدم حجّيتهما في مفادهما المطابقي أي كون المالك واحد منهما فقط مثلًا و إن كانتا حجّة في مفادهما الالتزامي. و قد صرّح صاحب الجواهر بأنّ تصديق البائع يجعل المقرّ له بمنزلة ذي اليد. «2»

نعم نقل صاحب الجواهر عن كشف اللثام بعدم الاعتبار بإقراره لاعترافه بأنّه ليس له عليها يد ملك و لكنّه مشترك بين الصورتين (وجود البيّنة و عدمها) لأنّه في كلتا الصورتين غير مالك للمقرّ به و إنّما المالك أحد المشتريين أو كلاهما، و قيام البيّنتين لا يفيد أكثر من إقراره بانّه ليس مالكاً الآن و لكن إقراره الآن من آثار مالكيته السابقة.

و الحاصل أنّ الإقرار لهما يجعلهما كالمتنازعين في شي ء إذا أقاما بيّنة و لهما يد

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 439.

(2) الجواهر: 40/ 469.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 157

عليه فيقسم بينهما. و إن أقرّ لأحدهما يكون المقرّ له كالمتنازعين إذا أقاما بيّنة لأحدهما يد عليهما، فقد مضى فيها القولان: تقديم بيّنة الداخل كما هو الأقوى أو تقديم بيّنة الخارج و قد تقدّم. و هل للبائع ردّ مثل الثمن إليهما إذا أقرّ لهما، أو إلى واحد إذا أقرّ لغيره، الظاهر ذلك لإمكان صدق البيّنتين.

نعم ليس له تكذيبهما لقيام البيّنتين على البيع فهما حجّتان في القدر المتيقّن و هو بيعه منهما.

[الصورة] الثالثة: إذا كان لواحد منهما بيّنة فيؤخذ بها سواء أ كانت موافقة لما يقرّ به البائع أو لا،

غاية الأمر إذا أقرّ البائع بغير ما قامت البيّنة عليه يلزم على البائع إعادة الثمن إلى المقرّ له، لأنّه بإقراره أخذ الثمن و لم يدفع إليه المثمنَ و اللّه العالم.

المسألة الرابعة: فيما إذا تعدّد البائع و اتّحد المشتري
اشارة

لو ادّعى اثنان، أنّ ثالثاً، اشترى من كلّ منهما هذا المبيع.

هذه المسألة عكس المسألة السابقة حيث كان البائع هناك واحداً و المشتري حسب الظاهر متعدداً على عكس المقام حيث إنّ البائع حسب الظاهر متعدد، و المشتري واحد.

و المحور عندنا في هذه المسألة إقرار المشتري لواحد أو كليهما أو إنكارهما إلّا إذا أمكن صدق البيّنتين أو كانت البيّنة لواحد منهما فيقضى حسب مفهومهما أو مفهومها. و إليك التفصيل:

أقول: للمسألة صور ثلاث:

إمّا أن لا يكون لواحد من المدّعيين بيّنة.

أو يكون لواحد منهما.

أو يكون لكليهما بيّنة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 158

أمّا الصورة الأُولى [إمّا أن لا يكون لواحد من المدّعيين بيّنة.]

، فإن اعترف المشتري لأحدهما قضى عليه بالثمن و عليه الحلف بالنسبة إلى المدّعي الآخر، و إن اعترف لهما قضى لهما بالثمنين حيث أمكن شراؤه من أحدهما ثمّ بيعه من آخر، ثمّ اشتراؤه منه و إن أنكرهما، فعليه اليمين لكلّ منهما.

و أمّا الصورة الثانية أعني: ما إذا كان لواحد من المدّعيين بيّنة

، فيقضى له عليه بالثمن، و للآخر عليه اليمين فإن حلف فهو و إن ردّ اليمين عليه و حلف، يقضى له أيضاً عليه بثمن مثله. نعم لو أقرّ المشتري بغير ما قامت البيّنة عليه، يلزم عليه الثمنان أحدهما لأجل قيام البيّنة و الآخر لأجل إقراره بأنّه اشترى منه.

و أمّا الصورة الثالثة [أي يكون لكليهما بيّنة]

فهي على قسمين: تارة لا يكون بينهما تناف و أُخرى يكون كذلك.

أمّا القسم الأوّل كما إذا كانتا مختلفتي التاريخ أو مطلقهما أو كانت إحداهما مطلقة و الأُخرى مؤرخة فلإمكان صدق البيّنتين، فيؤخذ بالبيّنتين من دون جعلهما من المتعارضين من غير فرق بين إقراره لأحدهما دون الآخر، أو لكليهما، أو إنكارهما فالبيّنتان مؤثرتان في إشغال ذمّته بالثمن.

نعم لو فرض كون الثمن معيّناً و ادّعاه كلّ منهما بسبب كونه البائع و أقام كلّ منهما بيّنة فيتحقق التعارض في الصورة المذكورة لكنه نادر.

و ممّا ذكرنا (إعمال البيّنتين فيما إذا أمكن الصدق) يظهر انّ ما ذكره المحقق في هذا القسم من الإطناب المخلّ حيث قال: «و أقام كلّ منهما بيّنة فإن اعترف لأحدهما قُضي له بالثمن و كذا إن اعترف لهما قُضي عليه بالثمنين و لو أنكر و كان التاريخ مختلفاً أو مطلقا قُضي بالثمنين لمكان الاحتمال» لما عرفت من أنّه لا تأثير للاعتراف و الإنكار بعد إقامة البيّنتين و إمكان صدقهما.

و أمّا القسم الثاني: و هو ما إذا كان بين البيّنتين تناف و تعارض كما إذا شهدت بيّنة بأنّ هذا المشتري اشترى العين من زيد يوم السبت في ساعة كذا

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 159

و شهدت بيّنة أُخرى، أنّ هذا المشتري اشترى هذه العين يوم السبت في نفس الساعة من عمرو. فلا محالة

يتحقق التعارض إذ لا يمكن الملك الواحد في الوقت الواحد لاثنين، و لا يمكن إيقاع العقدين من الأصيلين في الزمان الواحد.

فقد قال المحقق بأنّه يقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف و قُضي له و لو امتنعا من اليمين قُسّم الثمن بينهما.

و ما ذكره مبني على وجود عموم أو إطلاق في أدلة الرجوع إلى القرعة عند تعارض البيّنتين فيترتّب عليه ما ذكر، و كان عليه أن يضيف إلى كلامه: «لو نكل من خرجت القرعة باسمه و ردّ اليمين على الآخر و حَلف يقضى له».

و لكنك قد عرفت عند دراسة الرواية أنّ الأصل في تعارض البيّنات هو التساقط، و ما دلّ على الأخذ بهما، بنحو من الأنحاء، بتنصيف العين المتنازع فيها، أو تقديم بيّنة الداخل أو الخارج، أو الرجوع إلى القرعة فيما إذا كان النزاع في العين الخارجية و ما سوى ذلك كالعقود و غيرها فانّ التنازع يرجع إلى اشتغال ذمّة المشتري الواحد، لشخصين يدّعيان شراء المبيع المعيّن منه. و ليس النزاع في العين الشخصية حتّى يشمله أدلّة القرعة و لا سائر ما يتمحّل به لانهاء النزاع كالتنصيف و تقديم ذات اليد. فالمرجع فيه القواعد القضائية فيكون حكم هذه الصورة مثل ما إذا لم يكن بيّنة حرفاً بحرف أي أنّه لو اعترف بواحد، يقضى له، و عليه الحلف للآخر، و لو اعترف بهما يقضى عليه بثمنين و لو أنكرهما، يحلف لهما.

المسألة الخامسة: فيما إذا تعدّد البائع و المشتري
اشارة

لو ادّعى رجل، أنّه اشترى العينَ المعيّنة من زيد و قبض ثمنَها و ادّعى آخر أنّه اشترى نفسَ المبيع من عمرو و قبض ثمنَها. و هذه المسألة تمتاز عن السابقتين،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 160

بأنّ النزاع فيهما كان في العقود،

و هنا في العين الشخصية، و المرجع فيهما هو القواعد القضائية في جميع الصور من إقامة البيّنة و عدمها بخلاف المقام ففيما إذا لم تكن هناك بيّنة أو كانت لأحدهما يعمل بالقواعد القضائية، و أمّا في صورة تعارض البيّنتين، فيعمل بهما لا بالضوابط القضائية، على النحو الذي تعرفت عليه، و على ضوء هذا ندرس أحكام الصور.

الصورة الأُولى: إذا ادّعيا اشتراء عين فكانت العين بيد البائعين أو الخامس و لم يقيما بيّنة

فلو أقرّا بهما، يكون كلٌّ، ذا يد بالنسبة على تمام العين و قد ادّعيا و لا بيّنة لهما و الحكم هو التنصيف كما مرّ و مثله ما إذا أقرّ الخامس بهما و لو أقرّا بواحد أو أقرّ الخامس بواحد، يقضى له، بحلفه و يرجع الآخر إلى بائعه بالنسبة إلى ثمنه.

الصورة الثانية: إذا ادّعيا كذلك و لكن كانت البيّنة لواحد منهما،

فيؤخذ بمفادها سواء أقرّ البائعان أو الخامس له، أو لهما لأنّ إقرارهما لغيره لا يزيد على كونه ذا يد لكن بيّنة المدّعي، متقدّمة على يد المنكر.

الصورة الثالثة: إذا ادعيا الشراء كذلك و أقاما بيّنتين متساويتين في العدالة و العدد و التاريخ فالتعارض متحقّق

فقال المحقق يحكم عليه بأحكام تالية:

الف: يقضى بالقرعة، و يحلف من خرج اسمه و يقضى له.

ب: لو نكلا عن اليمين قُسّم المبيع بينهما و رجع كلّ منهما على بائعه بنصف الثمن.

ج: و لهما الفسخ و الرجوع بالثمنين.

د: و لو فسخ أحدهما جاز، و لم يكن للآخر أخذ الجميع لأنّ النصفَ الآخر لم يرجع إلى بائعه.

و إليك دراسة هذه الأحكام:

أمّا الأوّل: فالحكم بالقرعة على إطلاقه ليس بتامّ و إنّما تصل النوبة إليها

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 161

بعد مرحلتين:

1- إذا أقرّ البائعان أو الخامس بهما، تكون لكلّ يد على تمام العين و قد أقاما البيّنة و قد عرفت عند البحث عن تعارض البيّنات أنّه إذا كانت لكلّ يد على تمام العين فالحكم هو التنصيف.

2- إذا أقرّا لواحد منهما يكون هو ذا اليد، فالحكم فيه هو تقديم بيّنة الداخل، على الأقوى أو الخارج. و يرجع غير المقَرّ له في ثمنه إلى بائعه.

نعم إذا لم يصدقوهما أو كذبوهما فالحكم هو القرعة و قد عرفت أنّ روايات القرعة ناظرة إلى ما إذا لم تكن العين بيد المتداعيين لكن عدم التصديق أو التكذيب يخرجهما عن كون كلّ، ذا يد على العين كما في المقام.

ثمّ إنّه قدس سره لم يذكر حكم من لم تخرج القرعة باسمه و هو أنّه يرجع في ثمنه إلى بائعه.

أمّا الثاني: أعني قوله: «و لو نكلا عن اليمين قسّم المبيع بينهما و رجع كلّ على بائعه بنصف الثمن» ففيه ملاحظات:

أ: إذا نكل من خرجت القرعة

باسمه، فهل يرجع إلى بائعه بالثمن أو لا؟ وجهان الأقوى، لا لأنّ عدم تسلّم المبيع جاء من قبله فلا وجه للرجوع إلى بائعه مع أنّ الظاهر منه الرجوع بقرينة تصريحه بالرجوع إلى النصف إذا نكلا.

ب: لم يذكر حكم المدّعي الآخر إذا نكل من خرجت القرعة باسمه و هو أنّه يقضى له بعد اليمين.

ج: صرّح بأنّهما لو نكلا رجعا في نصف الثمن إلى بائعهما و هو مورد نظر، لأنّ القصور مستند إليهما أنفسهما لا إلى البائعين.

و أمّا الثالث: و هو جواز الفسخ و الرجوع بالثمن و هو أيضاً مورد نظر لكون التبعض مستنداً إليهما إلّا أن يقال إنّ البيع كان على أساس أن يدفع الثمن و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 162

يقبض المبيع بلا حلف، فإلزامه على الحلف إلزام بما لم يلتزم به في نفس العقد فإذا توقّف التسلم على ما لم يلتزم به. جاز له فسخ العقد من رأس.

و أمّا الرابع: فهو ظاهر و الفرق بين هذه الصورة، و المسألة الرابعة، حيث صرّح بجواز أخذ الجميع هناك دون المقام هو ما صرّح به المحقق من «أنّ النصف الآخر لم يرجع إلى بائعه»، و واقع الفرق يَكْمُنُ في وحدة البائع في الرابعة و تعدده هنا، فلو فسخ أحد المدّعيين في مورد المسألة الرابعة، جاز للآخر أخذ الجميع، لأنّ العين كلّها للبائع الواحد، غير أنّ الفاسخ يدّعي أنّه اشتراها منه. و المانع من الأخذ موجود قبل الفسخ، فإذا ارتفع بفسخه يؤثر المقتضي بخلاف المقام فانّ ظاهر الحال، كون كلّ من البائعين مالكاً للنصف، فإذا فسخ من اشترى من أحدهما، لا يرجع النصف إلّا إلى بائعه لا إلى البائع الآخر، الذي اشترى

منه مَنْ خرجت القرعة باسمه.

الصورة الرابعة: إذا كانت العين بيد المدّعيين

، فيعلم حكمها ممّا ذكرنا في حكم الصورة الثالثة فلاحظ.

الصورة الخامسة: إذا كانت بيد أحد المدّعيين و أقاما بيّنة

، ففيه قولان: تقديم بيّنة الداخل، أو تقديم بيّنة الخارج و قد عرفت أنّ الأقوى هو الأوّل.

و هناك صور أُخرى تعرّض لبعضها صاحب الجواهر تعلم حكمها ممّا ذكرناه.

المسألة السادسة لو شهد اثنان للمدّعي بأنّ الدابة ملكه منذ مدّة كسنتين فدلّت سنّها على أقل من ذلك قطعاً أو أكثر

، سقطت البيّنة لتحقق كذبها. هذا نص المحقق، و الظاهر أنّ قوله «أكثر» عطف على قوله «أقل»، أي إذا شهدت البيّنة على أقل أو أكثر ممّا عليه الدابة من السن، فلنفرض سنها سنتين، فشهدت على واحدة أو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 163

ثلاث، و ربّما يفسر قوله أكثر بمعنى الأكثرية الظنية المعادلة لقول العلامة في الإرشاد «قطعاً أو ظاهراً» و لكنّه غير صحيح لأنّ تعليل الحكم بقوله: «لتحقق كذبها» مختص بما إذا ثبت كذبه قطعاً لا ظناً. و لأجل إيضاح الحال نأتي بنص الشيخ في المسألة، قال: إذا ادّعى رجل دابة في يد رجل و أقام شاهدين أنّها ملكه منذ ثلاث سنين فنظر الحاكم فإذا الدابة ليس لها إلّا سنتان، سقطت الشهادة لأنّه قد عرف كذبها قطعاً. «1»

إنّ سيرة العلماء في الخبر على التبعيض إذا خالف بعضُ مفاده الإجماعَ أو الدليل القطعي فيؤخذ بالباقي و لا يكون اشتمال الخبر على حكم شاذ سبباً لرفض الخبر أساساً. و أمّا البيّنة فهي على قسمين؛ تارة تشهد على أمر واحد لكن بعض أجزائه غير صحيح، و أُخرى تشهد على أمرين متغايرين، و المقام من قبيل القسم الأوّل، لأنّها تشهد على ملكية زيد منذ سنتين مع أنّه يملكها إمّا فوقهما أو دونهما. نعم لو كان المشهود به أمرين متغايرين و كان أحدهما غير صحيح يؤخذ بالجزء الصحيح.

المسألة السابعة «2» إذا ادّعى دابة في يد زيد و أقام بيّنة أنّه اشتراها من عمرو

، قال المحقق: يقضى بها في صور ثلاث:

أ: إذا شهدت بالملكية مع ذلك للبائع.

ب: أو للمشتري.

ج: أو بالتسليم.

أمّا الصورة الثانية فواضحة لأنّها شهدت بملكية المشتري حالياً فتقدم على

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 294.

(2) و قد عنونها الشيخ في المبسوط: 8/ 295.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية

الغراء، ج 2، ص: 164

مقتضى اليد إنّما الكلام في الصورتين: الأُولى و الثالثة، فيمكن توجيهه بما يلي:

أمّا الأُولى فلتقديم البيّنة على اليد، حيث تثبت الملكية للبائع و انتقالها منه إلى المشتري.

و أمّا الثالثة فانّ الشهادة على التسليم شهادة على كون البائع ذا يد سابقة على يد زيد و انتقالها منه إليه.

و لكن الحكم في الصورتين: الأُولى و الثالثة غير واضحة، فانّ أقصى ما تثبته البيّنة كون البائع مالكاً فيما سبق، و أنّه نقل العين إلى المدّعي بعقد صحيح، و هذا لا ينافي أن يكون المالك حالياً هو زيد، لإمكان أن يشتري المشتري من عمرو ثمّ يبيعه من زيد.

فإن قلت: إذا ثبت كون المدّعي مالكاً تستصحب مالكيته.

قلت: لا قيمة للاستصحاب في مقابل اليد الحاضرة، و على فرض صحّة الاستصحاب فمن المستصحب؟ أمّا القاضي فأدوات قضائه البيّنات و الايمان، و أمّا الشاهد فالمفروض أنّه لا يشهد على الملكية الفعلية.

و منه يعلم حكم الصورة الثالثة، فانّ تسليم البائع الدابة للمشتري لا يدل على أكثر من كون تصرّفه تصرّفاً صحيحاً و نقلًا عن ملك و لكنّه لا ينافي أن يكون المالك حين الدعوى هو زيد و أنّه اشتراها من المدّعي.

و بالجملة التقديم فرع التعارض بالمطابقة، و لا تعارض بين كون زيد مالكاً فعلًا و كون عمرو مالكاً أو متصرّفاً في المبيع قبل ذلك الوقت.

و منه يظهر حال الصورة الرابعة و هي أنّه إذا شهدت البيّنة بملكية المشتري لأجل الشراء، و علله المحقق بقوله: «لانّ ذلك قد يفعل فيما ليس بملك فلا تدفع اليد المعلومة بالمظنونة، و قيل يقضى له لأنّ الشراء دلالة على التصرّف السابق الدالّ على الملكية».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 165

مراده

من قوله: «لأنّ ذلك قد يفعل فيما ليس بملك» و هو أنّ الإنسان قد يبيع ما لا يملكه، كما إذا باع فضولياً قال الشيخ: «لانّ الإنسان قد يفعل فيما ليس بملك له، فلا يزيل الملك عن يد المدّعى عليه بأمر متوهم مظنون» «1» و لكن الدليل عليل لجريان أصالة الصحة في فعل الغير، و الأولى أن يقال انّ بيع عمرو كما في الصورة الأُولى، و تسليم المبيع كما في الصورة الثالثة و شراءه من عمرو كما في الصورة الرابعة لا يدل على أزيد من وقوع بيع صحيح في الماضي، و أمّا بقاء أثره (الملكية) إلى وقت الدعوى بحكم الاستصحاب فلا يقاوم حكم اليد، فظهر أنّ الصحيح من الصور هي الصورة الثانية.

المسألة الثامنة قال المحقق: لو ادّعى كلّ واحد منهما أنّ الذبيحة له و في يد كلّ واحد بعضها و أقام كلّ واحد منهما بيّنة،

قيل يقضي لكلّ واحد بما في يد الآخر و هو الأليق بمذهبنا، و كذا لو كان في يد كلّ واحد شاة و ادّعى كلّ منهما الجميع و أقاما بيّنة قضي لكلّ منهما بما في يد الآخر. «2»

قد تعرفت أنّ بيّنة المنكر حجّة في القضاء، و على ذلك فيكون المورد من قبيل النزاع في الأعيان الشخصية. و مقتضى القاعدة هو الأخذ بمقتضى بيّنة الداخل في كلّ مورد لأنّ كلّ واحداً منهما يعد مدّعياً لما في يد الآخر و منكراً لما في يده، و في مثله يؤخذ ببيّنة الداخل و يقضى لكلّ واحد بما تحت يده و قد عرفت أنّه الأقوى، غير أنّ هنا قولًا و هو الأخذ ببيّنة الخارج ترجيحاً لها على بيّنة الداخل و حينئذ ينعكس الحكم فيقضى لكلّ واحد بما في يد الآخر، و مما يتفرّع على ذلك فيما لو كان المتخاصمان في بعضي الذبيحة المنفصلين كافراً و مسلماً حكم بكون ما يقضى

به للكافر ميتة و للمسلم مذكى و إن كان كلّ واحد من الجزءين انتزعه من الآخر

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 295.

(2) الشرائع 4/ 902 و لاحظ: المبسوط: 8/ 300.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 166

عملًا بظاهر اليد المعتبرة شرعاً، و لا تقدح في ذلك اليد السابقة بل لعلّ الحكم كذلك في الجزءين المتصلين ضرورة اتحاد المدرك فيهما. «1»

يلاحظ عليه: أوّلًا: أنّ الحكم بعدم التذكية فيما يرجع إلى الكافر نابع من استصحابه حال كون الحيوان حيّاً، و الحكم بالتذكية فيما يرجع إلى المسلم ناش من ظاهر حال المسلم و يده. و كلاهما مخدوش.

أمّا الأوّل فبوجهين:

1- إنّ المتيقّن هو عدم التذكية بعنوان العدم المحمولي الذي يصدق مع عدم الموضوع حيث إنّه كان غير مذكّى باعتبار عدم ورود ذبح له، و المشكوك فيه هو عدم التذكية بعنوان العدم النعتي حيث ورد عليه الذبح لكن نشك في تحقق شرائطه و استصحاب العدم المحمولي و إثبات العدم النعتي من الأصل المثبت.

2- يشترط في صحة الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين و هو منتف في المقام، لتوسط يد المسلم على الذبيحة في زمان الشك أي بعد الانتزاع من الكافر، و حالة اليقين بكونها غير مذكّى أي قبل استيلاء المسلم، اللهمّ إلّا أن يقال بعدم الاعتبار بيد المسلم المتوسطة بين الشك و اليقين.

و أما الثاني أي حجيّة ظاهر حال المسلم في المقام فهي خاصة بما إذا لم تجر على الذبيحة يد كافر كما في المقام.

و الظاهر سقوط الدليلين عن الاعتبار و الرجوع إلى أصول آخر، و هو الطهارة في الأشياء، و الحرمة في اللحوم ما لمتحرز التذكية.

المسألة التاسعة قال المحقق: لو ادّعى شاة في يد عمرو و أقام بيّنة فتسلّمها،

ثمّ أقام الذي

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 479.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 167

كانت في يده بيّنةً أنّها له، قال الشيخُ: «يُنقض الحكمُ و تُعاد» و هو بناء على القضاء لصاحب اليد مع التعارض، و الأولى أنّه لا يُنقض.

إنّ الحكم بتقدّم بيّنة عمرو يمكن أن يكون للوجهين التاليين:

الأوّل: إنّه من قبيل تقديم بيّنة الداخل على بيّنة الخارج، فانّ بيّنة عمرو الذي كان ذا اليد حين الدعوى و إن اقيمت متأخّرة، لكن مضمونها كونه مالكاً حين الدعوى فكأنّها كانت موجودة حينَها و الضابطة في تعارض البيّنتين فيما إذا كانت يد لواحد منهما، هو تقديم بيّنة الداخل.

هذا ما نقله المحقق عن الشيخ و إليك نصّه: قال في وجه الحكم الأوّل: «حكمنا له بها لأنّ بيّنته أولى من يد عمرو، فإن أقام عمرو البيّنةَ بعد هذا، أنّ الشاة ملكُه، نقض الحكم، و ردّت الشاةُ إلى عمرو لأنّ عمرواً كانت له اليد و لزيد بيّنة بغير يد و قد ظهر أنّه لعمرو مع يده، بيّنة، فظهر أنّ بيّنة عمرو، الداخل و بيّنة زيد، الخارج و بيّنة الداخل أولى فلهذا قضي بها لعمرو دون زيد. «1»

يلاحظ عليه أوّلًا: مضافاً إلى أنّه مخالف لما قوّاه في غير مورد من تقديم بيّنة الخارج على الداخل أنّ التقديم فرع وجودها حين الحكم، و المفروض إقامتها بعده، فلا يكون مشمولًا لما دلّ على تقديم بيّنة الداخل.

و ثانياً: لو افترضنا شمولها للمورد، فلما ذا لا يكون من قبيل ترجيح الخارج، لأنّ المفروض أنّ العين بيد زيد فتكون بيّنة عمرو المتأخرة من قبيل بيّنة الخارج.

و التحقيق أن يقال: إنّ مفاد البيّنة الثانية إمّا أن يكون دعوى الملكية المطلقة، أو الملكية اللاحقة على إزالة اليد، أو الملكية السابقة عليها.

لا شكّ في عدم جواز نقص

الحكم في الأُولى. إذ لا منافاة بين الملكية المطلقة لعمرو، و ملكية زيد في ظرف إقامة البيّنة، فلا تعارض بين البيّنتين كما لا

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 301.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 168

شكّ في وجوب النقص في الثانية، لعدم التعارض بين الملكيتين. إنّما الكلام في الصورة الثالثة، فالتعارض متحقّق لأنّ كلًا من البيّنتين، ينفي مفاد الأُخرى، فلو قلنا بعدم جواز نقص الحكم للوجوه الضعيفة الّتي ذكرها صاحب الجواهر «من: 1 انقطاع الخصومة. 2 حكومة الحاكم المبنية على الدوام. 3 الأصل المؤيد بالحكم. 4 ظاهر الأدلة»، لم تسمع الثانية فهو و إلّا فللقاضي، فسح المجال للاعتراض إذا احتمل صحّة مقاله، فإن ثبت خلاف ما قضى، نقض و إلّا فالحكم باق على صحّته و نفوذه من دون ابتناء النقض على تقديم إحدى البيّنتين على الأُخرى بل التقديم من باب كشف الخلاف.

المسألة العاشرة: في الاختلاف في الدار النزاع في الدار تارة يكون ثنائياً و أُخرى ثلاثياً و ثالثة رباعيّاً
اشارة

و إليك بيان الصور حسب ما ذكرها المحقق في الشرائع.

الصورة الأُولى: فيما إذا كان النزاع ثنائيّاً

قال المحقق: لو ادّعى داراً في يد زيد، و ادّعى عمرو نصفَها، و أقاما البيّنة قضي لمدّعي الكل بالنصف لعدم المزاحم، و تعارضت البيّنتان في النصف الآخر، فيقرع بينهما و يقضى لمن خرج اسمه مع يمينه، و لو امتنعا قضي بها بينهما بالسوية فيكون لمدّعي الكلّ ثلاثة الأرباع و لمدّعي النصف الربع.

توضيح مرامه:

لمّا كان أحدهما يدّعي الكلّ، و الآخر يدّعي النصف، فقد اتّفقا على أنّ النصف لمدّعي الكلّ فيختص به، و إنّما النزاع في النصف الثاني و لو كان المقام من مواضع القرعة فيقرع لمن يصار إليه اليمين، فلو قرع و خرج اسم مدّعي الكل و حلف، يقضى له بالكلّ، نصفه من باب التسليم و النصف الآخر باليمين، فإن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 169

امتنع حلف الآخر، فيقضى له بالنصف المتنازع فيه، و إن امتنعا من الحلف يقسم النصف المتنازع فيه بينهما فيكون لمدّعي الكلّ ثلاثة أرباع: ربعان من النصف غير المتنازع فيه، و ربع من النصف المتنازع فيه، و لمدّعي النصف، الربع.

يلاحظ عليه: بما تقدّم من لزوم سؤال القاضي من بيده العين قبل الإقراع حتّى يتعيّن من عليه اليمين فربّما تنحلّ العقدة قبل أن تصل النوبة بالقرعة و ذلك لأنّه إمّا:

1- أن يُصدِّق أحدهما.

2- أو يُصدِّق كليهما.

3- أو يُكذِّب كليهما.

4- أو يعترف بأحدهما و لا يعرفه عينه.

5- أو يقول لا أعرف صاحب العين.

فعلى الأوّل، يكون المقرّ له بمنزلة ذي اليد و قد صرّح صاحب الجواهر بأنّ تصديق ذي اليد، يجعل المقرّ له بمنزلة ذي اليد «1» فيكون من قبيل ما إذا كانت العين بيد أحدهما. و قد عرفت

أنّ الحقّ تقديم بيّنة الداخل، و على ضوء هذا لو اعترف لمدّعي الكلّ يكون الكل له، و لو اعترف لمدّعي النصف يكون النصف المتنازع فيه له، و النصف الآخر غير المتنازع فيه لمدّعي الكلّ.

و على الثاني، يكون المفروض كما إذا كانت العين بأيديهما و أقاما البيّنة و الحكم فيه التقسيم بالمناصفة.

و على الثالث، أُقرّت في يد الثالث، فيكون هو المدّعى عليه و المتنازعان، مدّعيين و لهما عليه الحلف.

فإن قلت: إنّ البيّنتين تدلان التزاماً على أنّ ملكية المال غير خارجة عن المتنازعين، و معه كيف يترتّب الأثر على يد الثالث و يكون لهما عليه حقّ اليمين؟!

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 469.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 170

قلت: إنّ حجّية الدلالة الالتزامية تابعة لحجّية الدلالة المطابقية فإذا سقطت لأجل التعارض، فكيف يؤخذ بمفادها الالتزامي، و لذلك قلنا بانّه لهما على الثالث الحلف فإن حلف يقضى له. و لو نكل فتخرج يده عن الاعتبار، و يدخل المفروض تحت القسم الخامس أعني إذا ادعيا شيئاً ليس لأحد عليه يد فعندئذ يصحّ ما ذكره المحقق من الإقراع لمن يصار إليه اليمين، فلو حلف من خرجت القرعة باسمه قضى له بالنصف المتنازع فيه، و إن نكل و حلف الآخر، قضى له، و إن نكلا. أقرت بيد من كانت العين بيده إلى أن تعلم الحال.

و على الرابع، فالمرجع هو قاعدة العدل و الانصاف و إن احتملت القرعة لكنّها خاصة بما إذا لم تكن عليها يد أصلًا.

و على الخامس، فيعمل بالقرعة لمن يصار إليه اليمين، فلو حلف فهو، و إلّا فيحلف الآخر، و إن نكلا، يُقسَّم بينهما.

نعم ورد في معتبرة إسحاق بن عمار «و لو لم تكن في يد واحد

منهما، و أقاما البيّنة فقال: أحلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين». «1»

فإنّ ظاهرها جواز حلفهما، مع أنّ المستفاد من سائر الروايات «تحليف من قدِّمت يمينه بالمرجّح أو القرعة فإن حلف قضى له، و إن لم يحلف، يحلف الآخر» و لا عامل بها إلّا ما عن كشف اللثام من ظاهر كلام أبي علي، حيث قال: «و لو كانت العين في أيديهما جميعاً أو لم تكن في يد واحد، و تساوى عدد البيّنتين عرضت اليمين على المدّعيين فأيّهما حلف استحقها الآخر إن أبى الآخر، و إن حلفا جميعاً كانت بينهما نصفين و عن الشيخ حملها على ما إذا تصالحا على ذلك و قال في الاستبصار: و يمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة إذا اختار كلّ واحد منهما اليمين فيكون الإمام مخيراً بين العمل به و العمل بالقرعة. و الحملان بعيدان

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 171

و العمل بها في قبال الأخبار لا وجه له و الأولى طرحه في خصوص جواز الحلفين لعدم مقاومته لسائر الأخبار. «1»

و أمّا رواية غياث بن إبراهيم في حديث: «و قال و لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» «2» فهي محمولة على ما إذا كانت في أيديهما من غير حاجة إلى الحلف أو لم تكن بهما، و لكنّهما نكلا.

فتلخص أنّ ما ذكره المحقق يصحّ في بعض فروع القسم الثالث أعني: ما إذا كذبهما و القسم الخامس، و ما يتراءى من رواية إسحاق بن عمّار فهي معرض عنها و أمّا رواية غياث بن إبراهيم فهو مؤوّل.

الصورة الثانية: فيما إذا كانت يدهما على الدار

قال

المحقق: و لو كانت يدهما على الدار و ادّعى أحدهما الكلّ و الآخر النصفَ و أقام كلّ واحد منهما بيّنة.

ففي المسألة أقوال ثلاثة:

1- ما اختاره المحقّق من أنّ الكلّ لمدّعي الكلّ و لم يكن لمدّعي النصف شي ء تقديماً لبيّنة الخارج كما سيوافيك.

2- يقسم النصف المتنازع فيه بينهما نصفين و بالتالي: تقسم العين بينهما أرباعاً و هذا هو الأقوى.

3- تقسم العين بينهما أثلاثاً، و هو المنقول عن ابن الجنيد.

و إليك بيان أدلّة الأقوال.

أمّا القول الأوّل: فتوضيحه:

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 157156.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 172

انّ الكلّ لمدّعي الكلّ حيث إنّ نصفَ العين التي هي تحتَ يده خارجة عن محلّ النزاع، و النصف الآخر الّذي ليس تحت يده تُقدَّم فيه، بيّنة مدّعي الكلّ، لأنّ بيّنته بالنسبة إليه، بيّنة الخارج، و بيّنة مدّعي النصف بالنسبة إليه بيّنة الداخل أي المنكر، و المفروض عدم حجّية بيّنة المنكر بل دليله ينحصر باليمين.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من حديث بيّنة الداخل و الخارج مبني على أنّ كلا من المتنازعين مستول على النصف المعين فمدّعي الكلّ مستول على النصف غير المتنازع فيه، و مدّعي النصف مستول على النصف المتنازع فيه.

و لكن الاستيلاء بهذا النحو إنّما يتصوّر في النصف المفروز، كما في جزئي «الذبيحة» فتكون بيّنة مدّعي الكلّ بالنسبة إليه بيّنة الخارج و الآخر بيّنة الداخل و أمّا إذا كان على نحو المشاع، فلا تكون بيّنة مدّعي النصف بيّنة الداخل، لأنّ كلّ جزء استولي عليه، مشاع بين المتنازعين فما استولى عليه مدّعي الكلّ، إنّما استولى على النصف المشاع، كما أنّ ما استولى عليه مدّعي

النصف إنّما استولى عليه بوصف المشاع و على ذلك تكون القاعدة بلا موضوع.

أمّا القول الثاني: فهو مقتضى القاعدة الثانوية في إعمال البيّنتين في النصف المشاع فيما إذا كان لهما يد، بقدر ما يمكن، و هو الحكم بالتنصيف، فلكلّ ربع من النصف، و من العين لمدّعي الكلّ ثلاثة أرباع و لمدّعي النصف ربع واحد.

أمّا القول الثالث: فهو قول ابن الجنيد و هو يُسلِّم التقسيم أرباعاً فيما إذا كان بيدهما جزءان خارجيان و اتّفقا على أنّ أحد الجزءين لواحد منهما و اختلفا في الجزء الآخر و في هذه الصورة يُقسم الجزءان أرباعاً كما ورد في الصحيح عن عبد اللّه بن المغيرة «1» في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي و قال الآخر: هما بيني و بينك، فقال: أمّا الذي قال هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، و أنّه لصاحبه و يُقسم الآخر و نحوه مرسل محمّد بن أبي

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من كتاب الصلح، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 173

حمزة. «1» و أمّا إذا كان التنازع في النصف المشاع فيقسم المال أثلاثاً، على طريق العول فيجعل لمدّعي الكلّ الثلثان، و لمدّعي النصفِ الثلث، لأنّ المنازعة وقعت في أجزاء غير معيّنة لا تشار إليها بل كلّ جزء من أجزائها لا يخلو عن دعوى كلّ منهما بالإشاعة فلا يتم ما ذكروه من خلوص النصف لمدّعي الكلّ بغير منازع بل كلّ جزء، يدعى مدّعي النصف نصفَه، و مدّعي الكلّ كلَّه و نسبة إحدى الدعويين إلى الأُخرى بالثلث فيقسم أثلاثاً، لمدّعي النصف واحد، و لمدّعي الكلّ اثنان و يكون كما يضرب الديان في مال

المفلس و الميّت.

و بعبارة أُخرى إذا أردنا تصديقهما مع عدم قابلية العين لتصديقهما فيها بالنسبة إلى تمام ما يدّعيانه، فلا بدّ من أن يرد النقص على كلّ منهما بالنسبة إلى نصيبه، و بما أنّ نسبة النصف إلى الكلّ كنسبة الثلث و الثلثين (يك بر دو) فلا بدّ أن يقسّم على نحو الثلث و الثلثين و هذا معنى العول في الإرث الّذي قالت به العامة و لم تقل به الخاصة كما في الزوج و الأُختين للأب. فللأوّل النصف، و للأُختين الثلثان و ليس في التركة ما يفي الفريضتين فتقسم.

يلاحظ عليه؛ بالفرق الواضح بينه و بين العول فإنّ صاحب الحقّ الزائد يعترف في مورد العول، بثبوت الحقّ الناقص لصاحبه و أنّه لو وفى به المال كان له أخذ حقّه كالزوج بالنسبة إلى كلّ واحد من الأُختين، و هكذا العكس و هذا بخلاف المقام فإنّ مدّعي النصف و إن كان لا يُكذِّب المدّعي الآخر بالنسبة إلى النصف المشاع و إنّما يكذبه في النصف الآخر و النزاع فيه، فيقسم أرباعاً و لا معنى يتناسب مع العول.

كما لا معنى لقياسه على اجتماع حقوق الغرماء في مال المفلس كما إذا ترك ألفاً، و عليه ألف لشخص و ألفان لشخص آخر يقسم أثلاثاً حسب نسبة الديون. وجه الفرق بينه و بين المقام عدم التكذيب من جانب الغرماء، بحيث لو كان

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من كتاب الصلح، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 174

المال وافياً لما كان بينهما تنازع بخلاف المقام.

الصورة الثالثة: فيما إذا كانت العين في يد ثلاثة

كان النزاع في الصورتين السابقتين بين اثنين، و ربّما يقع النزاع بين ثلاثة، و هو على وجهين، فتارة لا تزيد سهام المدّعين عن

أجزاء العين و هي هذه الصورة (الثالثة) و ربّما تزيد و هي الصورة الآتية (الرابعة).

فلو ادّعى أحدهم النصفَ و الآخر الثلث و الثالث السدسَ فكانت يدهم عليها، فيدُ كلّ واحد منهم على الثلث، لكن صاحب الثلث لا يدّعي زيادة على ما في يده، و صاحب السدس يَفْضُلُ ما في يده، ما لا يدّعيه هو و لا مدّعي الثلث، فيكون لمدّعي النصف، فيكمل له النصف و كذا لو قامت لكلّ منهم بيّنة بدعواه.

و الحاصل لما كانت سهام المدّعين، لا تزيد عن أجزاء العين، فلا نزاع بينهم من غير فرق بين إقامة البيّنة و عدمها.

نعم يلاحظ على قول المحقّق: «فيدُ كلّ واحد منهم على الثلث»، فانّ الظاهر أنّ يد كلّ على الجميع على نحو عدم الاستقلال و قد مرّ نظيره. و لأجل ذلك يتوقّف تصرّف الكلّ على إذن الكلّ.

الصورة الرابعة: إذا زادت سهام المدّعين عن أجزاء العين
اشارة

إذا كان النزاع بين ثلاثة، و كانت سهام المدّعين أزيد من أجزاء العين كما لو ادّعى أحدهم الكلّ، و الآخر النصفَ، و الثالث الثلثَ. و له قسمان:

الأوّل: إذا لم يكن لواحد منهم بيّنة.

الثاني: إذا كان معهم بيّنة.

أمّا الأوّل، أي ما إذا لم يكن لواحد منهم بيّنة

فقد قال المحقق فيها:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 175

قُضي لكلّ واحد منهم بالثلث، لأنّ يده عليه و على الثاني و الثالث اليمين لمدّعي الكلّ، و عليه و على مدّعي الثلث اليمين لمدّعي النصف.

أمّا حلف الثاني و الثالث لمدّعي الكلّ، لأنّه يدّعي أنّ ما بأيديهما من الثلثين له فلا ينفى إلّا بالحلف.

و أمّا حلف الأوّل و الثالث لمدّعي النصف، فلأنّ الواصل إليه (الثلث) ينقص ممّا يدّعيه (النصف) بسدس منقسم بين الأوّل و الثالث فلا ينفى إلّا باليمين.

نعم ليس للثالث يمين على الأوّل و الثاني، لأنّه لا يدّعي أزيد ممّا أخذ.

و يمكن أن يقال: إنّ مورد النزاع هو خمسه أسداس من العين دون جميع أسداسها فانّ مدّعي النصف يدّعي ثلاثة أسداس و مدّعي الثلث يدّعي السدسين فيكون موضع النزاع بين الأشخاص الثلاثة، هو خمسة أسداس، و أمّا السدس الواحد، فالثاني و الثالث متفقان على كونه للأوّل، أو غير رادين له فإذاً يكون موضع النزاع هو الخمسة من الأسداس الستة فلو قلنا بالتقسيم أثلاثاً، فلا بدّ أن يكون المقسوم هو خمسة أسداس، لا ستة أسداس. و عندئذ يتغير سهامهم، فيكون:

لمدّعي الكلّ 8/ 3+ 5

لأنّ السهام ثمانية عشر حاصلة من ضرب الستة في ثلاثة فسدسها، غير المتنازع فيه و يبقى خمسة عشر فيقسم بينهم أثلاثاً و إليك الصورة العملية الحسابية:

3-/ 6: 18 غير المتنازع فيه

8- 151/ 3 المتنازع فيه

5-/ 3: 15

و لمدّعي

النصف (5).

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 176

و لمدّعي الثلث (5).

و أمّا الثاني أي إذا أُقيمت البيّنة
اشارة

فهو على نوعين:

فتارة: يقيمها أحد المتنازعين، و أُخرى: يقيمها الجميع.

أمّا الأوّل فالمقيم:

إمّا مدّعي الكلّ.

أو مدّعي النصف.

أو مدّعي الثلث.

فلو أقام الأوّل فيأخذ الكلّ، تقديماً للبيّنة على اليد في الموردين، و لو أقام الثاني، يأخذ مضافاً إلى الثلث الذي بيده جزء من مدّعي الكلّ، و جزء من مدّعي الثلث و لو افترضنا أنّ للعين اثني عشر جزءاً، فقد كانت تحت يده أربعة أجزاء (الثلث) و كان ما يدّعيه ينقص مما تحت يده، اثنين، فيأخذ جزءاً من مدّعي الكلّ و جزءاً من مدّعي الثلث فتكون له من اثني عشر جزء، ستة أجزاء، و لكلّ من الآخرين ثلاثة أجزاء.

و لو أقام الثالث، لا يغيّر الموضع السائد على الموضوع، إذ ليس ما تحت يده أنقص و لا أزيد ممّا عليه.

إذا أقام الجميع البيّنة
اشارة

أمّا إذا أقام كلّ بيّنة فقال المحقق: فإن قضينا مع التعارض ببيّنة الداخل فالحكم كما لو لم تكن بيّنة لأنّ لكلّ واحد بيّنة و يداً على الثلث. فإن قضينا ببيّنة الخارج و هو الأصحّ، كان لمدّعي الكلّ ممّا في يده الأجزاء التالية:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 177

1 ثلاثة من اثني عشر جزءاً بغير منازع.

2- الأربعة التي في يد مدّعي النصف، لقيام البيّنة لصاحب الكلّ بها، و سقوط بيّنة صاحب النصف بالنظر إليها. إذ لا تقبل بيّنة ذي اليد.

3- الثلاثة ممّا في يد مدّعي الثلث، فيكون سهمه من اثني عشر سهماً: عشرة أجزاء: 7/ 4+ 3، 10/ 3+ 7

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 177

و

يبقى واحد ممّا في يد مدّعي الكلّ لمدّعي النصف. و واحد ممّا في يد مدّعي الثلث، يدّعيه كلّ واحد من مدّعي النصف و مدّعي الكلّ، يقرع بينهما، و يحلف من يخرج اسمه و يقضى له. فإن امتنعا، قسِّم بينهما نصفين، فيحصل لصاحب الكلّ عشرة و نصف، و لصاحب النصف واحد و نصف، و تسقط دعوى مدّعي الثلث. «1»

توضيحه:

1- كيف يكون لمدّعي الكلّ ممّا في يده ثلاثة من اثني عشر بغير منازع، مع أنّ غير المعارض لا يتجاوز عن اثنين لأنّه إذا أخذ مدّعي النصف ثلاثة أسداس، و مدّعي الثلث، سدسين يبقى في البين سدس واحد، فلو كان المأخذ اثني عشر جزءاً، يكون غير المنازع اثنين فكيف يقول المحقق ثلاثة؟

و الجواب أنّ كلّ واحد استولى على ثلث العين فتكون تحت يد كلّ، أربعة أجزاء، لكن مدّعي النصف ينقص ما تحت يده جزءين، فيطلب من مدّعي الكلّ جزءاً، و من مدّعي الثلث جزءاً، فيبقى ما تحت يد مدّعي الكلّ ثلاثة أجزاء بلا منازع، لا يطلبه مدّعي النصف، لأنّ المفروض أنّه أخذ حقّه منه، و لا مدّعي الثلث، لأنّ ما بقي له و إن كان أقل ما يدّعيه، لكن السبب له هو مدّعي النصف، لا مدّعي الكلّ فلذلك تكون الثلاثة من اثني عشر جزءاً خالصة لمدّعي

______________________________

(1) الشرائع: 4/ 117 بتصرّف.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 178

الكلّ.

2- إنّ بيّنة مدّعي الثلث لمّا كانت بيّنة الداخل، يسقط عن الحجّية حتّى في ما بقي له من ثلاثة أجزاء و يضمّ إلى مدّعي الكلّ لأنّ بيّنته بالنسبة إليها، بيّنة الخارج فيكون مجموع ما حصل له إلى الآن، ستة أجزاء.

ثلاثة أجزاء غير متنازعة.

ثلاثة مما كانت تحت

يد مدّعي الثلث فيصير ستة 3+ 3/ 6

3- إنّ بيّنة مدّعي النصف بالنسبة إلى أربعة أجزاء كانت بيّنة الداخل فلا تكون حجّة فيها و إنّما تكون حجّة في الجزءين اللّذين انضمّ إليهما من مدّعي الكلّ و الثلث لو لا المعارض و عندئذ تضمّ الأربعة إلى الأجزاء الستة الّتي صارت خالصة لمدّعي الكلّ فيكون سهمه إلى الآن: عشرة أجزاء:

ثلاثة أجزاء: و هي التي كانت خارجة عن التنازع

ثلاثة أجزاء: ممّا كان تحت يد مدّعي الثلث

أربعة أجزاء: ممّا كان تحت يد مدّعي النصف

فتكون النتيجة: 6/ 3+ 3، 10/ 4+ 6

4- بقي في المقام الجزءان اللّذان، حازه مدّعي النصف أحدهما من مدّعي الكلّ و الأُخرى من مدّعي الثلث، فيختص الجزء الأوّل له، لأنّ بيّنته بالنسبة إليه بيّنة الخارج، على خلاف بيّنة مدّعي الكلّ فانّ بيّنته بالنسبة إليه، بيّنة الداخل فيكون ذلك الجزء خالصاً له. و يبقى الجزء الآخر الذي أخذه من مدّعي الثلث موضع النزاع.

5- بما أنّ بيّنة كلّ بالنسبة إليه، بيّنة الخارج، و النزاع في العين الشخصية لا يد لأحد عليها، يقرع فإن خرجت القرعة باسم مدّعي الكلّ و حلف

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 179

يقضى له به و يصير سهمه 11 جزء من 12 جزء و إن خرج باسم مدّعي النصف و حلف يقضى له و يكون سهمه جزءان من 12 جزء. و إن نكلا يقسم بينهما فيكون سهم مدّعي الكلّ 10 أجزاء و نصف جزء، و سهم مدّعي النصف جزءاً و نصفا.

و لو فرضنا النزاع في أربعة و عشرين يكون سهم كلّ بلا كسر فإنّ لمدّعي الكلّ منهما واحداً و عشرين، و لمدّعي النصف ثلاثة.

هذا

توضيح مرامه.

يلاحظ على هذه النظرية بوجهين:

1- انّ نفس ما خرجنا من النتيجة، أوضح دليل على بطلان الفرضية و هو تقديم بيّنة الخارج حيث صارت النتيجة خلع يد مدّعي الثلث من العين أساساً، مع أنّ له اليد عليها و البيّنة، و تخصيص جزءين أو جزء و نصف لمدّعي النصف مع انّ له اليد و البيّنة، و تخصيص أحد عشر جزء أو عشرة أجزاء و نصف لمدّعي الكلّ. و لو عرضنا النتيجة على الفطرة السالمة تعدّ الحكم عدولًا، عن العدل في القضاء و القسط في الحكم، حيث إنّ المدّعين مشتركون في الدليل، لا ترجيح لواحد بالنسبة إلى الآخر.

2- إنّ لكلّ واحد من المدّعين يداً على جميع العين لكن لا على سبيل الاستقلال.

و إن شئت قلت: لكلّ يد على جميعها لكن بوجه معارض، لا أنّ لكلّ واحد يداً على ثلثها، بلا معارض كماً هو أساس محاسبة المحقق.

و على ضوء ذلك فلو قلنا بأنّ الكلّ مستول على جميع العين، لا موضوع لبيّنة الداخل و لا للخارج، فيقسم مورد التنازع بينهم أثلاثاً، و تكون النتيجة كما مرّت.

و على كلّ تقدير لا منازعة في الجزءين من اثني

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 180

عشر جزء، فانّ مدّعي النصف يدّعي ستة أجزاء، و مدّعي الثلث يدّعي أربعة أجزاء فالجزءان من اثني عشر جزء خارج من محطّ المنازعة و هما خالصان لمدّعي الكلّ.

و ممّا ذكرنا يظهر حال الصورة الخامسة و ما فوقها التي تعرض لهما المحقّق رضوان اللّه عليه.

المسألة الحادية عشرة ثمّ إنّ المحقّق افترض ما إذا كانت العين في يد أربعة

و فصّل الكلام في شقوقه و لعلّ حالها يعلم ممّا ذكرنا. و إليك التوضيح:

10/ 6+ 4

2- 21/ 10 غير المتنازع فيه

فيضرب الكل في ثلاثة لوجود عدد صحيح و يكون التقسيم من ستة

و ثلاثين فالمتنازع فيه ثلاثون و غير المتنازع فيه ستة و إليك الصورة العملية الحسابية:

6- 303/ 6 المتنازع فيه

10/ 3: 30

فلمدّعي الكل (16) لأنّ 16/ 6+ 10

و لمدّعي النصف (10).

و لمدّعي الثلث أيضاً (10).

المسألة الثانية عشرة إذا تداعى الزوجان متاع البيت
اشارة

فللمسألة صورتان:

الأُولى: إذا أقام واحد منهما البيّنة، يقضى لصاحبها تقديماً لها على اليد.

الثانية: إذا لم تكن لهما بيّنة فهناك أقوال أربعة:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 181

1 ما اختاره الشيخ في المبسوط من الحكم بالتنصيف قال: و إن لم يكن مع أحدهما بيّنة فيدُ كلّ واحد منهما على نصفه، يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه و يكون بينهما نصفين، و سواء كانت يدهما من حيث المشاهدة، أو من حيث الحكم و سواء كان ممّا يصلح للرجال دون النساء كالعمائم و الطيالسة و الدراريع و السلاح أو يصلح للنساء دون الرجال كالحليّ و المقانع و قمص النساء أو يصلح لكلّ واحد منهما كالفُرش و الأواني و سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لغيرهما و سواء كانت الزوجيّة باقية بينهما أو بعد زوال الزوجيّة، و سواء كان التنازع بينهما أو بين ورثتهما أو بين أحدهما و ورثة الآخر و فيها خلاف. «1» و ما اختاره هو مختار الشافعي كما سيوافيك من الخلاف.

و اختاره العلّامة في القواعد و ولده فخر المحققين. «2»

2- ما اختاره الشيخ في الخلاف من أنّ ما يصلح للرجال، للرجل، و ما يصلح للنساء للمرأة، و ما يصلح لهما يُقَسّم بينهما بعد التحالف و النكول حيث قال: إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فقال كلّ واحد منهما: كلّه لي و لم يكن مع أحدهما بيّنة، نُظِر فيه فما يصلح للرجال، القول قوله مع

يمينه، و ما يصلح من النساء فالقول قولها مع يمينها، و ما يصلح لهما كان بينهما.

و قد روي أيضاً أنّ القول في جميع ذلك قول المرأة مع يمينها و الأوّل أحوط.

و قال الشافعي: يد كلّ واحد منهما على نصفه يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه و يكون بينهما نصفين سواء كانت يدهما من جهة المشاهدة أو من حيث الحكم و سواء كان ممّا لا يصلح للرجال دون النساء أو للنساء دون الرجال، أو يصلح لهما، و سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، و سواء كانت الزوجيّة قائمة بينهما أو بعد زوال الزوجيّة، و سواء كان التنازع بينهما أو بين ورثتهما أو بين أحدهما و ورثة الآخر، و به قال عبد اللّه بن مسعود و عثمان البتي و زُفر، و قال

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 310.

(2) العلامة الحلي، الإيضاح: 4/ 381380.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 182

الثوري و ابن أبي ليلى: إن كان التنازع فيما يصلح للرجال دون النساء فالقول قول الرجل، و إن كان ممّا يصلح للنساء دون الرجال فالقول قول المرأة. «1»

و ممّا نقله الشيخ في الخلاف عن الشافعي يعلم أنّ خيرة الشيخ في المبسوط هو مختار الشافعي كما مرّ و أنّ ما اختاره في الخلاف، قول عبد اللّه بن مسعود و عثمان البتي و زفر. و أمّا ما نقله عن الثوري و ابن أبي ليلى فهو نفس ذاك القول لكنّهما لم يتعرضا لما يصلح لهما.

3- كلّه للمرأة، و هو خيرة الشيخ في الاستبصار. «2»

4- كلّه للرجل، لم يذهب إليه أحد من أصحابنا و إنّما أفتى به ابن أبي ليلى في بعض محاكمه كما سيوافيك.

و إليك دراسة الأقوال:

أمّا

الأوّل: فلأنّ لكلّ واحد يداً على نصف المتاع، فهو مدّع بالنسبة إلى ما في يد الآخر، و منكر بالنسبة إلى ما في يده فإذا حلف يبقى لكلّ لما تحت يده.

و الأُولى أن يقال إنّ لكلّ يداً على الجميع غير مستقل، و قد مرّ في محلّه انّ التنصيف مقتضى إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة «3» و مرسل محمّد بن أبي حمزة 4 و قد مرّ الكلام فيه فلاحظ.

و لكن العمل بهما متوقّف على عدم ورود نص خاص في المورد، باسم التنازع في متاع البيت و إلّا فيقدّم عليها.

و أمّا الثاني: فهو مقتضى صحيح النحاس عن أبي عبد اللّه قال: «إذا طلّق الرجل امرأته و في بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: الجزء 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 27.

(2) الطوسي، الاستبصار: 4.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من أبواب الصلح، الحديث 1 و 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 183

قسم بينهما. قال و إذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها، و ادّعى الرجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال، و لها ما يكون للنساء و ما يكون للرجال و النساء قسم بينهما». «1»

و التعبير الأخير أجمع حيث صرّح بالشق الثاني أي ما للرجال، فهو له، و إن كان التعبير الأوّل كاملًا أيضاً و ذلك لأنّ موردها طلاق المرأة و في مثله تترك المرأة البيت و ما فيه للزوج فإذا قال: «فلها ما يكون للنساء» يكون معناه أنّ الباقي للرجل.

و مثله موثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في امرأة تموت قبل الرجل أو

رجل قبل المرأة، قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له». 2

و لعلّ وجه الاكتفاء بشقّ واحد، و هو ما يختص بالنساء، من دون إيعاز إلى شق آخر و هو ما يختص بالرجل، هو ما مرّ.

و خبر زرعة عن سماعة قال: سألته عن رجل يموت ما له من متاع البيت؟

قال: «السيف و السلاح و الرحل و ثياب جلده». 3

و قد نسب صاحب المسالك هذا القول إلى الأكثر 4 و نقل عن المحقق انّه نسبه في نكت النهاية إلى المشهور.

نعم يعارضه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه. و هو الدليل للقول الثالث أي كلّ المتاع للمرأة.

روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له:

______________________________

(1) 1- 3 الوسائل: الجزء 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 2، 3، 4.

(2) 4 زين الدين، المسالك: 2/ 443.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 184

بلغني أنّه قضى في متاع الرَّجل و المرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ و ورثة الميّت أو طلّقها فادّعاه الرّجل و ادّعته المرأة بأربع قضايا فقال: «و ما ذاك؟» قلت:

1- أمّا أوّلهنّ فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي: كان يجعل متاع المرأة الّذي لا يصلح للرّجل، للمرأة، و متاع الرجل الّذي لا يكون للمرأة، للرّجل، و ما كان للرّجال و النّساء بينهما نصفين.

2- ثمّ بلغني أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً فالّذي بأيديهما جميعاً يدّعيان جميعاً بينهما نصفان.

3- ثمّ قال: الرّجل صاحب

البيت و المرأة الدّاخلة عليه، و هي المدّعية، فالمتاع كلّه للرّجل إلّا متاع النساء الّذي لا يكون للرّجال فهو للمرأة.

4- ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك لو لا أنّي شهدته لم أروه عنه:

ماتت امرأة منّا و لها زوج و تركت متاعاً فرفعته إليه فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرّجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان فإنّه من متاع الرَّجل فهو لك، فقال عليه السَّلام لي: «فعلى أيّ شي ء هو اليوم؟» فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرّجل.

ثمّ سألته عليه السَّلام عن ذلك فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: «القول الّذي أخبرتني أنّك شهدته و إن كان قد رجع عنه» فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: «أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين فقال: «لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين، و نحن يومئذ بمكّة لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يُهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي الّتي جاءت به و هذا المدّعي فإن زعم أنّه حدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة». «1»

______________________________

(1) الوسائل: ج 17، الباب 8، من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 185

علاج التعارض بين الروايات

قد تعرَّفت أنّ مقتضى القاعدة، هو التنصيف مع الحلف، خرج منه موردان:

1- إذا كان أحدهما مستولياً على متاع من أمتعة البيت، بحيث تعدّ اليدُ، يدَه، و يصدق عليه قوله عليه السَّلام في موثقة يونس بن يعقوب: «و من استولى على شي ء منه فهو له». «1» فيقدّم قوله، و عليه اليمين للآخر.

2- إذا أقرّ واحد من الزوجين، بانتقال المتاع من الآخر إليه، فعندئذ تنقلب الدعوى، فعلى مدّعي الانتقال

إثباته.

و أمّا إذا لم يكن واحد من الأمرين فمقتضى القاعدة، هو التنصيف بعد حلف كلّ واحد منهما للآخر إلّا أنّه وردت الروايات على خلافه و هي تصدّنا عن الأخذ بمقتضاها، و في الوقت نفسِه هما متعارضان إذ أين القول بالتفصيل بين المختصات، و الشركة في غيرها، من القول بكونه كلّه للمرأة.

و يمكن التخلص من المعارضة بالنحو التالي:

إنّ رواية ابن الحجاج ناظرة إلى ما هو المتعارف في ذلك اليوم، من زفّ المرأة إلى بيت الزوج مجهزة بالمتاع التي يحتاجه البيت من الأمتعة الخاصة حتّى يتمتع بها الزوجان إلى مدّة، و من المعلوم أنّه كالقرينة المتصلة بأنّه لها خصوصاً إذا كان الفصل بين النكاح و الطلاق أو الموت قليلًا و على ذلك لا يكون مفاده حكماً شرعياً تعبّدياً سارياً في جميع الاصقاع و الأزمنة حتّى و لو لم تكن هناك تلك العادة و على ذلك فما قاله الإمام ليس حكماً تعبدياً، و إنّما هو حكم قضائي نابع عن القرينة المفروضة في مورد السؤال فيحتجّ به في كلّ مورد مماثل له. و تعدّ تلك السيرة قرينة خاصة لهذا الحكم.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 186

و أمّا الحكم بالتفصيل بين المختصات و الإشراك في المشتركات، فهو قضاء على وفق الظاهر في غير الظرف الوارد في صحيحة ابن الحجاج فإنّ الاختصاص و إن لم يكن قرينة قطعية لجواز أن ترث المرأة من أبيها العمائم و الطيالسة و الدروع و السلاح، أو يرث الرجل من أُمّه الحُليّ و المقانع و القمص المطرزة بالذهب، و يكون كلّ تحت يدهما، و لكنّه لمّا كان أمراً نادراً، أُلغي

ذلك و أُخذ بالظاهر و مقتضى العادة، فإنّ مقتضاها أنّ ما يصلح للرجال خاصة، فإنّه من مقتضياته، دون مقتضيات المرأة، و كذا ما يصلح للمرأة خاصة يكون من مقتضياتها دون مقتضيات المرء و أمّا المشترك فبما أنّه فاقد للقرينة الظاهرة فهو يُقسّم بينهما.

و على ما ذكرنا يكون حكمه عليه السَّلام حكماً قضائياً أوسع ممّا جاء في رواية ابن الحجاج و في غير موردها فيحتج بها في كلّ مورد كانت فيها تلك العادة و القرينة العامة، و إلّا فالمرجع هو موازين القضاء من الحلف و التقسيم.

و ما ذكرناه يرجع إلى ما ذكره صاحب المسالك من قوله: «و الرابع الرجوع في ذلك إلى العرف العام أو الخاص فإن وجد عمل به و إن انتفى أو اضطرب كان بينهما، لتصادم الدعويين و عدم الترجيح، و ذهب إلى ذلك العلّامة في المختلف و الشهيد في الشرح و جماعة من المتأخرين لما فيه من الرجوع إلى العرف و الجمع بين الأخبار مع مراعاة الأُصول المقرّرة». «1»

نعم ما ذكره ليس قولًا رابعاً، كما عبّر به، و إنّما هو جمع بين الروايات و مقتضى القاعدة، و المهم، هو التركيز على أنّ حكم الإمام فيما سبق من الروايات ليس حكماً تعبديّاً، واقعياً أو ظاهرياً، و إنّما هو حكم قضائي في مورد النزاع و ليس المراد من الحكم القضائي، أنّ الإمام جلس مسند القضاء و حكم بهما، بل المراد أنّ سؤال السائل، صار سبباً لفرض النزاع و الإجابة بما هو مقتضى أدلة القضاء و لو وجد مورد، خال عن الخصوصيات الحافّة بهذه الروايات وجب فصل النزاع

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 443.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 187

بالقاعدة

الأوّلية في باب القضاء.

و في نهاية المطاف ما جاء في رواية ابن الحجاج قرينة خاصة و ما جاء في روايات القول الثاني قرينة عامة و إن شئت فعبّر بالعرف الخاص و العام.

إذا ادّعى أبو الزوجة إعارة الجهاز

و لو ادّعى أبو الميّتة: أنّه أعارها بعض ما في يدها من متاع أو غيره. ففيه قولان:

1- كلّف البيّنة.

2- يقبل قول الأب دون غيره.

و الأوّل خيرة المحقّق في الشرائع، و نَسَبَ القول الثاني إلى رواية ضعيفة.

أمّا القول الأوّل، فلأجل أنّه المدّعي و لا تقبل دعواه بدونها.

يلاحظ عليه: إذا صدّق الزوجُ سبقَ يد الأب على المتاع و جريانها عليه، فهو يسلِّم كونه مالكاً و ذا يد على المتاع قبل تجهيز بنته به، و انتقاله إلى بيته، فيستصحب حكم اليد حتّى يعلم الخلاف و معه لا يحتاج إلى البيّنة.

و أمّا الرواية التي وصفها المحقق بالضعف فقد رواها الكليني بالسند التالي:

عن محمّد بن جعفر الكوفي الأسدي، عن محمّد بن إسماعيل عن جعفر بن عيسى قال كتبت إلى أبي الحسن يعني علي بن محمّد عليهما السَّلام: المرأة تموت فيدّعي أبوها أنّه كان أعارها بعض ما كان عندها من متاع و خدم أتقبل دعواه بلا بيّنة أم لا تقبل دعواه بلا بيّنة؟ فكتب إليه (يعني علي بن محمّد): «يجوز بلا بيّنة». «1»

و أمّا تفصيل السند فمحمّد بن جعفر بن محمّد بن عون الكوفي الأسدي ممّن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 23 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 188

وثّقه النجاشي و قال: ثقة، صحيح الحديث.

و أمّا الثاني فهو محمّد بن إسماعيل بن أحمد بن بشير، البرمكي صاحب الصومعة فقد قال النجاشي: إنّه ثقة و لا عبرة بتضعيف ابن الغضائري

كما حقّق في محلّه.

و أمّا الثالث فهو جعفر بن عيسى بن عبيد اليقطيني أخو محمّد بن عيسى ابن عبيد بن يقطين، فلم يرد فيه توثيق سوى ما رواه الكشي بسند صحيح عن أبي الحسن الهادي أنّه قال: «ما أعلمكم إلّا على هدى جزاكم اللّه على النصيحة القديمة و الحديثة خيراً» «1» و أمّا أخوه فقد وصفه النجاشي بأنّه ثقة عين و لعلّ هذا المقدار يكفي في الاعتماد على الرواية.

و رواه الشيخ بنفس هذا السند، و رواه الصدوق، و قال: روى محمّد بن عيسى بن عبيد عن أخيه جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السَّلام و سنده في المشيخة إلى محمّد بن عيسى صحيح قال فيها و ما رويته عن محمّد بن عيسى فقد رويته عن أبي رضي اللّه عنه عن سعد بن عبد اللّه عن محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، و رويته عن محمّد بن الحسن رضي اللّه عنه عن محمّد بن الحسن الصفار، عن محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني. «2»

ثمّ إنّ ابن إدريس قد أطنب الكلام حول الحديث و أورده في باب النوادر من القضاء و الأحكام و قال: إنّه خبر واحد لا يفيد علماً و لا عملًا، مضافاً إلى انّه مكاتبة فقد يُزور على الخطوط و لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلّا على قول المفتي دون ما يجده بخطه ثمّ ذكر في ردّ الحديث وجوهاً أُخر، ليست صالحة للردّ. «3»

______________________________

(1) الكشي، الرجال: 420، برقم 353.

(2) الفقيه: ح 4، قسم المشيخة: 92. و قد حقّقنا في محلّه أنّ محمّد بن عيسى بن عبيد ثقة و أنّ استثناء ابن الوليد إيّاه عن رجال نوادر الحكمة، غير صحيح.

(3) الحلي، السرائر: 2/

187.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 189

نعم ذيل الحديث يشمل على الفرق بين الأب و غيره قال:: و كتبت إليه إن ادّعى زوج المرأة الميتة أو أبو زوجها أو أُم زوجها في متاعها و خدمها مثل الذي ادّعى أبوها في عارية بعض المتاع و الخدم أ يكون ذلك بمنزلة الأب في الدعوى فكتب: «لا».

و لعلّ الوجه عدم جريان أيديهم على المتاع، و ذلك لما يظهر من صحيحة ابن الحجاج كون الرسم في تلك الظروف هو إتيان المرأة بمتاع البيت من بيت الأب، و إلّا فلو كان الرسم مشاركة الزوج أو أبيه أو أُمّه في تجهيز البيت بالمتاع لقبل قولهم بلا بيّنة و اللّه العالم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 190

المقصد الثالث في دعوى المواريث

اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى لو مات المسلم عن ابنين، فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب و ادّعى الآخر مثلَه فأنكر أخوه.
اشارة

قال المحقّق: فالقول قول المتّفق على تقدّم إسلامه، مع يمينه أنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه.

و استُدلّ على قول المحقّق بأنّ الأصل بقاء الأخ على كفره إلى أن يثبت المزيل، نعم على الآخر الحلف على عدم علمه بتقدّم إسلامه إن ادّعي عليه العلم.

أقول: إنّ للمسألة صوراً ثلاثاً:

الصورة الأُولى: إذا كان موت المورّث معلوماً تاريخاً و أنّه تُوفي في مُستهلّ شعبان، و كان إسلام الأخ الثاني مختلفاً فيه

، فهو يدّعي أنّه أسلم في شهر رجب، و أخوه يدّعي أنّه أسلم في رمضان فلا شكّ أنّ الأصل لا يجري في معلوم التاريخ، لعدم الشكّ فيه و لا في تاريخه، فانّ ظرف وقوعه في عمود الزمان معلوم و واضح فلا تشمله أدلّة الاستصحاب، و كونه مجهولًا بالنسبة إلى حالة الحادث الآخر من تقدّم إسلام الوارث عليه أو تأخّره عنه، لا يجعله مجهولًا أو مشكوكاً فيه حتّى يجري فيه الأصل، إذ الجهل أو الشكّ في إسلام الوارث بالذات، لا في موت المورّث و تصوير الجهل أو الشكّ فيه بالنحو المذكور لا يجعله من أقسام المجهول أو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 191

المشكوك بالذات و على ضوء ذلك فيجري الاستصحاب في جانب المجهول، دون المعلوم فتجري أصالة بقائه على كفره إلى حال موت مورّثه و يكفي ذلك في الحجب من الإرث و شمول قوله: «لا يرث الكافر المسلم» «1». أو «لا يرث المشرك المسلم». 2 أو «لا يرث اليهودي و النصراني المسلمين». 3 على المورد.

و أورد عليه صاحب الجواهر بوجهين:

1- انّ استصحاب البقاء على دينه، لا يفيد تأخّر المدّعى به (الإسلام) عن الحادث الآخر المعلوم تاريخه.

2- انّ ذلك يقتضي عدم الحكم بإسلامه قبل موت الأب و ذلك لا يكفي في نفي الإرث المقتضي له نفس الولدية، و ذلك لأنّ الكفر

مانع، و ليس الإسلام شرطاً حتّى يكفي عدم تحقّق الشرط.

يلاحظ على الأوّل: أنّ الأثر (الحجب) مترتّب على كفر الوارث حين موت المورّث و هو محرز بالاستصحاب، من دون حاجة إلى إثبات تأخّر الإسلام عن موت المورِّث.

و أمّا الثاني الذي حاصله: «أنّ الإسلام ليس شرطاً في التوريث حتّى يحتاج إلى الإحراز بل الكفر مانع بعد وجود المقتضي و هو الولدية، و يكفي فيه عدم احرازه» فيردّه أنّ الحاجب محرز بالاستصحاب فكيف نتوقّف في حرمانه؟!

نعم هنا إشكال و هو أنّ الأثر (الحجب) ليس مترتّباً على كفر الوارث حين موت المورّث بل هو مترتّب على موت المورِّث عن وارث كافر و هو لا يثبت بالأصل. لكن الإجابة عنه واضحة بعد الإحاطة بكلمات المشايخ، و هو أنّه إذا كان موضوع الأثر من اللوازم البيّنة للمستصحب، بحيث يراه العرف نفسه و إن كان غيره عقلًا يثبت به، ذلك اللازم البيّن كما في المقام فإنّ موت المورِّث عن وارث

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الوسائل: الجزء 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 3، 5، 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 192

كافر، تعبير آخر عن كفر الوارث حين موت المورّث، و إلّا فلو توقّفنا في حجّية هذا النوع من الأصل لزم عدم سلامة أكثر الاستصحابات الموضوعية عن مثل هذا الإشكال، مثلًا:

إذا غُسِل الثوبُ النجس في ماء مسبوق بالكرّية، فإنّ استصحاب كرّية الماء لا يثبت انغسال الثوب في الماء الكرّ الذي هو الموضوع الحقيقي للأثر، و كذا استصحاب بقاء الوقت لا يثبت الإتيان بالصلاة فيه إلّا على النحو الذي عرفت.

الصورة الثانية: إذا كان إسلام الوارث معلوماً تاريخاً، و موت المورّث مجهولًا،

لا يجري الأصل في المعلوم لما عرفت من عدم الإبهام في الخارج، و إنّما مجراه

هو المجهول أعني: استصحاب حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث أو عدم موته إلى ذلك الزمان، و لكنّه عقيم لعدم كونه موضوعاً للأثر و لا ملزوماً للموضوع، إذا أقصاه حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث و هو ليس موضوعاً لأثر شرعي و إنّما الموضوع موت المورّث في زمان إسلامه، اللّهمّ إلّا أن يقال بحجّية الأصل المثبت. فانّه إذا كان المورّث حيّاً حين إسلام الوارث و المفروض أنّه توفي الآن، فيلزم موته عن وارث مسلم.

الصورة الثالثة: إذا كان كلّ من الحادثين (إسلام الوارث و موت المورّث مجهولًا)

فيجري الأصل في جانب دون الجانب الآخر، لما عرفت من ترتّب الأثر على أصالة بقاء الوارث على كفره إلى زمان موت المورّث، لا على الآخر، و هو استصحاب حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث، و تكون النتيجة الحجب و الحرمان في جميع الصور الثلاث.

و على ضوء ذلك فالأخ المتّفق على تقدّم إسلامه منكر لكون مدّعاه موافقاً

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 193

للأصل، و الآخر مدّع لا يثبت إلّا بالبيّنة. و لك أن تقول انّه لا حاجة في تشخيص المدّعي عن المنكر، إلى هذه الأُصول المعقّدة، بل يكفي الرجوع إلى العرف و النتيجة في المآل واحدة لأنّ مدّعي تقدّم إسلامه على موت مورّثه، يدّعي شيئاً جديداً بعد ما كان الحكم السائد على الموضوع هو الحرمان فمن يدعي شيئاً جديداً فعليه البيّنة و إلّا فيدفع ادّعاؤه بيمين المنكر.

المسألة الثانية لو اتّفقا على أنّ أحدهما أسلم في شعبان، و الآخر في غرّة رمضان

ثمّ قال المتقدّم: مات الأب قبل دخول شهر رمضان و قال المتأخّر: مات بعد دخول رمضان.

قال المحقّق: «كان الأصل بقاء الحياة و التركة بينهما نصفين» و أضاف صاحب الجواهر إليه قوله: «بلا خلاف و لا إشكال».

هذه هي الصورة الثانية من الصور الثلاث المذكورة في المسألة المتقدمة التي أوضحنا حالها و قد عرفت أنّ استصحاب حياة المورّث إلى زمان اسلام الوارث لا يترتّب عليه الأثر، و إنّما يترتّب على لازمه العقلي أعني: تأخر موت المورِّث عن إسلامه.

المسألة الثالثة دار في يد إنسان ادّعى آخر أنّها له و لأخيه الغائب، إرثاً عن أبيهما و أقام بيّنة
اشارة

فلها صور:

الصورة الأُولى: إذا كانت البيّنة كاملة و شهدت أنّه لا وارث سواهما،

فلا شكّ أنّه يُسلَّم إليه النصف لشهادة البيّنة على كونه مالكاً له إنّما الكلام في النصف الآخر، الّذي

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 194

شهدت البيّنة انّه للغائب فهل يبقى في يد من في يده الدار، كما في المبسوط؟ «1» أو يجعل في يد أمين حتّى يعود كما في الخلاف؟ «2» و ربّما يؤيّد الثاني بأنّ من كانت الدار في يده، سقط بإنكاره عن الأمانة و لكنّه ليس بإطلاقه صحيحاً إذ ربّما يكون استيلاؤه على الدار عن طريق الاشتراء أو الاتّهاب من دون أن يقف على كون البائع أو الواهب غاصباً، و بما أنّ الحاكم وليّ الغائب يُسلّم النصفَ الآخر إلى الأمين من غير فرق بينه و بين غيره.

ثمّ إنّ القابض للنصف لا يُلزم بإقامة ضمين بما قبض، لقيام الحجّة على انحصار الوارث في شخصين متساويين في الإرث.

و أمّا المراد من البيّنة الكاملة فقد فسّره الشيخ في الخلاف و قال: «و أقام بيّنة من أهل الخبرة الباطنة و المعرفة أنّهما ورثاه و لا نعرف له داراً سواهما». «3» و قال في المبسوط: و هي أن تكون البيّنة خبرة بباطن أمره و لو كان له ولد عرفاه و الخبرة المتقادمة حتّى لا يخفى عليها قديم أمره و جديده. «4»

و بذلك يعلم أنّ ما استظهره صاحب الجواهر من عبارة المحقق أعني: فإن كانت كاملة و شهدت أنّه لا وارث سواهما من أنّ قوله: «لا وارث سواهما» بمنزلة التفسير لها، متين، و أنّ ما احتمله صاحب المسالك من أنّ المراد بها، ذات الخبرة و المعرفة بأحوال الميّت سواء شهدت بأنّها لا تعلم وارثاً غيرهما أم لا، غير تامّ.

الصورة الثانية: إذا لم تكن البيّنة كاملة و شهدت أنّها لا تعلم وارثاً غيرهما

قال المحقّق: «أُرجئ التسليم حتّى

يبحث الحاكم عن الوارث مستقصياً بحيث لو كان وارث

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 274، كتاب الدعاوي و البيّنات، فصل الدعوى على الميراث.

(2) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، مسائل تعارض البيّنتين، المسألة 12.

(3) الطوسي، الخلاف: المصدر نفسه.

(4) الطوسي، المبسوط، المصدر السابق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 195

لظهر، و حينئذ يسلّم إلى الحاضر نصيبه و يضمنه استظهاراً».

فكلامه هذا يدل على أمرين:

1- لا يجوز الدفع إلّا بعد البحث و الفحص.

2- و لو تمّ البحث لا يدفع إلّا بعد أخذ الضامن بما يقبضه لو ظهر بعد ذلك مراعاة للاحتمال الذي يبقى بعد البحث و الفحص.

أمّا الأوّل: فلأنّ البيّنة دلّت على كونه وارثاً و أمّا الكمّية فهي مجهولة و أصلُ عدم وارث آخر، لا يثبت الكمية إلّا على القول بالأصل المثبت هذا من جانب و من جانب آخر، يحتمل أن يكون الإمساك، ضرراً على المدّعي فمقتضى الجمع بين الحقّين إرجاء الواقعة حتّى تتبيّن الحال.

و أمّا الثاني: أي تضمينه استظهاراً فليس عليه دليل صالح سوى أصل الاحتياط في الأموال خصوصاً إذا كان الوارث موثوقاً بوفائه و ملئه.

على أنّ الظاهر من رواية معاوية بن وهب، جواز التقسيم مع احتمال وجود وارث آخر، من دون تضمين.

قال قلت: لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره، و لا ندري ما أحدث له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئاً و لا حدث له ولد و لا تقسّم هذه الدار، على ورثته الذين تَرَك في الدار حتّى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار،

دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان أو نشهد على هذا؟ قال: «نعم». «1»

الصورة الثالثة: إذا كان الوارث ذا فرض ينقص على تقدير وجود الوارث عن فرضه

، قال

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 17 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 196

المحقّق: أعطي مع اليقين بانتفاء الوارث (أو مع الشهادة الكاملة) نصيبه تامّاً، و على التقدير الثاني (عدم اليقين واقعاً و لا شرعاً) يعطيه ما يتيقن استحقاقه له، إن كان وارث آخر فيعطى الزوج الربع، و الزوجة ربع الثمن معجّلًا من غير تضمين و بعد البحث و عدم ظهور وارث آخر تتمم الحصّة مع التضمين.

و قد تقدّم عدم وجود التضمين.

الصورة الرابعة: إذا كان الوارث ممّن يحجبه غيره كالأخ المحجوب بالأبوين و الأولاد

فإن أقام البيّنة الكاملة أُعطي المال كلّه، و إن أقام بيّنة غير كاملة أُعطي بعد البحث و الاستظهار بالضمين.

و قد تقدّم عدم الدليل على أخذ الضامن.

و لو صدق المتشبّثُ المدّعي على عدم وارث غيره فإن كان المدّعى به عيناً فلا تُسمع الدعوى لأنّه ليس إقراراً على نفسه بل إقرار في حقّ الغير المحتمل و إن كان ديناً يسمع لأنّه إقرار في نفسه، لانّه لا يتعيّن ما يدفعه للغائب إلّا بقبضه أو قبض وكيله أو وليه. «1» و المفروض عدمه.

المسألة الرابعة إذا ماتت امرأة و ابنها، فقال أخوها: ماتَ الولد أوّلًا ثمّ المرأة فالميراث لي و للزوج نصفان.

و قال الزوج: بل ماتت المرأة ثمّ الولد فالمال لي.

فلو أقام واحد منهما البيّنة يُقضى بها و مع عدمها قال المحقّق:

1- لا يقضي بإحدى الدعويين، لأنّه لا ميراث إلّا مع تحقّق حياة الوارث

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 444، الطبعة الحجريّة عام 1268.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 197

فلا ترث الأُمّ من الولد، و لا الابن من أُمّه.

2- و تكون تركة الابن لأبيه و تركة الزوجة بين الأخ و الزوج.

للمحقّق هنا دعويان:

أ: عدم وراثة واحد من الأُمّ و الولد عن الآخر، وجهه: إنّ سبب الميراث حياة الوارث عند موت المورِّث و هي و إن كانت محرزةً بالأصل، لكنّه معارض لأنّ أصالة بقاء حياة الولد إلى زمان موت الأُمّ و إن كان يوجب الإرث، لكنّه معارض بأصالة بقاء الأُمّ إلى زمان موت الولد، و لا نحتاج في التوريث إلى التأخّر، حتّى يقال إنّه مثبت، و إنّما الإشكال في كونه معارضاً.

ب: تكون تركة الزوجة الأصلية (غير ما ترثه من الولد على فرض تأخر موتها) بين المدّعيين، لأنّ المقام أشبه بعين يتنازع فيها اثنان، لكلّ عليها يد، أو ليس لواحد منها عليها يد

فيقسم بينهما.

هذا تحليل ما في الشرائع.

و لنا هنا تعليقان:

الأوّل: ذكر المحقق من صور إقامة البيّنة خصوص ما إذا أ قامها واحد منهما و لكن لو افترضنا إقامتهما البيّنة، فقد سبق أنّ الحكم عند التكافؤ و عدم يد واحد منهما عليه، هو القرعة لمن تصار إليه اليمين و المقام من مصاديق هذه القاعدة و تصوّر استيلاء كلّ منهما على العين و يدهما عليها غير تام إذ العبرة باليد الكاشفة عن الملكية و ليست هي في المقام كذلك للعلم بأنّ سبب استيلاء كلّ على العين لأجل ادّعاء الوراثة الذي لم يثبت بعدُ فكيف نعتمد على مثلها.

و على ضوء ذلك فلو خرجت القرعة باسم الزوج و حلف يأخذ الكلّ.

و لو خرجت باسم الأخ، و حلف يأخذ نصف تركة الأُم الأصلية، و نصف ما ورثه من الولد، أمّا الأوّل فواضح و أمّا الثاني فلأنّه لو افترضنا صدق بيّنة الأخ،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 198

فتركة الولد، تقسّم بين الأُم و الزوج أثلاثاً، ثلث للأُمّ، و الثلثان للوالد لقوله سبحانه: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (النساء/ 11) أي لأُمّه الثلث فرضاً و أمّا الثلثان فهو للأب لا فرضاً بل ردّاً، لعدم وارث آخر في طبقتها فإذا أخذت الأُم فريضتها، يرث الأب الباقي.

فإذا ماتت الأُمّ عن ثلث واصل إليها من الولد، فالنصف منه (السدس) للزوج لقوله سبحانه: (وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) (النساء/ 12) فيبقى النصف الآخر من الثلث (السدس) للأخ.

فتكون النتيجة أنّه إذا خرجت القرعة باسم الأخ يرث هو نصف أصل التركة، و نصف ما ورثته الأُمّ من الولد.

الثاني: لو افترضنا عدم البيّنة مطلقاً،

قال المحقّق: تقسم تركة الأُمّ الأصلية بين المدّعيين، مع أنّ مقتضى القاعدة، هو تقسيم نصف التركة، بينهما نصفين لأنّ الأخ يسلّم بأنّ نصفها للزوج بلا إشكال و إنّما يتداعيان في النصف الباقي منها فكلّ من الزوج و الأخ يدّعيه فمقتضى القاعدة، هو تنصيف موضع النزاع بين المدّعين، لا تنصيف ما هو خارج عن محلّ الدعوى.

فتلخّص من ذلك أمران:

1- انّه لو أقاما بيّنة و خرجت القرعة باسم الأخ فهو يرث سدس مال الولد، منضماً إلى نصف تركة الأُمّ الأصلية.

2- و لو لم تكن هناك بيّنة فإنّما يقسم، نصف تركة الأُمّ انصافاً لا كلّ التركة كما هو ظاهر كلام المحقّق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 199

المقصد الرابع في الاختلاف في الولد

اشارة

إذا وطأ اثنان امرأة، وطأ يلحق به النسب إمّا أن تكون زوجةً لأحدهما و مشتبهة على الآخر، أو مشتبهة عليهما، أو يعقد كلّ واحد منهما عليها عقداً فاسداً.

فللمسألة صور:

الأُولى: أن لا يمكن إلحاقه بالثاني و أمكن بالأوّل

كما إذا وضعت لأقلّ من ستة أشهر من وطء الثاني، و لتسعة أشهر فما دون إلى ستة أشهر عن وطء الأوّل، فيلحق بالأوّل لعدم إمكان إلحاقه بالثاني لعدم مضيّ مدّة تمكن ولادتُه منه مع إمكان ولادته من الأوّل و هو زوجها في هذه المدّة.

الثانية: أن لا يمكن إلحاقه بالأوّل و أمكن بالثاني

كما إذا وضعت لستة أشهر فصاعداً إلى أقصى الحمل من وطء الثاني و للزائد عن أقصى الحمل من وطء الأوّل فيلحق بالثاني لعدم إمكان إلحاقه بالأوّل.

الثالثة: أن لا يمكن إلحاقه بواحد منهما

كما إذا وضعت لأقلّ من ستة أشهر من وطء الثاني و لأكثر من أقصى الحمل من الأوّل فينتفي عنهما لفقد شرط اللحوق بواحد منهما.

الرابعة: إذا أمكن اللحوق بكليهما

كما إذا وضعت لستة أشهر فصاعداً إلى ما دون أقصى الحمل من وطء الثاني و لأقصى مدّة الحمل فما دون من وطء الأوّل حيث يمكن تولّده منهما.

و هذا القسم الأخير، هو الّذي طرحه المحقّق في المقام فقال:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 200

إذا أتت بولد لستة أشهر فصاعداً ما لم يتجاوز أقصى الحمل فحينئذ يقرع بينهما.

هذا هو رأي المحقّق و أمّا غيره فقال الشيخ في الخلاف:

إذا اشترك اثنان في وطء امرأة في طهر واحد و كان وطئان يصحّ أن يلحق به النسب و أتت به لمدّة يمكن أن يكون من كلّ واحد منهما أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته ألحقناه به، و به قال علي عليه السَّلام.

و قال الشافعي: نريه القافة فمن الحقته به ألحقناه به، فإن لم تكن قافة أو اشتبه الأمر عليها أو نفته عنهما تُرك حتّى يبلغ فيُنسب إلى من شاء منهما ممّن يميل طبعه إليه، و به قال أنس بن مالك و هو إحدى الروايتين عن عمر، و به قال في التابعين عطاء، و في الفقهاء مالك و الأوزاعي و أحمد بن حنبل.

و قال أبو حنيفة: ألحِقه بهما معاً و لا أُريه القافة، و حكى الطحاوي، و في المختصر قال: إن اشترك اثنان في وطء الأمة فتداعياه فقال: كلّ واحد منهما هذا ابني الحقته بهما معاً فأُلحِقه باثنين، و لا أُلحقه بثلاثة، و قال أبو يوسف: ألحقه بثلاثة، و اختار الطحاوي طريقة أبي يوسف هذا قول المتقدّمين.

و قال المتأخّرون منهم الكرخي و الرازي

يجوز أن يلحق الولد بمائة أب على قول أبي حنيفة و المناظرة على هذا يقع. قال أبو حنيفة فإن كان لرجل أمتان فحدث ولد فقالت: كلّ واحدة منهما هو ابني من سيدي قال: ألحقه بهما فجعله ابناً لكلّ واحدة منهما و للأب أيضاً. قال أبو يوسف و محمّد: لا يُلحق بأمتين لأنّا نقطع أنّ كلّ واحدة منهما ما ولدته و أنّ الوالدة إحداهما و أبو حنيفة ألْحق الولد الواحد بآباء عدة، و بأُمهات عدة. «1»

فقد ذهب الشيخ و المحقق و لعلّ المشهور إلى القرعة و يدلّ عليه

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوى و البيّنات، المسألة 23.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 201

ما يلي:

روى زيد بن أرقم: إنّهم أتوا أمير المؤمنين عليه السَّلام في امرأة أتوها في طهر واحد كلّهم يدّعي الولد فأقرع و الحق الولد بمن أقرع، و غرمه ثلثي قيمة الأُمّ، و أنّهم سألوا رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن ذلك فقال: لا أعلم إلّا ما قال علي عليه السَّلام. «1»

و عن الباقر عليه السَّلام: «إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم سأل أمير المؤمنين عليه السَّلام عن أعجب ما ورد عليه فخبره بذلك، فقال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ليس من قوم يتنازعون ثمّ فوضوا أمرهم إلى اللّه تعالى إلّا خرج سهم المحق» «2»، إلى غير ذلك.

و على كلّ حال فالظاهر الرجوع إلى القرعة، قال المحقّق: سواء كان الواطئان مسلمين أو كافرين أو عبدين أو حرّين أو مختلفين في الإسلام و الكفر و الحريّة و الرّق، أو أباً و ابنه و في الجواهر: بلا خلاف معتدّ

به أجده بيننا في ذلك، بل الظاهر الإجماع عليه، بل ادّعاه بعض صريحاً. «3»

ثمّ إنّهم اشترطوا في الرجوع إلى القرعة أُموراً:

1- أن يكون الإتيان في طهر واحد و لو تخللت بينهما حيضة انقطع الإمكان عن الأوّل لأنّ الحيض علامة براءة الرحم شرعاً.

يلاحظ عليه: أنّه إذا صحّت نسبتهما إليهما و كان أحدهما زوجاً يلحق بالفراش و إن كان الإتيان في طهرين يتخلّل بينهما حيضة واحدة، لقوّة الفراش.

______________________________

(1) النوري، المستدرك: 17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3 و 5.

(2) الوسائل، الجزء 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(3) الجواهر: 40/ 517.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 202

2 أن لا يعرف السابق و اللاحق و إلّا فيلحق بالأخير.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا لم يكن الأوّل زوجاً و إلّا فيلحق بالمتقدّم إذا كان زوجاً لقوّة الفراش.

3- إذا لم يكن لأحدهما بيّنة و إلّا حكم لمن كانت له البيّنة.

يلاحظ عليه: بأنّ إقامتها صعب جدّاً، إذ كيف يمكن أن تشهد على أنّ الولد لأحدهما المعيّن و التفصيل موكول إلى محلّه.

تمّ الكلام في تحرير مسائل القضاء بعون اللّه سبحانه و تعالى

و قد لاح بدر تمامه يوم الأحد لعشرين خلون من شهر ربيع الأوّل

من شهور عام 1404 ثمّ أعدنا النظر في الدورة الثانية

و تمّت المراجعة و التبييض في اليوم الثالث من شهر شعبان المعظم، يوم

ميلاد الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السَّلام من شهور عام 1416.

نشكره سبحانه على آلائه و نعمائه اللّهمّ ما بنا من نعمة فمنك و إليك

و الحمد للّه ربّ العالمين

و صلّى اللّه على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية

الغراء، ج 2، ص: 203

كتاب الشهادات

اشارة

تاليف

العلّامة الفقيه

جعفر السبحاني

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 205

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة و السّلام على سيّد رسله و خاتم أنبيائه، محمّد و آله الطاهرين الّذين هم أساسُ الدين و عمادُ اليقين، إليهم يفي ء الغالي، و بهم يلحق التالي، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج، و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد: فلمّا انتهينا من دراسة كتاب القضاء رأينا اشتياق حضّار بحثنا إلى اردافها بدراسة كتاب الشهادات على غرار كتاب شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي قدس سره. للصلة القوية بين بحوث الكتابين فلا يكتمل أحدهما إلّا بالآخر. فنزلنا عند رغبتهم متوكّلين عليه سبحانه أنّه خير مسئول، و خير معين. فنقول:

الشهادة في اللغة و الاصطلاح

الشهادة: اسم من المشاهدة، و هي الاطّلاع على الشي ء عياناً يقال: شهدتُ الشي ء اطلعتَ عليه و عاينتَه، فأنا شاهد، و الجمع أشهاد و شهود. و منه قوله سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185) و كأنّ المقيم يعاين الشهر فيجب عليه الصوم، بخلاف المسافر و قوله: (وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2) أي و لتحضر و مرجع الحضور في الواقعة إلى تحمّل العلم عن حضور و حسّ، ثمّ استعمل في أدائها و إظهار الشاهد ما تحمّله من العلم، ثمّ صار كالمشترك بين التحمّل و التأدية بعناية وحدة الغرض فانّ التحمّل يكون

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 206

غالباً لحفظ الحقّ و الواقع من طروء البطلان عليه بنزاع أو تغلّب أو نسيان، أو خفاء، فكانت الشهادة سبباً لحفظ الحقّ و الواقع، فبهذه العناية كان التحمّل و التأدية كلاهما شهادة لوحدة الغرض و هو حفظ الحقّ و إقامته. «1»

هذا

هو حسب اللغة و أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه الشهيد قدس سره في القواعد بقوله: «إخبار جازم عن حقّ لازم للغير، واقع من غير حاكم». «2» و قال أيضاً: الشهادة و الرواية تشتركان في الجزم و ينفردان في أنّ المخبر عنه إن كان أمراً عاماً لا يختص بمعين فهو الرواية كقوله عليه السَّلام: «لا شفعة فيما لا يقسم» فإنّه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة و إن كان لمعين فهو الشهادة كقوله عند الحاكم أشهد بكذا لفلان.

و قال أيضاً: الفرق بين الفتوى و الحكم أنّ الفتوى مجرّد إخبار عن اللّه تعالى بأنّ حكمه في هذه القضية كذا، و الحكم إنشاء إطلاق أو إلزام ممّا يتنازع فيه الخصال لمصالح المعاش. «3»

فنقول: إنّ أُصول البحث في كتاب الشهادات لا تتجاوز عن خمسة و هي:

1- في صفات الشاهد.

2- بما ذا يصير الشاهد شاهداً (مستند الشهادة).

3- في المواضع التي تقبل فيها الشهادة من أقسام الحقوق.

4- في الشهادة على الشهادة.

5- في اللواحق.

و إليك الكلام فيها واحداً بعد واحد.

______________________________

(1) الطباطبائي، الميزان: 3/ 118، بتصرّف يسير.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 7.

(3) مكي العاملي، القواعد و الفوائد: ح 1 في ذيل القاعدة 82، ص 247 و القاعدة 114.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 207

المقصد الأوّل في صفات الشهود

اشارة

يشترط في الشاهد أُمور:

الأوّل: البلوغ

لا تقبل شهادة الصبيّ عند جميع الشعوب ما لم يبلغ حدّاً يستطيع معه على تمييز الأشياء و الأفعال، و حفظ ما عاين منهما في الذاكرة، ثمّ أدائها إلى الغير، حسب ما شاهد، و بما أنّ الصبيان مختلفون في الذكاء و الحفظ و الأداء، أخذ الشارع موقفاً حاسماً باشتراط البلوغ فلا يقبل إن لم يبلغ و إن كان ذكياً، حفيظاً، منطيقاً، لأنّ العبرة بالغالب لا الشاذ، إلّا أن يفيد العلم للقاضي، و عند ذلك يكون المرجع علمه، لا شهادته.

و يستطيع الإنسان، أن يستنبط ذلك التحديد من الإمعان في الروايات الواردة في الأبواب المختلفة التالية و نكتفي من كلّ باب، بالقليل:

1- ما ورد في الباب الرابع من أبواب مقدّمات العبادات و فيه قول الإمام علي عليه السَّلام مخاطباً لعمر: «أما علمتَ أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم، و عن المجنون حتّى يفيق، و عن النائم حتّى يستيقظ». «1»

2- ما ورد في كتاب الحجر من عدم جواز أمره حتّى يبلغ «2» حيث يمكن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 1، الباب 4 من أبواب مقدّمات العبادات، الحديث 11 و لاحظ عامة روايات الباب.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 2 من أبواب أحكام الحجر، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 208

الاستئناس به للمقام.

3- ما دلّ على عدم جواز وصيّة الصبيّ إلّا إذا بلغ عشر سنين. «1» و الاستثناء دليل على عدم العبرة بفعله و قوله إلّا في مورد الوصية.

4- ما يدلّ على أنّهم إذا تحمّلوا في الصغر جازت لهم التأدية إذا بلغوا. «2» و لو جازت شهادتهم قبل البلوغ، لكان التقييد لغواً.

5- ما ورد في باب القصاص من أنّ المجنون

و المعتوه الذي لا يفيق و الصبي الذي لم يبلغ، عمدهما خطأ تحمله العاقلة و قد رفع عنهما القلم. «3»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في شأن الصبي الّتي يفيد المجموع من حيث المجموع عدم الاعتداد بقول الصبي و فعله إلّا في موارد نادرة و لأجل ذلك عُدّ البلوغ شرطاً في نفوذ الشهادة و إن لم يرد فيه نصّ خاص.

و تمكن استفادة الاشتراط من الاعتداد بشهادة الصبيّ على القتل تحت شروط خاصة، المعرب عن عدم الاعتداد بشهادته في غيره. و إليك بعض كلمات الأصحاب ثمّ سرد الروايات:

1- قال الشيخ في الخلاف: تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح ما لم يتفرّقوا إذا اجتمعوا على أمر مباح كالرمي و غيره، و به قال ابن الزبير و مالك، و قال قوم: إنّها لا تقبل بحال لا في الجراح و لا في غيرها تفرقوا أو لم يتفرقوا ذهب إليه ابن عباس و شريح و الحسن البصري و عطا و الشعبي، و في الفقهاء الأوزاعي و الثوري و ابن أبي ليلى و أبي حنيفة و أصحابه و الشافعي. دليلنا، إجماع الفرقة و أخبارهم، و عليه إجماع الصحابة روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنّه قال: لا تقبل شهادة الصبيان في الجراح، و خالفه ابن الزبير فذهب

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 44 من أبواب كتاب الوصية، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب الشهادات، الحديث 41.

(3) الوسائل: الجزء 19، الباب 36 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 209

الناس إلى قول ابن الزبير فثبت أنّهم أجمعوا على قوله، و تركوا قول ابن عباس. «1»

2- و

قال في النهاية: و تجوز شهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً إلى أن يبلغوا في الشجاج و القصاص و يؤخذ بأوّل كلامهم و لا يؤخذ بآخره و لا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من الديون و الحقوق و الحدود. «2»

3- و قال ابن البراج: فأمّا شهادة الصبيان فهي ضربان: جائز و غير جائز. فالجائز شهادة كلّ صبي بلغ عشر سنين إلى أن يبلغ، في الشجاج و القصاص و يؤخذ بأوّل كلامهم في ذلك و لا يؤخذ بآخره، و يفرّق بينهم في الشهادة فإن اختلفوا لم يحكم بشي ء من أقوالهم. «3»

4- و قال ابن إدريس: و تجوز شهادة الصبيان دون الصبايا إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً إلى أن يبلغوا، في شيئين فحسب، الشجاج و القصاص و يؤخذ بأوّل كلامهم و لا يؤخذ بآخره و لا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من جميع الأحكام. «4»

5- و قال ابن حمزة: و الصبي إن كان مراهقاً و هو إذا بلغ عشر سنين فصاعداً تقبل شهادته في القصاص و الشجاج لا غير و يؤخذ بأوّل كلامه. «5»

6- و قال المحقّق بعد نقل الأقوال: فالأولى الاقتصار على القبول في الجراح بالشروط الثلاثة: بلوغ العشر، و بقاء الاجتماع، إذا كان على مباح، تمسّكاً بموضع الوفاق. «6»

7- و قال ابن سعيد: و لا تقبل شهادة الصبيان إلّا إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً و ميّزوا، في الشجاج و الجراح خاصة و يؤخذ بأوّل كلامهم. «7»

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 20.

(2) الطوسي، النهاية، كتاب الشهادات: 331.

(3) ابن البراج، المهذّب: 2/ 559.

(4) ابن إدريس، السرائر: 2/ 136.

(5) ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 231.

(6) المحقّق، الشرائع: 4/ 125.

(7) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 540.

نظام القضاء و

الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 210

8 و قال العلّامة: فلا تقبل شهادة الصبي و إن راهق إلّا في الجراح بشرط بلوغ عشر سنين فصاعداً و عدم تفرقهم في الشهادة و اجتماعهم على المباح. «1»

هذه نماذج من كلمات الأصحاب و هم:

بين من يجوِّز شهادته في الشجاج و القصاص كالشيخ في النهاية، و ابن البراج في المهذّب، و ابن إدريس في السرائر و ابن حمزة في الوسيلة.

و من يجوِّز شهادته في الشجاج و الجراح دون القصاص كابن سعيد في الجامع.

و من يخصها بخصوص الجراح فقط كالشيخ في الخلاف و المحقّق في الشرائع، و العلّامة في الإرشاد.

إذا تعرّفت على الأقوال فلنذكر النصوص فهي على أقسام:

أ: ما يدلّ على حجّية شهادة الصبيّ إذا بلغ عشراً من دون اختصاص بمورد كصحيح أبي أيّوب الخزاز قال: سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين، قلت: و يجوز أمره؟ قال فقال: إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم دخل بعائشة و هي بنت عشر سنين، و ليس يدخل بالجارية حتّى تكون امرأة فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره و جازت شهادته. «2»

و الرواية لا تنهض حجّة لأنّ المروي عنه هو إسماعيل بن جعفر و لم ينسبه إلى الإمام نفسه و إنّما استنبط جواز الشهادة من قياس باطل، و هو قياس الصبي بالصبية، مع أنّه قياس مع الفارق، لأنّ الصبية و إن كانت ضعيفة من حيث الجسم لكنّها أسرع رشداً فتتزوّج بعد التسع، بخلاف الصبي فهو قويّ من حيث الجسم و لكنّه أبطأ رشداً. و هي على أيّ حال فالرواية متروكة.

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، الإرشاد: 2/ 156.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 22

من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 211

و مثله رواية عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة الصبي و المملوك فقال: «على قدرها يوم أشهد، تجوز في الأمر الدون و لا تجوز في الأمر الكبير» «1» و هي أيضاً غير معمولة.

ب: ما خصّ بالقتل كصحيح جميل 2 و محمّد بن حمران. 3

ج: لم يذكر الموضوع و لكن القرائن تشهد على أنّ المراد ما يرجع إلى ما يتركه لعب الصبيان من نتائج سلبية كخبر طلحة بن بريد عن الصادق عن آبائه عن علي قال: «شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا أو يرجعوا إلى أهلهم». 4

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ مقتضى التعبّد بالنصوص، هو حصر حجّية شهادتهم على القتل فقط كما هو مقتضى تصريح رواية محمّد بن حمران و ظاهر رواية جميل. و مع ذلك نرى أنّ الأصحاب، تركوا الموضوع الوارد فيهما، و جعلوا مكانه ما عرفت. فالمحقّق ترك العمل بالروايات في موردها (القتل) و مع ذلك عمل بها في مورد الجراح و هو كما ترى و مثله العمل بها في مورد الشجاج أيضاً لوضوح خروجهما عن القتل، و إلحاقهما به بقياس أولوي فرع العمل بها في موردها و المفروض ترك العمل بها في موردها، على أنّ الأولوية ممنوعة كما سيوافيك.

نعم ترك المحقّق العمل بها في مورد القتل، لاستلزامه التهجم على الدماء بخبر الواحد و هو خطر و لكنّه إنّما يلزم لو أُريد به القصاص دون الدية، و ذلك لكون القصاص فرع كون القاتل مكلّفاً، و المفروض أنّ قلم التكليف مرفوع فيكون هذا قرينة على حملها على الدية و يشهد على

ذلك تفريق الإمام الدية عليهم عند الاشتباه و الاختلاف في القاتل. 5

و بما ذكرنا صرّح في الجواهر و قال: بل منه ينقدح اختصاص قبول

______________________________

(1) 1- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 5، 1، 2، 6.

(2) 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كتاب الديات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 212

شهادتهم في الدية لأنّ عمدهم خطأ، و هذا هو المناسب لعدم التهجم على الدماء بشهادتهم على وجه يُقتصّ بها من البالغين في نفس أو طرف، كما أنّه المناسب لشدة الأمر في الدماء و عدم إبطالها فيختص حينئذ قبول شهادتهم في ما بينهم لإيجابها الدية و لو كان المشهود به هو القتل. «1»

و منه يعلم أنّ قياس الشجاج و الجراح بالقتل قياس مع الفارق و الأولوية ممنوعة في المقام.

و ذلك لأنّ الأهميّة الخاصة بالنفس دعت الشارع إلى جعل الحجّية لشهادة الصبي، في القتل حتّى لا يذهب دم المسلم سدى و لكنّها ليست بموجودة في الشجاج و الجراح فلا يكون ذلك دليلًا على حجّية شهادته في غير النفس.

ثمّ قبول شهادته مشروط بشروط ذكر المحقق منها ثلاثة، أعني:

1- البلوغ عشراً، 2 بقاء الاجتماع، 3 لو اجتمعوا على أمر مباح و قد أُشير في بعض النصوص إلى شروط أُخر، 4 أن لا يوجد غيرهم 5 اعتبار الأخذ بأوّل كلامهم 6 أن تكون شهادة بعضهم على بعض، لا على الخارج عن حوزتهم، أمّا الرابع فهو القدر المتيقن و أمّا الخامس فهو المنصوص في غير واحد من روايات الباب «2» و أمّا السادس فهو المنصوص في رواية طلحة بن زيد. 3

الثاني: كمال العقل

و قد اتّفق على هذا الشرط العقلاء

فلا عبرة بقول المجنون إخباراً و إنشاءً إنّما الكلام في من يناله الجنون أدواراً فله صور:

1- أن يتحمّل في حال الإفاقة، و يؤدّي فيها، سواء أ تخلّل بينهما الجنون

______________________________

(1) الجواهر: 41/ 1413.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2، 4، 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 213

الموقّت أم لا.

2- أن يتحمّل في حال الجنون، و يؤدي حال الإفاقة.

3- عكس الثاني، يتحمل حال الإفاقة و يؤدّي حال الجنون.

لا إشكال في حجّية شهادته في الصورة الأُولى، كما لا إشكال في عدمها في الصورة الثالثة، إنّما الكلام في الصورة الثانية، و لعلّ عدالته تصدُّه عن الإخبار بشي ء غير جازم و لا محقّق، لكن بعد استظهار الحاكم بما يتيقن معه حضور ذهنه و استكمال فطنته. و إلّا طرحت شهادته.

و لعلّ التعبير بكمال العقل لإخراج الصنفين التاليين:

1- الساهي و هو الذي يعرض له السهو غالباً فربّما سمع الشي ء و نسي بعضه فيكون ذلك مغيّراً معنى اللفظ ناقلًا لمعناه، لانصراف الأدلّة عن مثله و لصدق الظنين عليه. «1» فحينئذ يجب على القاضي الاستظهار حتّى يتثبَّت ما يشهد به على وجه يطمئن بعدم غفلته فيما شهد به، و لو لكون المشهود به ممّا لا يُسهى فيه و مع ذلك ففي جواز الاعتماد على شهادته تأمّل إلّا أن يحصل اليقين فتكون الحجّة هو يقينه.

2- المغفَّل الذي في جبلَّته البله فربّما استغلط لعدم تفطّنه لمزايا الأُمور و تفاصيلها فيدخل فيه الغلط و الاشتباه من حيث لا يشعر و يأتي فيه ما ذكر في الساهي.

الثالث: الإسلام

يعتبر في الشاهد الإسلام، لأنّ الكافر فاسق و لا عبرة بشهادة الفاسق إجماعاً و عليه استفاضت الروايات

و قال الصادق عليه السَّلام: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل و لا تجوز شهادة أهل الذمّة على المسلمين» نعم استثني مورد واحد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 214

و هو شهادته في باب الوصيّة على الشروط الآتية.

الرابع: الإيمان

اشارة

المراد من الإيمان في المقام كون الشاهد إمامياً معتقداً بإمامة الأئمّة الاثني عشر فلا تُقبل شهادة المخالف على المؤمن، و قد ادّعى صاحب الجواهر كون المسألة إجماعية أو من ضروريات المذهب.

قال الشيخ: كل من خالف الحقّ لا تُقبل شهادته سواء كان ممن يُكفَّر أو يفسَّق و سواء كان فسقه على وجه التديّن أو على غير وجه التدين. و من وافق الحقّ لا تقبل شهادته إلّا إذا كان عدلًا لا يعرف بشي ء من الفسق. و قال قوم: من كان فاسقاً على وجه التديّن به، فلا تردّ شهادته، و إنّما يردّ من فَسَق بأفعال الجوارح من الزنا و اللواط و شرب الخمر و القذف و غير ذلك. «1»

و قال في الخلاف: لا تجوز قبول شهادة من لا يعتقد إمامة الأئمّة الاثني عشر، و لا منهم إلّا من كان عدلًا يعتقد العدل و التوحيد و نفي القبيح عن اللّه تعالى و نفي التشبيه و من خالف في شي ء من ذلك كان فاسقاً لا تُقبل شهادته.

أقول: «2» لو قلنا بكفر المخالف فعدم الجواز واضح لكنّه غير صحيح لما قرّر في محلّه من أنّه يكفي في الدخول في حظيرة الإسلام، الإقرار بالتوحيد، و الرسالة و المعاد منضمّاً إلى عدم إنكار ما يستلزم إنكارُه، إنكارَ الرسالة و كان النبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

يقبل إسلام من يعترف و يشهد على الثلاثة: التوحيد و الرسالة و المعاد.

نعم لا شكّ في كفر الناصب و قد بيّن في محله و ما ورد حول جواز شهادته، فهو مؤوَّل. روى عبد اللّه بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السَّلام:

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 220.

(2) الطوسي، الخلاف: 3/ 343، كتاب الشهادات، المسألة 50.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 215

رجل طلّق امرأته و أشهد شاهدين ناصبيين قال: «كلّ من وُلد على الفطرة و عُرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته». «1» فإنّ الإمام عليه السَّلام أشار بقوله: «ولد على الفطرة ...» إلى عدم صحّة شهادته لأنّه لم يولد على فطرة الإسلام. و فقد الصلاح في نفسه، و على هذا لا حاجة إلى حمله على التقيّة، نعم السند ضعيف لوجود السيّاري فيه.

ثمّ إنّ المحقّق، استدل على عدم جواز شهادة المخالف «بكونه ظالماً و فاسقاً»، لكونه ظالماً لنفسه، و خارجاً عن الطاعة و إن كان عدلًا في مذهبه و قد قال اللّه تعالى: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات/ 6). و قوله: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ) (هود/ 113).

و أورد عليه في المسالك بأنّ الفسق يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية أمّا مع عدمه بل مع اعتقاده أنّها طاعة بل من مهمّات الطاعات فلا، و الأمر في المخالف للحقّ للاعتقاد، كذلك لأنّه لا يعتقد المعصية بل زعم أنّ اعتقاده من أهمّ الطاعات و إنّما يتّفق ذلك ممن يعاند الحقّ مع علمه به و هذا لا يكاد يتّفق. «2»

ما ذكره قدس سره إنّما يتم في المخالف القاصر إذ لا يحكم عليه بالفسق و الكفر لافتراض قصوره و فقدان

الشرائط العامة للتكليف بخلاف المقصّر، فانّه محكوم بالعقاب فيكون فاسقاً و ظالماً.

نعم استدل صاحب الجواهر بوجوه عشرة على عدم القبول، أكثرها غير تامّة و المهم هو ما اعتمد عليه المحقق من صدق الظلم و الفسق، و أمّا غيرهما فإمّا قاصر السند أو قاصر الدلالة، فمن الأوّل الاستدلال بما روي عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السَّلام من قول الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام في تفسيره قوله

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41، من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 21.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 446.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 216

تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ) «1» ممّن ترضون دينه و أمانته و صلاحه و عفّته. «2» و غير خفي على النابه أنّ التفسير تأليف عالم من علماء الشيعة و ليس تأليفاً للإمام على أنّه من المحتمل أن يكون المراد من الدين هو الإسلام مقابل الكفر أو المراد الدين على صعيد العمل. و من الثاني الاستدلال بقوله عليه السَّلام: لا تقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين» «3» و الشحناء العداوة، كما أنّ المقصود من ذي مخزية في الدين، هو الذي ركب من المعاصي ما يُعد خزياً، و عاراً، و شناراً كالسرقة و الزنا و شرب الخمر و أين ذلك من الاعتقاد الفاسد.

و الحاصل أنّ أكثر ما استدل به، غير تام و من دأبه قدس سره إذا كان الحكم مشهوراً بين العلماء أنّه كان يجمع الأدلة من هنا و هناك لتأييد الحكم، سواء أ كان تامّاً أملا.

و في مقابل ما استدل به المحقق، روايات يمكن استظهار حجّية شهادته منها و هي تتلخص في ما يأتي:

1- صحيح محمّد بن مسلم

عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير». «4» و المراد من الخير إمّا الإسلام أو الملكة الرادعة عن المعصية، أو نيّة الخير أو ما يقرب من ذلك فيصلح للاستدلال كما يحتمل أن يراد منه الإيمان بالمعنى الأخصّ و كان الإمام بصدد بيان حصر الشهادة، بمن كان كذلك.

2- ما روي عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السَّلام قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدَّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت أُخوته و حرمت غيبته». 5 فإذا كانت

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 23.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 5.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 8 و 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 217

هذه الأعمال كافية في استكشاف العدالة، فتدل على أنّ المعتبر منها في الشهادة، مطلق الملكة الرادعة عن الحرام، من دون مدخلية للاعتقاد فيها.

3- ما ورد من أنّ الذمي إذا أسلم و أدّى ما تحمّله حال كونه كافراً بعد الإسلام تقبل شهادته «1» فإنّ إطلاقه يعمّ ما إذا أسلم غير إمامي، و كان هو الغالب عصر صدور الروايات.

أضف إلى ذلك أنّ قبول رواية المخالف إذا كان ثقة في اللسان أو عدلًا في مذهبه، يشعر بقبوله في الشهادة فإنّ مضمون الرواية يرجع إلى عموم الناس إلى يوم القيامة و الشهادة ترجع إلى موضوع جزئي خاص فكيف تقبل الرواية و لا تقبل الشهادة؟!

فتأمّل.

فالحقّ التفصيل بين القاصر و المقصّر و ما أكثر القاصر في البلاد الإسلامية فضلًا عن غيرها.

قبول شهادة الذمّي خاصّة في الوصيّة
اشارة

إذا كان الإسلام شرطاً فلازمه عدم قبول شهادة غير المسلم كالذميّ و الحربي و هو كذلك لكن استُثني في الذكر الحكيم مورد خاص و هو الوصية إذا لم يوجد هناك عدول و يدل عليه من الكتاب قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (المائدة/ 106).

و المراد من حضور الموت هو حضور أسبابه من مرض أو غيره و عندئذ فله

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 39 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2، 3 و غيرها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 218

أن يوصي و يستشهد على الوصية اثنين مسلمين عدلين كما هو مفاد قوله: (ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أو ذميّين عدلين أيضاً كما يدل عليه قوله: (أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) و يدل ظاهر الآية على أنّ نفوذ شهادة الذمي في الوصية مشروط بشرطين:

1- عدم وجود مسلم كما هو ظاهر قوله: (أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) و ذلك لأنّ ظاهر (أَوْ) في الآية للتفصيل، لا للتخيير.

2- كون التحمّل في أرض الغربة و يعرب عنه قوله: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) و يدل على الأوّل من السنّة صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: «نعم إذا

لم يُوجد من أهل ملّتهم، جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». «1»

إنّما الكلام في لزوم الأخذ بالقيد (لم يوجد) لاحتمال ورود القيد مورد الغالب إذ قلّما يتفق لمسلم، أن لا يوجد عنده مسلمان يُشهدهما على الوصية إلّا في أرض الغربة، و يؤيّد ذلك عمومية التعليل للغربة و غيره أعني: قوله في غير واحد من الروايات: «و أنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرئ مسلم» 2 أو «لا يصلح ذهاب حق أحد» و على ذلك فلو حضرت أسباب الموت، و لم يجد مسلماً في وطنه، فله أن يُشهد الذميين على الوصية.

ثمّ إذا دار الأمر بين إشهاد الذمي على الوصية أو إشهاد الفاسق من المسلمين فهل الذمي يقدّم على الثاني، أو يقدّم الثاني على الأوّل أو يفصّل؟ فنقول:

إذا أدركه الموت و لديه ذميّان عادلان، و مسلمان فاسقان بعيدان عن الكذب و الخيانة فالذميّان العادلان حسب مذهبهما، مقدّمان عليهما لأنّ الآية محمولة على عدم وجود مقبول الشهادة من المسلمين لا على عدم وجودهم. اللّهمّ

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من أبواب الوصايا، الحديث 3 و 4 و لاحظ التعليل أيضاً في الحديث 1، 3، 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 219

إلّا أن تفسر العدالة في الذميين بعدم الكذب و الخيانة فيقدّم المسلمان لاشتراكهما في العدالة المعتبرة، مع مزية الإسلام.

و منه يظهر حالهما مع مسلمين مجهولين فيقدّمان، إلّا أن يقال بأنّ الأصل في المسلم العدالة إلّا أن يظهر خلافها فيقدّم المسلمان المجهولان.

و أمّا إذا دار الأمر بين الذميين العادلين، و المسلمين الفاسقين بالكذب و الخيانة فلا شكّ في تقدّم الذمي على المسلم.

إكمال

ذكر المحقق بأنّ الإيمان يثبت بمعرفة

الحاكم أو قيام البيّنة أو الإقرار، و ذكر في المسالك أنّ مرجع الثلاثة إلى الإقرار لأنّ الإيمان أمر قلبي لا تمكن معرفته من معتقده إلّا بالإقرار.

و الظاهر أنّ طريق المعرفة غير منحصر بالثلاثة، و الإيمان كسائر الصفات النفسانية من الشجاعة و الجبن و العفة تُعْرف بآثارها في حياة الإنسان و على ذلك فلا ينحصر الطريق بالثلاثة، كما لا يكون مرجع الكلّ إلى الإقرار.

في شهادة الذمي على الذمي

لا إشكال في نفوذ شهادة المسلم على الذمي و الحربي، و عدم نفوذ شهادتهما على المسلم و قد روى أبو عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه قال: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل و لا تجوز شهادة أهل الذمّة (الملل) على المسلمين». «1»

إنّما الكلام في نفوذ شهادة الذمي على أهل ملّته أو غير أهل ملّته أو على الحربي فقد نقل الشيخ أقوالًا ثلاثة قال:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 38 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 220

1 قال قوم لا يجوز قبول شهادة أهل الذمّة بعضهم على بعض سواء اتّفقت ملّتهم أو اختلفت مثل شهادة اليهود على اليهود، أو على النصارى، أو كذلك النصارى و به قال مالك و الشافعي و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و أحمد.

2- و قال آخرون: تقبل شهادة بعضهم على بعض سواء اتّفقت ملّتهم أو اختلفت ذهب إليه قضاة البصرة: الحسن، و سوار، و عثمان البتّي و به قال في الفقهاء حماد بن أبي سلمان و الثوري و أبي حنيفة و أصحابه.

3- و ذهب الشعبي و الزهري و قتادة إلى أنّه إن كانت الملّة واحدة كاليهود على اليهود قبلت، و إن اختلفت ملّتهم لم تقبل كاليهود

على النصارى و هذا هو الذي ذهب إليه أصحابنا و رووه.

دليلنا قوله تعالى: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ) (الحجرات/ 6) فأمر اللّه بالتثبت و التبيّن، في نبأ الفاسق، و الكافر فاسق. و روى ابن غنم قال سألت معاذ بن جبل عن شهادة اليهود على النصارى فقال: سمعت النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: «لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلّا المسلمين فانّهم عدول على أنفسهم و على غيرهم» و هذا الذي اخترناه، و الوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا، فأمّا إن لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك. «1»

و قال في النهاية: و تجوز شهادة بعضهم على بعض و لهم، و كل أهل ملّة على أهل ملّته خاصة و لهم و لا تُقبل شهادة أهل ملّة منهم لغير أهل ملّتهم و لا عليهم. «2»

و قال في المبسوط: فأمّا قبول شهادة بعضهم على بعض فقال قوم لا تقبل بحال، لا على مسلم و لا على مشرك، اتّفقت ملّتهم أو اختلفت و فيه خلاف و يقوى في نفسي أنّه لا تقبل بحال لأنّهم كفّار فساق و من شرط الشاهد أن يكون

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 22.

(2) الطوسي، النهاية: 334 باب شهادة من خالف الإسلام.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 221

عدلًا. «1»

و قال ابن البرّاج: لا تجوز شهادة أهل الملل المختلفة بعضها على بعض بل تقبل شهادة أهل الملّة الواحدة بعضهم على بعض إلّا المسلمين فإنّ شهادتهم مقبولة على الجميع. «2»

و بذلك تبيّن أنّ للشيخ قولين قول بالتفصيل في الخلاف، و قول بالنفي مطلقاً في المبسوط و قد تبع ادريس قول الشيخ

في المبسوط حيث قال بعد نقل كلامه و هذا هو الذي يقوى أيضاً في نفسي. «3»

فإذاً الأقوال لا تتجاوز عن ثلاثة.

احتج النافي مطلقاً بانتفاء بعض الشرائط العامة في الشهادة كالإسلام و الإيمان و العدالة.

يلاحظ عليه: أنّ منصرف هذه الشروط، هو غير هذا المورد بل يمكن أن يقال إنّ المراد من العدل في الشاهد الكافر، هو كونه صادقاً في القول، أميناً في العمل. لا صاحب الملكة الرادعة عن المعاصي الواردة في مذهبه.

احتج المثبت مطلقاً بصحيح عبيد اللّه بن علي الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام: هل تجوز شهادة أهل الذمة على غير أهل ملّتهم؟ قال: «نعم إن لم يوجد من أهل ملّتهم، جازت شهادة غيرهم، أنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». «4»

ففيه إطلاقان: 1 من جهة عدم اختصاصه بمورد الوصية عند الموت. 2 من جهة أنّ قوله: «على غير أهل ملّتهم» يعمّ المسلم و الكافر غير المماثل خرج المسلم بالدليل و بقي الباقي.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 187، باب فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة.

(2) ابن البراج، المهذّب: 2/ 557.

(3) ابن إدريس، السرائر: 2/ 140.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 40 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 222

يلاحظ عليه: أنّ قوله: «نعم إن لم يوجد من أهل ملّتهم» يعرب عن كون مورده الإيصاء عند الموت في الغربة إذ من البعيد أن لا يوجد المماثل في غير هذه الحالة.

و أمّا الإطلاق الثاني، فهو أمر بدويّ يزول إذا قورن مع خبر ضريس الكناس، حيث إنّ ذيله، يعرب عن كون المقصود منه (على غير أهل ملّتهم) هو المسلم.

روى ضريس الكناسي قال سألت أبا جعفر عليه السَّلام عن شهادة أهل

الملل هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم؟ فقال: «لا إلّا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، و إن لم يوجد غيرهم، جازت شهادتهم في الوصية لأنّه لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم و لا تبطل وصيّته». «1»

فإنّ الروايتين متقاربتا المضمون و العبارة و ذيل الثانية (حق امرئ مسلم) يكشف عن كون المقصود من غير «أهل الملّة» هو المسلم، و اختصاص الجواز بالوصية.

و الروايتان ناظرتان لتفسير الآية المباركة المتقدمة و لا تتضمنان شيئاً جديداً فظهر عدم الدليل على هذا القول.

و أمّا القول بالتفصيل فهذا هو الذي اختاره الشيخ في الخلاف و النهاية و ابن البراج في المهذّب، خلافاً للشيخ في المبسوط و ابن إدريس في السرائر و المحقّق في الشرائع.

احتجّ المفصِّل بموثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة أهل الذمة. فقال: «لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». «2» و المناقشة في السند لأجل وقوع

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من كتاب الوصايا، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصية، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 223

العبيدي فيه غير وجيه، لكونه ثقة و كفى في وثاقته توثيق النجاشي له و قد ردّ على ابن الوليد استثناؤه إيّاه من أسناد نوادر الحكمة، و المهم هو تمامية دلالته.

فلو أخذنا بإطلاق الذيل، يكون مفاده حجّية شهادة المماثل مطلقاً في حقّ المماثل، و أمّا غير المماثل فإنّما يكون حجّة فيما لم يكن هناك المماثل و كانَ موردها هو الوصية و الظاهر تمامية الإطلاق خصوصاً على ما روى في كتاب

الوصية من قوله: عن شهادة أهل الذمة، مكان أهل الملّة في كتاب الشهادات. «1»

فتكون النتيجة هو قول رابع و هو الحجّية في المماثل مطلقاً، و عدمها في غيره إلّا في مورد الإيصاء للضرورة.

الخامس: العدالة

اشارة

المشهور، اشتراط العدالة في الشاهد قال الشيخ: لا يجوز للحاكم أن يقبل إلّا شهادة العدول فأمّا من ليس بعدل فلا تقبل شهادتُه لقوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2).

و قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة/ 106).

و قد ورد اعتباره في غير الشاهد مثل قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بٰالِغَ الْكَعْبَةِ) (المائدة/ 95) و «النعم» في اللغة هي الإبل و البقر و الغنم قوله: (فَجَزٰاءٌ) مبتدأ، خبره قوله (مِثْلُ مٰا قَتَلَ) و قوله: (مِنَ النَّعَمِ) بيان للكفّارة فيجب أن يُهدى إلى الكعبة، مماثل الصيد في الخلقة، ففي النعامة بدنة، و في حمار الوحش و شبهه، بقرة، و في الظبي و الأرنب، الغنم.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 40 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 224

فاشترطت العدالة في الحاكم بذلك.

و ما ذكر من الآيات و إن كان لا يثبت شرطية العدالة في الشاهد مطلقاً و لكن إذا ضمّت إليها الروايات ثبت شرطيتها بوضوح.

1- ففي صحيح عبد اللّه بن يعفور قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم. «1» الظاهر في مفروغية شرطية العدالة و إنّما طلب

أن يتعرّف على طريقها.

2- روى الصدوق باسناده عن أبي جعفر عليه السَّلام في حديث أنّ عليّاً عليه السَّلام قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه». «2»

3- روى الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال، قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: «لا بأس بشهادة مملوك إذا كان عدلًا». «3» إلى غير ذلك ممّا مرّ في الترجيح بين البيّنتين. «4»

و ما ربّما يستفاد من بعض الروايات كفاية عدم معروفية الفسق «5» فمطروح إنّما المهمّ هو تحديد معنى العدالة على وجه يناسب المقام.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 23 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5 و 12.

(5) لاحظ: الباب 41 من أبواب الشهادات، صحيح حريز، برقم 18، و الباب 54 رواية العلاء بن سيابة برقم 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 225

بحث في العدالة
البحث عن العدالة له، أطراف ثلاثة:
اشارة

1- بيان ما هو العدالة لغةً و اصطلاحاً؟

2- ما هو الطريق إلى إثباتها؟

3- ما هو المراد من الكبائر و الصغائر التي بها تزول العدالة؟

و التفصيل في المحاور الثلاثة موكول إلى كتاب الصلاة في مسألة شرطية العدالة في إمام الجماعة و المقصود في المقام الإشارة العابرة إلى هذه الجهات.

الجهة الأُولى: في بيان مفهومها

العدالة في اللغة بمعنى القصد و الاقتصاد، خلاف التطرّف و الجور، قال في اللسان: العدل ما قام في النفوس أنّه مستقيم و هو ضدّ الجور، و العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم. و قال الطريحي: العدل: التسوية بين الشيئين لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: من اعتدل يوماه فهو مغبون.

و المراد منها عند الفقهاء مفهوم خاص، نقل إليه في لسان الشرع أو استعمل فيه مجازاً فصار حقيقة متشرّعيّة، و في الوقت نفسه لا يفقد المناسبة للمعنى اللغوي.

و قد عرّفت بتعاريف نذكر بعضها:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 226

1 العدالة: هي الملكة الرادعة عن معصية اللّه. أو أنّها كيفية نفسانية باعثة على ملازمة التقوى أو عليها مع المروءة و هي الاجتناب عن فعل ما ينبئ عن دناءة الطبع، و سفاهة الرأي.

2- العدالة: الاستقامة الفعلية عن ملكة رادعة.

و الفرق بين التعريفين واضح، فإنّ العدالة على التعريف الأوّل صفة نفسانية قائمة بالنفس، و على التعريف الثاني الملكة رصيد لها، و ليست نفسها بل واقع العدالة كون الإنسان في حياته الفردية و الاجتماعية مستقيماً على الجادّة الوسطى، غير مائل إلى اليمين و الشمال و إن كانت استقامته تعتمد على الملكة على نحو يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلًا و سيوافيك في آخر البحث أنّه أقرب من سائر التعاريف.

3- عبارة عن

مجرّد ترك المعاصي أو خصوص الكبائر، أو عدم الإخلال بالواجب و عدم ركوب القبائح. و هذا التعريف يعتمد على نفس القيام بالوظائف.

الظاهر من الروايات أنّها من الصفات النفسانية أو نابعة عنها كما على التعريف الثاني و ليست مجرّد تطبيق العمل على الشريعة و يدلّ عليه لفيف من الروايات.

منها: ما في صحيح ابن أبي يعفور: «أن تعرفوه بالستر و العفاف، و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان و يُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمر، و الزنا، و الربا، و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك». «1» و الدلالة بوجهين:

1- إنّ الستر و العفاف من الصفات النفسانية، و قد أخذا في مفهومها.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 227

2 إن ترك جميع ما جاء في الصحيح لا يحصل بدون الملكة الرادعة إذ لولاها لما استقام أمره في طول الحياة.

و منها: ما رواه عبد اللّه بن المغيرة و فيه: كلّ من ولد على الفطرة (الإسلام) و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته. «1»

و منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً. 2

و منها: ما رواه عبد اللّه بن أبي يعفور عن أخيه عبد الكريم بن أبي يعفور عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرّج إلى الرجال في أنديتهم». 3

و الإمعان في هذه الروايات يوجب الإذعان بأنّها ليس مجرّد القيام بالوظائف الشرعيّة، بل عبارة

عن كون الإنسان بالغاً في الكمال الديني مرتبة يسهل معها، الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات، غير أنّ لها مراتب كسائر الصفات النفسانية، فالعدالة المتواجدة في المحقق الأردبيلي غير المتواجدة في السوقي العامي.

الجهة الثانية: ما هو الطريق إلى التعرّف عليها؟

إذا كانت العدالة هي الحالة الخاصّة النفسانية الّتي لا ينحرف معها صاحبها و يكون مستقيماً، معتدلًا في أُموره، فما هو الطريق إلى التعرّف عليها؟

أقول: إنّها كالبخل و الجود و الحسد، و العلم، و الجهل تُعرف بآثارها و قد اشتملت الصحيحة الأُولى على ما يستدلّ به على وجودها في الإنسان حيث قال:

______________________________

(1) 1- 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 5، 10.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 20.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 228

«و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه إلى أن قال و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ، و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا عن علّة فإذا كان كذلك، لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين». «1»

و يظهر من ذيل الحديث أنّ التركيز على الحضور في صلاة الجماعة، لأجل أنّه يعرف به المصلي عن المضيّع لها حيث قال: «إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلِّى، ممن لا يصلّي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيّع و لو لا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بالصلاح» و إلّا فلو علمت حاله من

طريق آخر فلا إشكال.

و بذلك يعلم أنّ حسن الظاهر طريق إلى الملكة و الحالة النفسانية و ليس نفس العدالة.

قال السيّد الطباطبائي في العروة الوثقى: العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات و ترك المحرّمات و تعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علماً أو ظناً.

و الأولى أن يعرف بالاستقامة في جادّة الشرع و عدم الانحراف عنها يميناً و شمالًا و هو أقرب بالمعنى اللغوي كما عرفت من اللسان، و الملكة النفسانية هي السبب لحصول الاستقامة فلا غنى عن وجودها.

الجهة الثالثة: ما هو المراد من الكبائر و الإصرار على الصغائر؟
اشارة

قال المحقّق: و لا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر كالقتل و الزنا و اللواط و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 229

غصب الأموال المعصومة و كذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار.

تحقيق المقام يستلزم البحث في موردين:

الأوّل: ما هو المراد من الكبائر و الصغائر؟

الثاني: ما هو المراد من الإصرار على الصغائر؟ و يليه البحث عن ترك المندوبات أساساً و المروّة المعتبرة فيها.

و إليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر على وجه موجز.

الأوّل: في تقسيم المعاصي إلى الكبائر و الصغائر و تفسيرهما
اشارة

لا ريب في انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر و قد ورد النصّ به في الذكر الحكيم في غير واحد من الآيات:

1- قال سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) (النساء/ 31) و المراد من السيئة في الآية هو المعصية الصغيرة بقرينة التقابل نعم اللفظة ليست بمعنى خصوص الصغيرة بل اريدت منها بقرينة التقابل و إلّا فلها استعمالات مختلفة لكن بجامع واحد:

أ: المصيبة و ما تستكره النفس نحو قوله سبحانه: (وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء/ 79). بقرينة ما قبله أعني قوله: (مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ).

ب: نتائج المعاصي و آثارها نحو قوله سبحانه: (فَأَصٰابَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا) (النحل/ 34).

ج: مطلق المعصية نحو قوله: (وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا) (الشورى/ 40).

و ليست الآية بصدد الإغراء إلى ركوب الصغائر بزعم أنّها لا يعتدُّ بها و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 230

يتهاون في أمرها، و ذلك لأنّ ركوب أيّةِ معصية بتلك النيّة طغيان على اللّه و استهانة بأمره، بل الآية تعرب عن لطفه و امتنانه على عباده،

بأنّ اجتناب بعض المعاصي يُكفِّر عن البعض الآخر، حتّى يهتمّوا باجتنابه، ليغفر البعض الآخر، على فرض ارتكابه، و أين هذا من فسح المجال لارتكاب الصغائر و لو تمّ التوهم، لتمّ في التوبة أيضاً قال سبحانه: (قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53).

و الآية تدل بوضوح على أنّ المخاطبين إمّا كانوا عالمين قبل نزولها و مميّزين كبار المعاصي عن صغائرها أو أنّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عرّفها لهم بعد نزولها لغاية السعي في ترك الكبائر المكفِّرة عن الصغائر.

و بذلك يعلم أيضاً بطلان ما نقل عن المعتزلة من أنّ في تعريف الصغائر إغراءً بالمعصية، لأنّه إذا علم المكلّف بأنّه لا ضرر في فعلها، ودعته الشهوة إليها، فعلها. «1» و ذلك لأنّ مفاد الآية بصيصُ رجاء لمن لا يرتدع عن المعاصي لغاية إيقافه عن ارتكاب الكبائر ليغفر صغائره و ليست الآية بصدد الدعوة إلى ارتكاب صغائر الذنوب كما أنّ التوبة و الشفاعة ليستا داعيتين إلى اقتراف المعاصي.

2- قال سبحانه: (وَ وُضِعَ الْكِتٰابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا الْكِتٰابِ لٰا يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لٰا كَبِيرَةً إِلّٰا أَحْصٰاهٰا) (الكهف/ 49) و الإشفاق و الخوف ممّا في الكتاب، دليل على أنّ المراد مما فيه، هو صغائر الذنوب و كبائرها.

3- قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37) و الفواحش هي أقبح القبيح، فيكون مساوياً «لكبائر الإثم» و على ذلك تكون الفاحشة على قسم واحد، و أمّا الإثم فهو ينقسم

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 2/ 38 في تفسير

الآية.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 231

إلى كبير و صغير. و كبائر الإثم: المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة و قد عدّ تعالى منها شرب الخمر و الميسر، قال تعالى: (قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ) (البقرة/ 219) كما عدّ الزنا و اللواط من الفواحش قال تعالى: (وَ لٰا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً) (الاسراء/ 32) و قال حاكياً عن لوط: (أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (النمل/ 54). «1»

4- قال تبارك و تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (النجم/ 32) و ربّما يفرق بين الكبيرة و الفاحشة التي هي بمعنى أقبح الذنوب و أفحشها، بأنّ كلّ ذنب ختم بالنار فهو كبيرة، و الفاحشة كلّ ذنب فيه حدّ. و أمّا اللّمم ففيه أقوال:

1- صغار الذنوب كالنظر و القبلة و ما كان دون الزنا.

2- ما كان في الجاهلية من الإثم فهو معفو عنه.

3- أن يذنب مرّة ثمّ يتوب و لا يعود، فكلّ معصية إذا ألمّ بها الإنسان و لم يعد فهو اللّمم «2» و الأوّلان بعيدان لاستلزامهما كون الاستثناء منقطعاً و الثالث محتمل و هناك احتمال رابع و هو المعصية حيناً بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتّفاق فيكون أعمّ من الكبيرة و الصغيرة و ينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين: (وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135) و قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ الشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الاعراف/ 201).

ثمّ إنّ

العلماء اختلفوا في تفسير الكبائر إلى أقوال ذكرها الغزالي في الإحياء «3»

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 33، الطباطبائي، الميزان: 18/ 64.

(2) الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 317، الطباطبائي، الميزان: 19/ 45.

(3) الغزالي، إحياء العلوم: 40، كتاب التوبة: 17.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 232

و الطبرسي في المجمع «1» و الرازي في مفاتيح الغيب «2» و إليك الإشارة إلى قسم من الأقوال:

آراء العلماء في تفسير الكبيرة و الصغيرة

اختلفت آراءهم في تفسير الكبيرة، كالتالي:

1- كلّ ما أوعد اللّه عليه في الآخرة عقاباً و أوجب عليه في الدنيا حدّاً فهو كبيرة و هو المروي عن سعيد بن جبير، و مجاهد.

يلاحظ عليه: أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة بالاتّفاق لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار رواه الفريقان «3» مع أنّه سبحانه لم يوعد عليه عقاباً و لا أوجب عليه حدّاً في الدنيا.

2- إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّه عليه بالنار في الكتاب و السنّة.

يلاحظ عليه: بمثل ما لو لوحظ على الأوّل فإنّ الإصرار على الصغيرة معصية كبيرة و لم يوعد عليه بالنار فيهما.

3- إنّ الكبيرة كلّ ما يُشْعِرُ بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به. و يقرب منه ما يقال: إنّ الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكلّ معصية، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية أو استهزاءً، أو لعدم المبالاة كبيرة و هي بعينها لو افترضت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 232

يلاحظ عليه: أنّ هناك معاصي كبيرة و إن لم يقترفها الإنسان بأحد هذه العناوين كأكل مال اليتيم و الزنا مع الإحصان و قتل النفس المحترمة.

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 2/ 38.

(2) الرازي، مفاتيح الغيب: 10/ 7874.

(3) الوسائل: الجزء 11، الباب 45 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 233

4 كلّ ما نهى اللّه عنه فهو كبيرة نسبه الطبرسي إلى ابن عباس و قال: و إلى هذا ذهب أصحابنا فانّهم قالوا: المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من بعض و ليس في الذنوب صغير و إنّما يكون صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر منه و يستحق العقاب عليه أكثر و هذا كالزنا بلا إحصان، فإنّه أصغر بالنسبة إلى الزنا معه.

يلاحظ عليه: بأنّه على خلاف ظاهر الآية الأُولى لأنّ ظاهرها أنّ السيئات بالذات على قسمين، قسم يُكفِّر اجتنابها، و قسم يُكفَّر لو أتى بها، فلو كان الجميع كبائر، لم يكن وجه لتكفير بعض، البعضَ الآخر و إن شئت قلت: إنّ ظاهر الآية أنّ التقسيم وصف للمعاصي بحسب ذاتها، لا بحسب قياسها إلى معاص أُخر.

5- إنّ الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أوّل السورة إلى تمام ثلاثين آية و معنى الآية إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح و أكل الأموال و قطيعة الرحم بالباطل و غيره من المحرّمات من أوّل السورة إلى هذا الموضع.

يلاحظ عليه: أنّه مناف لإطلاق الآية.

6- إنّ الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه فلو غلب ثوابه على العقاب الناشي من اقتراف المعصية، تكون صغيرة و إلّا فهي كبيرة.

يلاحظ عليه: أنّ

المتبادر من ظاهر الآية أنّ انقسام المعاصي إلى القسمين، تقسيم ذاتي لها لا تقسيم قياسيّ، و على ضوء ذلك تبطل تلك النظرية و ما تقدم برقم 3 و 4، فإنّ وصف المعاصي بالكبر و الصغر باعتبار القصد، أو بنسبة بعضها إلى البعض الآخر، ينافي كون القسيم ذاتياً لا قياسياً و على ضوء هذا لا محيص عن تفسير الكبيرة و الصغيرة على وجه يتحفظ معه ظاهرها.

و يمكن أن يقال: إنّ الطريق إلى معرفة الكبيرة و الصغيرة، متعددة فكما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 234

يعرف من إيعاد النار عليه في الكتاب و السنّة يعرف من تشديد النهي، أو ورود النهي بعد النهي عليه عن وجه يعرب عن عناية الشارع بتركها و إن كانت العناية بوجه متعلقة بترك الجميع.

و لا ينافي ما ذكرنا ما جاء في غير واحد عنهم عليهم السَّلام من أنّ الكبائر عبارة عمّا أوجب اللّه عليها النار «1» أو ما أوعد اللّه عليه النار 2 إذ لا يظهر من الروايات أنّها بصدد الحصر.

و قد عقد الحرّ العاملي باباً أسماه باب تعيين الكبائر، جاء فيه بيان الكبائر من المعاصي 3 فعليك بالمراجعة إليه للتعرف عليها و قد اختلفت الروايات في تعيينها، و يحصل رفع الاختلاف بالقول باشتراك الجميع في كونها كبيرة و لكن لها درجات متفاوتة.

الثاني: ما هو المراد من الإصرار؟

اتّفقت كلمتهم على أنّ الإصرار على الصغائر يزيل العدالة و إنّما الاختلاف في مفهوم الإصرار فقيل فيه وجوه:

1- الإكثار منها بلا توبة.

2- الإكثار منها بلا توبة أو بالعزم على فعلها بعد الفراغ منها.

3- أو فعل الصغائر في الأغلب و إن أظهر الاستغفار عنها كلّما فعلها، فإنّه بحكم الإصرار المستمر لأنّ التوالي و إن كان

بعد كلّ فعل استغفار يدل على قلّة المبالاة و عدم الإخلاص في التوبة.

و الأخير هو ما ذكره المحقّق و إليك ما يمكن الاستدلال عليه:

قد وصف سبحانه المتقين بعدم الإصرار على المعاصي و قال:

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1، 2، 4، 15.

(2) 3 الوسائل: الجزء 11، الباب 48 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 235

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ وَ الْكٰاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعٰافِينَ عَنِ النّٰاسِ وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135133) و الموصول في قوله: (مٰا فَعَلُوا) يعمّ الصغيرة و الكبيرة، و الصغيرة و إن لم تكن من أفراد الفاحشة لكنّها من أفراد الظلم على النفس الوارد في نفس الآية، فتدلّ على أنّ الإصرار يخالف التقوى و بالتالي يخالف العدالة.

1- روى الصدوق بسند صحيح عن ابن أبي عمير قال سمعت موسى بن جعفر عليهما السَّلام أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «لا كبير مع الاستغفار، و لا صغير مع الإصرار». «1»

2- روى الصدوق باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد في حديث شرائع الدين: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه ... و الإصرار على صغائر الذنوب». «2»

3- روى الكليني بسند صحيح عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «لا و اللّه لا يقبل اللّه شيئاً من طاعته على الإصرار على شي ء من معاصيه». «3»

4- في موثقة

السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «من علامات الشقاء جمود العين ... و الإصرار على الذنب». 4

و إطلاق الروايتين، شامل للإصرار على الصغيرة، و وجه التقييد واضح لأنّه يورث في النفس هيئة لا ينفع معها ذكر مقام الربّ تعالى. و هي الاستهانة بأمر اللّه و عدم المبالاة، بهتك حرماته و الاستكبار عليه و لا تبقى معه عبودية و لا ينفع معه ذكر. 5

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 11، الباب 47 من أبواب جهاد النفس، الحديث 11.

(2) الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 36.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 11، الباب 48 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1، 2 و لاحظ الحديث 3.

(4) 5 العلّامة الطباطبائي الميزان: 4/ 19، ط طهران.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 236

و أمّا الإصرار فقد فسّره الجزري في النهاية بقوله:

«أصرّ على الشي ء إصراراً: إذا لزمه، و داومه و ثبت عليه. و أكثر ما يستعمل في الشرّ و الذنوب». «1»

و هناك صور لارتكاب الصغيرة بعضها داخل في الإصرار قطعاً، و البعض الآخر مشكوك الدخول و إليك بيانها:

1- إذا ثبت على المعصية الصغيرة بالتكرار و الدوام مع عدم تخلل التوبة بينها.

2- إذا ثبت عليها بالتكرار و الدوام مع تخلل التوبة بينها.

3- إذا ارتكبها مرّة واحدة و كان عازماً على فعلها في المستقبل.

4- إذا ارتكبها مرّة واحدة و لم يُحدِّث نفسُه بالتوبة.

5- إذا ارتكبها مرّة واحدة مع العزم على التوبة و إن لم يَتب.

لا شكّ في كون الأُولى من مصاديق الإصرار موضوعاً، كما أنّ الثانية و الثالثة ملحقتان بها حكماً لا موضوعاً لدلالتهما على قلّة

المبالاة و عدم الإخلاص في التوبة.

و أمّا الرابعة، فالظاهر خروجه عن الإصرار موضوعاً و حكماً، لكونه مكفَّراً باجتناب الكبائر. و يظهر من رواية جابر دخوله في الإصرار حيث روى عن أبي جعفر: «أنّ الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه تعالى و لا تحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار». «2»

يلاحظ عليه: أنّ الرواية مع ضعفها سنداً لوقوع عمرو بن شمر في سندها، أنّه لا يصدق على المفروض فيه، الإصرار لغة أوّلًا، و هو مكفَّر بالاجتناب عن

______________________________

(1) النهاية: 3، مادة «صرر».

(2) الوسائل: الجزء 11، الباب 48 من أبواب جهاد النفس، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 237

الكبائر، ثانياً، و أولى من هذه الصورة، الصورة الخامسة.

بقي هنا أُمور:

1- يظهر من المحقّق، أنّ مواقعة الصغائر في الأغلب ليس إصراراً و لكنّه ملحق به حكماً قال: «و كذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار أو في الأغلب».

2- نقل المحقّق في صورة الندرة قولين و قال: قيل لا يقدح لعدم الانفكاك منها إلّا فيما يقل فاشتراطه التزام للأشقّ، و قيل يقدح لإمكان التدارك بالاستغفار و الأوّل أشبه.

و القول الأوّل لابن إدريس و ردّ تارة بأنّه لا يمكن التوبة في أغلب الأحوال لأنّ من شرائط التوبة العزم على ترك المعاودة، و لا شكّ أنّ الصغائر لا ينفك منها الإنسان فلا يصحّ منه العزم غالباً، و أُخرى بأن العلم بتوبة المرتكب يحتاج إلى زمان طويل.

و الأوّل كما ترى، إذ كيف لا يمكن التوبة في أغلب الأحوال، ثمّ إنّه لا حاجة إلى التعرّف من المرتكب على العزم على الترك أبداً لأنّه مكفَّر بالاجتناب كما لا يخفى.

3- هل يقدح ترك المندوبات على نحو الإعراض عن الجميع، في العدالة أو لا؟

ذهب لفيف من الفقهاء كالمحقّق و العلّامة إلى أنّه غير مضرّ ما لم يبلغ حداً يؤذن بالتهاون بالسنن و أضاف في المسالك: و لو اعتاد ترك صنف منها كالجماعة و النوافل و نحو ذلك فكترك الجميع لاشتراكهما في العلّة المقتضية لذلك نعم لو تركها أحياناً لم يضرّ. «1»

أقول: لا بدّ من تفسير التهاون فإن أُريد منه التثاقل و التكاسل، فليس بحرام و إن أُريد منه الاستخفاف بالدين و الاعتراض عليه، فهو موجب للخروج

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 447.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 238

عن الدين.

4- يظهر من غير واحد من الأصحاب أنّ ترك المروءة قادح في العدالة قال الشيخ: العدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال، متساوياً و أمّا في الشريعة فهو من كان عدلًا في دينه عدلًا في مروءته، و عدلًا في أحكامه، أمّا العدل في الدين أن يكون مسلماً لا يُعرف منه شي ء من أسباب الفسق، و في المروءة أن يكون مجتنباً للأُمور التي تسقط المروءة مثل الأكل في الطرقات و مدّ الرجل بين الناس و لبس الثياب المصبغة و ثياب النساء، و العدل في الأحكام أن يكون بالغاً عاقلًا عندنا، و عندهم أن يكون حرّاً فأمّا الصبي فأحكامهم ناقصة فليسوا بعدول». «1»

و علّله في المسالك بأنّ عدم رعايتها إمّا يكون لخبل و نقصان في العقل أو قلّة مبالاة و حياء، و على التقديرين يبطل الثقة و الاعتماد على قوله أمّا الأوّل فظاهر، و أمّا قليل الحياء، فمن لا حياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر ثمّ إنّه قدس سره طرح للمروءة أمثلة كثيرة فراجعها. «2»

لا يهمّنا تفسير المروءة لغة و أنّه هل

هي بمعنى الإنسانية أو الرجولية، أو الكمال فيهما؟ بل المهم بيان ما أُريد منها في المقام، فالظاهر من كلامهم هو رعاية العادات الرائجة بين الناس و هي تختلف حسب اختلاف الأزمان و الأجيال إذ ربّ عمل كان يعاب به في زمان، و لا يعاب به الآن كالمشي في الأسواق و المجامع مكشوف الرأس، و قد صار اليوم أمراً عادياً جميلًا.

و على كلّ تقدير فلو كانت مخالفة العادات حاكية عن خبل و نقص في العقل أو قلّة مبالاة بالسنن و القوانين، و إلّا فلا تكون قادحة.

5- إنّ العادات العرفية، التي يعبّر عنها بالحسن و القبح العرفيين، تتغير

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 217.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 448.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 239

بتغير الأجيال و الأزمان، فكم من قبيح عرفي صار اليوم جميلًا؟ و كم من جميل صار اليوم قبيحاً؟ فالأولى التركيز على أنّ ترك العادات بما هي هي قادح للعدالة أو لا، لا على الأمثلة.

6- إنّ العدالة على القول بأنّها ملكة، ليست ملكة بسيطة غير قابلة للتقسيم و التجزئة بل هنا ملكات فربّ إنسان ذو ملكة راسخة بالنسبة إلى معصية كالقتل و السرقة و ليس كذلك بالنسبة إلى الكذب و الغيبة نعم العدالة المعتبرة في الشاهد، تجب أن تكون معتمدة على الملكة التامة الرادعة من عامّة المعاصي.

مسائل
المسألة الأُولى: في شهادة المخالف في الأُصول و الفروع

هل الفسق من حيث العقيدة يوجب ردَّ الشهادة و عدم قبولها، أو يختصّ الردُّ بالفسق من حيث العمل، كالسرقة و شرب الخمر؟ فيه خلاف بين الفقهاء.

قال الشيخ: كلّ من خالف الحقّ قد بيّنا أنّه لا تقبل شهادته سواء كان ممن يُكفَّر أو يفسَّق. «1»

ثمّ إنّه قد بيّن آراء الفقهاء في كتاب الخلاف

و إليك نصّه:

لا يجوز قبول شهادة من لا يعتقد إمامة الأئمّة الاثني عشر و لا منهم إلّا من كان عدلًا يعتقد العدلَ و التوحيد و نفي القبيح عن اللّه تعالى و نفي التشبيه، و من خالف في شي ء من ذلك كان فاسقاً لا تقبل شهادته.

و قال الشافعي: أهل الآراء على ثلاثة أضرب: منهم من نخطِّئه و لا نفسِّقه كالمخالف في الفروع فلا تردّ شهادته إذا كان عدلًا، و منهم من نفسِّقه و لا نكفِّره كالخوارج و الروافض، نفسِّقهم و لا نكفِّرهم، و منهم من نكفِّره و هم القدرية

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 220 و تبعه ابن إدريس في السرائر، لاحظ: 2/ 119.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 240

الذين قالوا بخلق القرآن و نفي الرؤية و إضافة المشيئة إلى نفسه، و قالوا: إنّا نفعل الخير و الشرّ معاً، فهؤلاء كفّار، و لا تقبل شهادتهم، و حكمهم حكم الكفّار، و به قال مالك و شريك و أحمد بن حنبل.

و قال ابن أبي ليلى و أبو حنيفة: لا أردّ شهادة أحد من هؤلاء، و الفسق الذي تردّ به الشهادة ما لم يكن على وجه التديّن كالفسق بالزنا و السرقة: و شرب الخمر، فأمّا من تديّن به و اعتقده مذهباً، و ديناً يدين اللّه به، لم أردَّ شهادته، كأهل الذمّة عنده، فسقوا على سبيل التديّن، و كذلك أهل البغي فسقوا عنده فوجب أن لا ترد شهادتهم.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم و لأنّه قد دلّت الأدلّة القاطعة على صحّة هذه الأُصول التي أشرنا إليها و ليس هاهنا موضع ذكرها، و المخالف فيها كافر و الكافر لا تقبل شهادته. «1»

قال المحقّق: كلّ مخالف في شي ء من

أُصول العقائد تردّ شهادته سواء استند في ذلك إلى التقليد أو إلى الاجتهاد، و لا تردّ شهادة المخالف في الفروع من معتقدي الحقّ إذا لم يخالف الإجماع و لا يُفسَّق و إن كان مخطئاً في اجتهاده.

و لعلّ ما ذكره المحقّق هو الرأي السائد بين الإماميّة.

أقول: إنّ المخالفة في الأُصول تارة تستلزم الكفر، كما إذا أنكر ضرورياً من ضروريات الدين خصوصاً إذا كان ملتفتاً إلى أنّه ضروريّ من ضرورياته، و مثله الغلاة و الخوارج و النواصب، فلا شكّ في عدم قبول شهادتهم لفقد الإسلام الذي تعرفت على شرطيته و فهمت شرطيته في كلمات الأصحاب من شرطية الإيمان بالمعنى الأخصّ، و أُخرى لا يكون كذلك كالمجسِّمة و المجبّرة و القائلين بوحدة الوجود بالمعنى الفاسد فوجه عدم القبول لأجل تقصيرهم في طلب الحقّ مع

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 50.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 241

انفتاح باب العلم فيه. إنّما الكلام في سائر الأُصول الكلامية التي ابتكرها الشيخ المفيد و تلاميذه و صار مذهباً للشيعة الإمامية عبر القرون و تعد اليوم من الضروريات، كعصمة الأنبياء من الصغائر و الكبائر قبل البعثة و بعدها و عدم سهو النبيّ و ما أشبههما فالظاهر أنّ المخالفة فيها إذا كان عن اجتهاد و تقليد غير قادحة لأنّ أصل العصمة على وجه الإجمال و إن كان من ضروريات الدين، لكن سعتها لما قبل البعثة من الصغائر ليست كذلك فالقائل بعدمها مخطئ، لكن ليس بفاسق حتّى لا تقبل شهادته.

و بالجملة القادح في قبول الشهادة في مورد الأُصول، هو المخالفة مع ضروريات الدين أو المذهب الإمامي، بحيث تعدّ المخالفة تقاعساً في طلب الحقّ، و تقصيراً في الاجتهاد، و

أمّا غيرهما، فالمخالف مخطئ لا فاسق.

و أمّا الفروع فقد استثنى المحقّق مخالف الإجماع و كان عليه أن يقسم الفروع إلى أقسام أربعة:

1- ما هو من ضروريات الدين، كوجوب الصلاة و الزكاة و الحجّ. 2 ما هو من ضروريات المذهب كحلّية المتعة، و بطلان العول و التعصيب، و جواز الوصية للوارث، و مسح الرجلين و غيرهما. 3 ما هو من ضروريات الفقه، كحرمة وطء الحائض. 4 مسائل فقهية اضطربت الآراء فيها، و ربّما يكون أحد الآراء مشهوراً.

و الذي لا يقدح في العدالة هو القسم الأخير، فمن أفتى بشي ء يخالف الحكم المشهور مخطئ و ليس بفاسق، و الإجماع الذي ذكره المحقّق يرجع إلى أحد الأُمور الثلاثة.

المسألة الثانية: في شهادة القاذف

لا شكّ في انّه لا تقبل شهادة القاذف إذا لم يلاعن، أو لم يُقم البيّنة أو لم يقرّ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 242

المقذوف، و يدل عليه نصّ الكتاب و السنّة المستفيضة قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 54) و المراد من المحصنات: العفائف من النساء.

فقد حكم سبحانه في الآية على القاذف بأحكام ثلاثة: 1- (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً)، 2- (لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً)، 3- (وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ).

ثمّ إنّه سبحانه استثنى في الآية الثانية التائبين منهم. فوقع الخلاف في أنّ الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة (أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) أو إلى الجميع، و عليه فلو تاب فلا يُجلد، و تقبل شهادته أيضاً و بالنظر إلى مفاد الآية و الروايات الواردة، وقع النزاع في مواضع

أربعة:

الأوّل: هل الموضوع لعدم قبول الشهادة هو مجرّد الرمي أو هو مع إجراء الحدّ؟

الثاني: إذا تاب، هل تقبل شهادته أولا، و إن صار عادلًا؟

الثالث: ما هي كيفية توبته فهل يكفي الاستغفار من الذنب أو يجب عليه إكذاب نفسه عند الإمام أو عند المسلمين؟

الرابع: ما هو المراد من قوله سبحانه: (وَ أَصْلَحُوا) بعد قوله (إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ) فهل الإصلاح نفس التوبة أو شي ء آخر؟ فلنأخذ كلّ واحد بالبحث:

أمّا الأوّل: فقال أبو حنيفة: لا تردّ بمجرّد القذف حتّى يُجْلَد فإذا جُلِدَ ردّت شهادته بالجلد لا بالقذف و قال الشافعي: تردّ شهادته بمجرّد القذف. «1» أقول: الظاهر من الآية هو انّ الرمي تمام الموضوع لردّ الشهادة، و لا يتوقف على إجراء

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 243

الحدّ حتّى يكون الموضوع هو المحدود بشهادة عطف الجملة الثانية على الأولى بالواو و قال: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً) فلو كان الجلد، شرطاً لعدم القبول كان اللازم أن يقول: فلو جُلدوا، لا تقبلوا لهم شهادة أبداً.

و الذي يعرب عن ذلك أنّ قوله: (أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) بمنزلة التعليل لعدم قبول شهادتهم، و من المعلوم أنّ الحكم بالفسق غير معلّق على إجراء الحدّ فعدم قبول الشهادة مثله حكم، غير معلّق بشي ء.

و أمّا الثاني: أي قبول شهادتهم بعد التوبة فقد عرفت أنّه مبنيّ على رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل الثلاث. و لعلّه الظاهر و إن كانت الأخيرة هي المتيقنة و ذهب أكثر فقهاء أهل السنة إلى عدم القبول. قال الشيخ: القاذف إذا تاب و صلح، قبلت توبته و زال فسقه بلا خلاف و تقبل

عندنا شهادته فيما بعدُ، و به قال عمر بن الخطاب، و روي عنه أنّه جَلَد أبا بكر حين شهد على المغيرة بالزنا ثمّ قال له: تب تُقْبَل شهادتك. و عن ابن عباس أنّه قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته و به قال في التابعين عطاء و طاوس. «1»

و أمّا غيرهما فقد صرّح الشيخ بأنّ شريحاً و الحسن البصري و النخعي و الثوري و أبا حنيفة و أصحابه قالوا بأنّه لا تقبل شهادته. 2 و نقل الطبرسي في تفسير الآية: أنّ الزهري و مسروق و عطاء و طاووس و سعيد بن جبير و الشعبي و الشافعي و أصحابه قالوا بقبول شهادته 3 و على أيّ حال النصوص من أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام مستفيضة على القبول و يظهر من رواية القاسم بن الحسن، أنّ المشهور لدى السنّة هو عدم القبول 4 و سيوافيك بعض النصوص في البحث الثاني.

______________________________

(1) 1 و 2 و الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 11.

(2) 3 الطبرسي، مجمع البيان: 4/ 126، ط صيدا.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 244

و أمّا الثالث: أي كيفية التوبة فقد تضافرت السنّة على إكذاب نفسه لكنّهم اختلفوا في أمرين:

الأوّل: هل التوبة نفس إكذاب نفسه، أو هي شي ء وراء الإكذاب؟

الثاني: كيف يكذب نفسه، فهل يلزم أن يقول: كذبت فيما قلت أو يكفي أن يقول: القذف باطل و لا أعود إلى ما قلت؟

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ الإكذاب غير التوبة، فالأوّل أشبه بحقوق الناس لصيانة عرض الناس، و الثاني من حقوق اللّه حيث اقترف الحرام و في بعض الروايات إشارة إلى التغاير كخبر «1»

«أبي الصباح الكناني» عن القاذف إذا أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال: نعم. «2» و في متن آخر: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن القاذف بعد ما يُقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال: «يكذب نفسه». قلت: أ رأيت إن أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال: «نعم». 3 فانّ عطف التوبة على الإكذاب، دليل التغاير، و أمّا اكتفاء الإمام في تفسير التوبة بالإكذاب، لأجل معلومية الجزء الآخر أعني: الندامة المبرَزة بالاستغفار. و لأجل ذلك روي عن أحدهما عليهما السَّلام: «يجي ء فيكذب نفسه عند الإمام و يقول: قد افتريت على فلانة و يتوب ممّا قال». 4

و أمّا الثاني: فالوارد في الروايات هو إكذاب نفسه، غاية الأمر أنّه لو كان صادقاً، يورّي كما عليه المحقّق في الشرائع.

و يظهر من غير واحد تعيّن غيره قال ابن إدريس: و كيفية توبته في القذف أن يقول: القذف باطل و حرام و لا أعود إلى ما قلت. 5 و ذلك لأنّه إذا قال:

______________________________

(1) لضعف الراوي عنه، أعني: محمّد بن الفضيل، و هو غير محمّد بن الفضيل الأزدي، و غير محمّد بن الفضيل بن غزوان.

(2) 2- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 6 و 1 و 4.

(3) 5 ابن إدريس، السرائر: 2/ 116.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 245

كذبتُ فيما قلت ربّما كان كاذباً في هذا، لجواز أن يكون صادقاً في الباطن، و قد تعذّر عليه تحقيقه.

و تبعه ابن سعيد حيث قال: و إن شهدوا دون الأربعة بالزنا فحُدُّوا، توبتهم أن يقولوا: ندمنا على ما كان و لا نعود إلى ما يتهم فيه فتقبل شهادتهم. «1»

أضف إليه ما في المسالك من

أنّه تعريض بقذف جديد غير الأوّل. «2» و نقله الشيخ في الخلاف عن أبي إسحاق المروزي و اختاره أيضاً و قال: و الّذي قاله المروزي قويّ لأنّه إذا أكذب نفسه بما كان صادقاً في الأوّل فيما بينه و بين اللّه فيكون هذا الإكذاب كذباً و ذلك قبيح «3». و على كلّ تقدير فيجب أن يصل الإكذاب إلى من وصل إليه الرمي، و لعل الإكذاب عند الإمام أو عند المسلمين في بعض الروايات «4» كناية عنه.

يلاحظ عليه بأنّ غاية ما يلزم هو لزوم التعريض و التورية إذا كان كاذباً.

و أمّا الرابع، أعني: كون الإصلاح وراء التوبة و الإكذاب أو لا، فظاهر الآية، انّه غيرهما. قال الشيخ: إذا أكذب نفسه و تاب لا تقبل شهادته حتّى يظهر منه العمل الصالح و هو أحد قولي الشافعي إلّا أنّه اعتبر ذلك سنة و نحن لم نعتبره لأنّه لا دليل عليه و القول الآخر أنّه يكفي مجرّد الإكذاب. «5» و هو خيرة ابن سعيد قال: و لا يحتاج إلى إصلاح عمل. «6» و لا يصحّ إلّا بجعل الجملة تفسيراً للتوبة، و يمكن أن تكون كناية عن الإكذاب، و بما أنّ النصّ ذو وجوه، فمقتضى الأصل العملي استصحاب الحكم السابق حتّى يعلم المزيل.

______________________________

(1) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 541.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 449.

(3) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 12.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 37 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(5) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 13.

(6) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 541.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 246

المسألة الثالثة: في اللعب بآلات القمار

اللعب بآلات القمار على أقسام ثلاثة:

1- أن يلعب بها لغاية القمار و الرهان.

2- أن يقصد به اللهو

و التنزّه.

3- أن تكون الغاية الحذق و التفتح.

لا إشكال في حرمة اللعب على الوجه الأوّل و أنّه من الكبائر و قد عرفت أنّ من طرق التعرّف على كون الفعل من الكبائر، لحن الدليل و تشديد النهي، و يكفي في ذلك قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة/ 9190) و قد فسّر الميسر في غير واحد من الروايات بالقمار «1» و الآية الأُولى و إن كان تؤكد على نفس الآلة لا على اللعب بها، لكن الآية الثانية تركز على إعمالها حيث إنّ المراد من قوله: (فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ) هو شرب الخمر و استعمال الميسر بقرينة قوله: (وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ) و من المعلوم أنّ الصادّ عن ذكر اللّه هو الممارسة بهذه الآلات لا نفسها.

أضف إلى ذلك ما ورد من الروايات من عدّ اللعب بها من أقسام الباطل «2» و أنّ صاحب الآلات لا يغفر في شهر رمضان. 3 كلّ ذلك لا يدع شكاً في أنّه من المعاصي الكبيرة و بما ذكرناه، ظهر ضعف ما اختاره الشهيد الثاني في المسالك في

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12 و الباب 100، الحديث 15.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5 و 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 247

كونه من صغائر المعاصي: و ظاهر النهي أنّها من الصغائر

فلا يقدح في العدالة إلّا مع الإصرار عليها. «1»

إنّما الكلام في القسمين: الثاني و الثالث أي اللعب بها لغاية التنزه أو الحذق من دون رهان و لا قمار، فهل هناك إطلاق يعمّ تلك الصورتين أو لا؟ و لنذكر بعض كلمات الفقهاء:

1- قال الشيخ في الخلاف: و اللعب بالشطرنج حرام على أيّ وجه كان و يُفسّق فاعله به و لا تقبل شهادته، و قال مالك و أبو حنيفة مكروه، إلّا أنّ أبا حنيفة قال: هو يلحق بالحرام، و قالا جميعاً تردّ شهادته، و قال الشافعي: هو مكروه و ليس بمحظور. «2»

2- و قال في النهاية: و تردّ شهادة اللاعب بالنرد و الشطرنج و غيرهما من أنواع القمار و الأربعة عشر و الشاهَين. «3»

3- و قال في المبسوط: اللاعب بالشطرنج عندنا تقبل شهادته بحال و كذلك النرد و الأربعة عشر و غير ذلك من أنواع سواء كان على وجه المقامرة أو لم يكن. «4»

4- و قال ابن البراج: و لا يجوز شهادة الفسّاق و مرتكبي القبائح من شرب الخمر، و الزنا و اللواط و اللعب بالشطرنج أو النرد أو ما يجري مجرى ذلك من آلات القمار. «5»

______________________________

(1) زين الدين، المسالك: 2/ 449.

(2) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 51.

(3) الطوسي، النهاية: 325.

(4) الطوسي، المبسوط: 8/ 221، و الظاهر سقوط حرف النفي عند الطبع من قوله: تقبل بقرينتين و ذلك: 1 قوله: «بحال» 2 التسوية في ذيل كلامه، فإنّ حرمة المقامرة لا شبهة فيها فكيف يقبل قول المقامر؟! اللّهمّ إلّا أن تكون من صغائر المعاصي كما عرفت عن المسالك و هو بعيد جدّاً.

(5) ابن البراج، المهذّب: 2/ 557.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 248

5 و قال ابن إدريس: و لا تقبل شهادة فحاش و تردّ شهادة اللاعب بالنرد و الشطرنج و غيرهما من أنواع القمار و الأربعة عشر و الشاهين بفتح الهاء لأنّ ذلك تثنية «شاه» لأنّه كذاب بقوله: شاهك مات، يعني به أحد أقطاع الشطرنج و لغته بالفارسية الملك. «1»

6- و قال المحقق: اللعب بآلات القمار كلّها حرام كالشطرنج و النرد و الأربعة عشر و غير ذلك سواء قصد الحذق أو اللهو، أو القمار.

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة «2»، إذا علمت ذلك فاعلم أنّ اللعب بآلات القمار بلا رهان له صورتان:

الأُولى: إذا كان اللعب بلا رهان بالآلة المعدّة للمقامرة بين الناس على وجه يقامرون بها، فالحقّ حرمته و إن لم يكن هناك رهان لانصراف بعض الأسئلة إلى خصوص هذه الصورة مضافاً إلى الإطلاقات.

أمّا الأوّل كموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام انّه سئل عن الشطرنج، فقال: «دعوا المجوسية لأهلها لعنها اللّه». «3» إذ لا يحتمل أن يسأل مسعدة عن القمار بالشطرنج، بعد معلومية حكمه بين المسلمين، و إنّما يصحّ السؤال عن اللعب به لبعض الغايات.

و مثلها موثقة زرارة «4» عن أبي عبد اللّه انّه سئل عن الشطرنج، و عن لعبة شبيب التي يقال لها لعبة الأمير، و عن لعبة الثلث فقال: «أ رأيتك إذا ميّز اللّه الحقّ و الباطل، مع أيّهما تكون؟» قال: مع الباطل، قال: «فلا خير فيه». «5» و قوله: «لا خير فيه» و أنّه كان يشعر بالكراهة، لكن بما أنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال كما

______________________________

(1) ابن إدريس، السرائر: 2/ 121.

(2) لاحظ مفتاح الكرامة: 4/ 56.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب، الحديث 7.

(4) لوقوع ابن

فضال في سند الحديث.

(5) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 249

في قوله سبحانه: (فَمٰا ذٰا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلٰالُ) (يونس/ 32)، يحمل على الحرمة. إذ من المحتمل قويّاً أنّ الباطل بمعنى الضلال، نعم الباطل بمعنى غير المفيد لا يلازم الحرمة كما هو الحال في اللغو فإنّه من أقسام الباطل و ليس بحرام.

روى أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سئل عن الشطرنج و النرد. فقال: «لا تقربوهما». «1»

إنّ إرجاع هذه الأسئلة، إلى السؤال عن القمار بالآلات، بعيد جدّاً، فإنّ معناها أنّ مسعدة و زرارة و غيرهما، صاروا يسألونهم عليهم السَّلام عن الأُمور الواضحة.

و أمّا الإطلاقات فحدّث عنها و لا حرج و يكفيك ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «نهى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن اللعب بالشطرنج و النرد». «2» و ما رواه البزنطي في جامعه عن أبي بصير عن أبي عبدا للّه عليه السَّلام قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتخاذها كفر، و اللعب بها شرك، و السّلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة إلى أن قال: و الناظر إليها كالناظر في فرج أُمّه، و اللاهي بها، و الناظر إليها في حال ما يلهى بها، و السّلام على اللاهي بها في حالته تلك، في الإثم سواء». 3 و الموضوع في الحديثين هو اللعب و اللهو بالشطرنج و النرد، على وجه الإطلاق. سواء كان معه رهان أم لا و لاحظ سائر الروايات الواردة في البابين 4 من أبواب ما يكتسب به.

و يمكن الاستدلال أيضاً

على الحرمة برواية تحف العقول حيث قال: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجي ء منها الفساد محضاً نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهو به إلى أن قال: و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً، و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به، و أخذ الأُجرة عليه و جميع التقلّب فيه في جميع وجوه الحركات كلّها» 5 و من المعلوم أنّ

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2) 2- 5 الوسائل: الجزء 12، الباب 102، الحديث 9 و الباب 103، الحديث 4. و سائر الروايات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 250

اللعب بها بلا رهان نوع تقلّب فيها.

و ما أفاده السيّد الخونساري من الإشكال في شمول الإطلاق لهذه الصورة من أنّ اللعب بلا رهان يعد لغواً «1» غير تام لأنّ المحرك إلى اللعب لا ينحصر في الرهان بل هنا غايات أُخر تبعث إليه، كإظهار التفوق، أو التهيؤ للمقامرة في المستقبل القريب، و لو كان لغواً لما شاع بين الناس، و هم عقلاء.

الثانية: اللعب بلا رهان بالآلة الخارجة عن كونها آلة المقامرة و أصبح آلة، يلعب بها لأحد الأمرين: التنزه أو الحذق فيكون أشبه، بانقلاب الخمر خلًا، فهل الإطلاقات منصرفة عن هذه الصورة أو هي قاصرة عن الشمول، و القصور بعيد، لما عرفت من أنّ الموضوع في لفيف من الروايات، هو اللعب و اللهو. فتعمّ هذه الصورة أيضاً و لو قلنا بصحّة الانصراف لكن إحراز الصغرى و كون الآلة خارجة بين العقلاء عن كونها آلة للقمار، مع كونها مخترعة لهذه

الغاية، أشكل من القول بالانصراف من غير فرق بين الشطرنج و غيره. و مع الشكّ في الصغرى و الكبرى فاستصحاب الحرمة محكّم كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: في شهادة شارب الخمر

اتّفقت كلّمتهم على عدم قبول شهادة شارب الخمر، لكون شربه من المعاصي الكبيرة، و قد عدّه الإمام الرضا عليه السَّلام في رسالته إلى المأمون من المعاصي الكبيرة و قال: «و اجتناب الكبائر و هي قتل النفس الّتي حرّم اللّه تعالى، و الزنا، و السرقة و شرب الخمر» «2» مضافاً إلى ما ورد من أنّ شربه يخرج الإنسان عن الإيمان، و يفارقه روحُ الإيمان و قد قورن بالزنا في النهي عنه 3 ورود الحدّ فيه و في شرب كلّ

______________________________

(1) الخونساري، الجامع للمدارك: 3/ 27.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 33.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 251

مسكر. «1»

إنّ الكتاب و إن حرّم الخمر، و لكن رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حرّم كلّ مسكر. روى الكليني إنّ اللّه حرّم الخمر بعينها و حرّم رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كل مسكر من كلّ شراب. «2» روى علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السَّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته، عاقبةَ الخمر، فهو خمر». «3» و في رواية أُخرى عنه عليه السَّلام: «فما فعل فعل الخمر»، فهو خمر. 4 و في رواية ثالثة: «حرّمها لفعلها و فسادها». 5

و من استعارة الخمر، لسائر المسكرات، و وجود الحدّ فيها كما مرّ يشرف الفقيه على كون الكلّ من المعاصي الكبيرة، من غير فرق

بين الفقاع و المتّخذ من الشعير و النبيذ المتخذ من التمر، فإنّ الجميع مسكر، غاية الأمر للإسكار درجات و مراتب حسب كثرة المادة الكحولية و قلّتها، فقد ذكر بعض الكيميائيين أنّ المادة الكحولية في الصناعي 55% و في غيره يتراوح بين 3% إلى نهاية درجتها 25%.

هذا كلّه حول الخمر و سائر المسكرات.

و أمّا العصير العنبي، سواء غلى بنفسه أو بالنار، فيحرم شربه ما لم يذهب ثلثاه إنّما الكلام في كونه من الكبائر و يمكن استظهاره مضافاً إلى ما قيل من أنّها الأصل في المحرّمات، ممّا ورد من أنّ الثلثين نصيب الشيطان. 6

نعم لا بأس باتّخاذ الخمر للتخليل. روى عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلًا؟ قال: «لا بأس». 7

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1 و 2.

(2) الكافي، باب التفويض إلى الرسول و الأئمّة: 1/ 209.

(3) 3- 5 الوسائل: الجزء 17، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1، 2، 3.

(4) 6 الوسائل: الجزء 17، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4 و غيره.

(5) 7 الوسائل: الجزء 17، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 3 و غيره.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 252

المسألة الخامسة: الغناء من الكبائر فعلًا و سماعاً

لسنا في المقام بصدد تبيين مفهوم الغناء لغةً و سنّةً، بل بصدد بيان أنّه من الكبائر، سواء أ كان وصفاً لهيئة الكلام على ما يظهر من المحقّق حيث فسّره بالصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو كان وصفاً للمضمون و المعنى على وجه ضعيف. و أنّه هل يتحقق بنفس الصوت، فقط أو به و بالملاهي أيضاً؟

و يمكن الاستدلال على كونه من الكبائر

بالوجه التالي:

قد فسّر لهو الحديث الذي أوعد بالعذاب، بالغناء «1» قال سبحانه: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ). (لقمان/ 6) كما فسّر الزور في غير واحد من الروايات المقترن بالأوثان به أيضاً. «2» قال سبحانه: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30) مضافاً إلى تضافر النهي في الروايات.

و هل هو كذلك في السامع أيضاً، أو يختص بالفاعل، الظاهر هو الأوّل و يكفي فيه ما ورد من تفسير قوله سبحانه: (الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (الفرقان/ 72) بالغناء 3 و المراد من شهوده هو الحضور في مجلسه، مضافاً إلى ما ورد من أنّ الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله 4 على أنّ تضافر النهي لغاية إبعاد الناس عن سماعه من غير فرق بين الفاعل و السامع و قد مرّ أنّه من علائم كون الفعل من الكبائر.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 99 من أبواب يكتسب به، الحديث 6، 7.

(2) 2- 4 المصدر نفسه، الحديث 2، 8، 16.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 253

المسألة السادسة: في استعمال الملاهي

إنّ استعمال الملاهي حرام و المقصود إثبات كونه من الكبائر و لنذكر كلمات الفقهاء:

1- قال الشيخ في الخلاف: الغناء حرام سواء كان صوتَ المغني أو بالقضيب أو بالأوتار مثل العيدان و الطنابير و النايات و المعازف و غير ذلك و أمّا الضرب بالدّف في الأعراس و الختان فإنّه مكروه و قال الشافعي: صوت المغنّي و القضيب مكروه و ليس بمحظور، و ضرب الأوتار محرّم، و ضرب الدف في الختان و الأعراس مباح. «1»

2- و قال في المبسوط: و جملته عندهم (العامة) أنّ

الأصوات على ثلاثة أضرب: مكروه و

محرم و مباح فالمكروه صوت المغني و القضيب معاً لأنّه و إن كان بآلة فهو تابع للصوت و الغناء فلهذا كان مكروهاً، و هو عندنا حرام من الفاعل و المستمع تردّ به شهادتهما.

و أمّا المحرّم و هو صوت الأوتار و النايات و المزامير كلّها، فالأوتار: العود و الطنابير و المعزفة، و الرباب و نحوها و النايات و المزامير معروفة و عندنا كذلك محرّم تردّ شهادة الفاعل و المستمع.

روي أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: إنّ اللّه حرّم على أُمّتي الخمر و الميسر و المرز و الكوبة و القنين، فالمرز شراب الذرة، و الكوبة الطبل، و القنين البربط، و التفسير في الخبر.

و روى محمّد بن علي المعروف بابن الحنفية عن علي عليه السَّلام، أنّ النبيّ عليه و آله السّلام قال: «إذا كان في أُمّتي خمسَ عشر خصلة حلّ بهم البلاء: إذا اتّخذوا

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 254

الغنيمة دولة، و الأمانة مغنماً، و الزكاة مغرماً، و أطاع الرجل زوجته، و جفا أباه، و عقّ أُمّه، و لبسوا الحرير، و شربوا الخمر، و اشتروا المغنيات و المعازف، و كان زعيم القوم أرذَلهم، و أُكْرِمَ الرجلُ السوء خوفاً منه، و ارتفعت الأصوات في المساجد، و سبّ آخر هذه الأُمّة أوّلها، و في بعضها و لعن آخرُ هذه الأُمّة أوّلها، فعند ذلك يرقبون ثلاثاً: ريحاً حمراء، و خسفاً و مسخاً».

فإذا ثبت أنّ استماعه محرّم إجماعاً فمن استمع إلى ذلك فقد ارتكب معصية مجمعاً على تحريمها، فمن فعل ذلك أو استمع إليه عمداً رُدّت شهادته.

و أمّا

المباح فالدف عند النكاح و الختان، لما روى ابن مسعود أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: اعلنوا النكاح، و اضربوا عليها بالغربال يعني الدفّ و روى أنّه عليه السَّلام قال: فصِّل ما بين الحلال و الحرام، بالضرب بالدف عند النكاح، و عندنا أنّ ذلك مكروه غير أنّه لا تردّ به شهادته فأمّا في غير الختان و العرس فمحرّم. «1»

3- قال ابن إدريس في عداد الكسب المحظور من السرائر: فهو كلّ محرّم إلى أن قال: و آلات جميع الملاهي على اختلاف ضروبها من الطبول و الدفوف، و الزمر، و ما يجري مجراه و القضيب، و السير، و الرقص و جميع ما يطرب به من الأصوات و الأغاني. «2»

4- قال المحقّق: الزمر و العود، و الصنج و غير ذلك من آلات اللهو حرام يفسق فاعله و مستمعه و يكره الدف في الإملاك و الختان خاصة. «3»

5- و قال في النافع: و العمل بآلات اللهو سماعها، و الدف إلّا في الإملاك و الختان. «4»

6- و قال العلّامة: و تردّ شهادة اللاعب بآلات القمار إلى أن قال: و

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 224223.

(2) الحلي، السرائر: 2/ 215.

(3) المحقق، الشرائع: 4/ 128.

(4) ابن فهد الحلّي، المهذّب: 4، قسم المتن 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 255

مستمع الزمر و العود و الصنج و الدف إلّا في الإملاك و الختان خاصّة و جميع آلات اللهو. «1»

7- و قال في التذكرة: يحرم اتّخاذ الملاهي من الدفّ و شبهه و قد روى جواز ذلك في العرس و الغناء فيه و منع ابن إدريس و هو المعتمد لأنّ اللّه ذمّ اللهو و اللعب بما يقتضي تحريمهما.

«2»

8- و قال المحقّق الأردبيلي: و كذا تردّ شهادة فاعل الزمر بأنواعه، و مستمعه كذلك و كذا العود و هو نوع خاص من آلات اللهو معروف و كذا الصنج و كذا الدفّ الذي معه الجلاجل و أضاف لعلّ تحريم كلّ ذلك و غيره من جميع آلات اللهو مثل الطنبور و غيره بالإجماع عندنا و الأخبار من طرق العامة في الجملة و الخاصة إلّا الدفّ الخالي عن الجلاجل و الصنج في الإملاك بالكسر أي التزويج و في الختان للصبيان خاصّة. «3»

هذا بعض ما وقفنا عليه من كلمات علمائنا تتّفق على تحريم استعمال الملاهي، إنّما الكلام في كونه من المعاصي الكبيرة فالذي يمكن أن يكون سنداً لها، هو تضافر النهي عليه في غير واحد من الروايات التي ربّما تتجاوز الأربعين و قد جاء كثير منها في كتاب جامع الأحاديث «4» فإنّ العناية الهائلة في الروايات بالنهي عنه و بيان آثاره السيّئة دليل على كونها كبيرة.

و قد نقل قسماً منها الحرّ العاملي في الوسائل و الأكثر و إن كان غير نقية السند لكن بعضها يشدّ بعضاً، و يورث القطع بصدور بعضها و هو كاف في الحكم و إليك بعض الروايات المعتبرة:

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، إرشاد الأذهان: 2/ 157.

(2) العلّامة الحلّي: التذكرة 2/ 582، كتاب النكاح في أحكام الوليمة.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 340.

(4) جامع الأحاديث: 17، الباب 21 من أبواب ما يكتسب به.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 256

1- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنهاكم عن الزفن، و المزمار، و الكوبات، و الكبرات». «1»

و الزفن هو الرقص، و المزمار قصبة

يزمر بها، يقال زمر الرجل، يزمر إذا ضرب المزمار، و الكوبات جمع الكوبة و هي الطبل، و الكبرات جمع الكبر على وزن الفرس، و فسّره في المنجد بالطبل أيضاً و قال: إنّه دخيل. هذا ما رواه الكليني، و نقله الحميري في الجعفريات، و صاحب الدعائم في دعائم الإسلام. «2»

2- معتبر إسحاق بن جرير و قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: «إنّ شيطاناً يقال له: القفندر إذا ضرب في منزل الرجل أربعين صباحاً بالبربط و دخل الرجال وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه على مثله من صاحب البيت نفخَ فيه نفخة فلا يغار بعدها حتى تؤتى نساؤه فلا يغار». «3» و البربط هو العود و هو آلة من المعازف يضرب بها.

3- روى الصدوق بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السَّلام في كتابه إلى المأمون بأنّ الإيمان هو أداء الأمانة و اجتناب الكبائر و عدّ منها الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب. «4»

4- روى الصدوق باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السَّلام في حديث شرائع الدين قال: و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه و قتل النفس إلى أن قال: و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب. 5 و المراد من المكروه هو الحرام بقرينة عدّها من الكبائر و لعلّ اقحام كلمة «مكروه» في الأثناء للتقية و قد عرفت على فتوى العامة على الكراهة عن الخلاف.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) لاحظ جامع أحاديث الشيعة: الجزء 17، الباب 21 من أبواب ما يكتسب، الحديث 2 و 3.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 100 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 33 و 36.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 257

و موجز الكلام في استعمال الملاهي أنّه لا شكّ في حرمته و كونه من الكبائر و أنّ هنا عنوانين متغايرين محرّمين:

1- الغناء.

2- استعمال الملاهي.

و اجتماعهما في مورد كما في كلام الشيخ في الخلاف ليس دليلًا على وحدة الموضوع المحرّم و أمّا الموسيقي فليس موضوعاً للحكم في الأدلّة حتى نبحث عن مفهومه و الناظر في الروايات الواردة ترى أنّ النهي تارة تعلّق بأسماء الآلات، و أُخرى بعنوان الملاهي الذي هو جمع الملهاة، بمعنى آلة اللهو فلو كان الموضوع هو استعمال هذه الآلات بما هي هي فيحرم مطلقاً و إن ترتبت عليه فائدة عقلائية غير منهية عنها، كما في الحروب، و مواقع الإنذار، و أمّا لو قلنا إنّ الموضوع استعمالها بما هي ملهاة و أنّ العمل عمل لهوي، فيخرج الموارد التي تترتب عليها، منافع محلّلة جماعية و ما أقلّ تلك المنافع، و ما أكثر المنافع المحرّمة، فلاحظ.

ثمّ لو قلنا بأنّ الموضوع هو الانتفاع اللهوي، فالفرد المشكوك بين كونه لهوياً و غيره محكوم بالحلّية فعلًا و سماعاً. لكن بما أنّ هذه الآلات مصائد للشيطان، مثيرة للشهوات فاللازم هو الاجتناب إلّا في مورد نقطع بأنّه ليس الاستعمال بلهوي كالانتفاع بها في الحروب و التدريب.

هذا كلّه حكم المستعمل و أمّا حرمة الاستماع فتكفي فيها معتبرة مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السَّلام فقال له رجل: بأبي أنت و أُمّي أدخل كنيفاً ولي جيران و عندهم جوار يتغنين و يضربن بالعود فربّما أطلتُ الجلوس استماعاً

منّي لهنّ فقال عليه السَّلام: «لا تفعل» فقال الرجل: و اللّه ما أتيتهن، إنّما هو سماع أسمعه بأُذني، فقال عليه السَّلام: «باللّه أنت، أما سمعتَ اللّه يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) «1»؟! «فقال: بلى! و اللّه كأنّي لم أسمع بهذه

______________________________

(1) الإسراء: 36.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 258

الآية من كتاب اللّه من عربيّ و لا عجميّ، لا جرم انّي لا أعود إن شاء اللّه، و إنّي أستغفر اللّه، فقال له: «قم فاغتسل و صلّ ما بدا لك، فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك، احمِد اللّهَ و سله التوبةَ من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، و القبيح دعه لأهله فانّ لكلّ أهلًا. «1»

نعم استثنى المحقّق صورتين و قال: يكره الدف في الإملاك و الختان، استناداً إلى ما رواه البيهقي. قال النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: اعلنوا النكاح و اضربوا عليه بالغربال يعني الدفّ، و روى أيضاً: فصل ما بين الحرام و الحلال، بالضرب بالدف في النكاح، و قد عرفت أنّ بعضهم قيد الدف بكونه خالياً عن الصنج، و عبّر عنه الأردبيلي، بالجلاجل. و الرواية مع أنّها خاصّة بالنكاح دون الختان، ضعيف و منع ابن إدريس و أخذ بعموم النهي. و لعلّ عمومات النهي عن استعمال الملاهي إذا عدّ العمل لهويّاً غير قابل للتخصيص كما هو واضح لمن لاحظها فاللازم عند التحليل وجود فائدة عقلائية فالتخصص بالرواية العامية غير تام.

المسألة السابعة: في الحسد

الحسد معصية كبيرة بلا إشكال، كيف لا و قد ورد في الصحيح أنّه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

«2» و انّه آفة الدين 3 إلى غير ذلك من التعبيرات الدالّة على أنّه من عظائم المحرّمات، و لا ينفك عن البغضة التي هي أيضاً من إحدى المحرّمات الكبيرة و في صحيح مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال رسول للّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في حديث: إلّا انّ التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشعر و لكن حالقة الدين. 4 و هل الحسد الكامن في النفس بنفسه معصية أو استعماله و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 2، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة، الحديث 1 و رواه الصدوق و الشيخ. لاحظ جامع أحاديث الشيعة: ج 17، الباب 22 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 11، الباب 55 من أبواب جهاد النفس.

(3) 4 الوسائل: الجزء 8، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 259

إظهاره؟ الظاهر هو الثاني لما في خبر حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه التفكر في الوسوسة في الخلق، و الطيرة، و الحسد، إلّا أنّ المؤمن لا يستعمل حسده». «1»

المسألة الثامنة: في لُبس الحرير

لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختياراً محرّم كما بيّن في محلّه، و في النافع في باب ما يحرم به التكسّب: تزيين الرجل بما يحرم عليه، و الأوّل هو المتعيّن، لأنّ لبسه محرّم مطلقاً سواء كان للتزيين أم لا و مثله التختم بالذهب على النحو المذكور في كتاب الصلاة، باب لباس المصلّي.

المسألة التاسعة: في اتخاذ الحمام

اتّخاذ الحمام للانس و إنفاذ الكتب إلى غير ذلك من الدواعي المحلَّلة، جائز للأصل إنّما الكلام في اتّخاذها للّعب ففي خبر العلاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة من يلعب بالحمام؟ فقال: «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق. «2» إلّا إذا كان اللعب به منافياً للمروّة على القول باشتراط عدمه، أو موجباً لإيذاء الجيران إلى غير ذلك من اللوازم غير المحمودة التي يترتّب عليه أحياناً.

المسألة العاشرة: في شهادة أرباب الصنائع المكروهة

لا تردّ شهادة أحد من أرباب الصنائع المكروهة كالصياغة و بيع الأكفان و لا من أرباب الصنائع الدنية كالحجامة و الحياكة، بعد عدم كون عملهم محرّماً و كونها خلاف المروّة أوّل الكلام لأنّها تختلف حسب تشخّص الأفراد على أنّك عرفت أنّه لا دليل على اعتبار عدم ارتكاب خلافها بما هو هو إلّا إذا كان كاشفاً عن الخبل في العقل أو عدم الاستقامة في رعاية القوانين و السنن.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 11، الباب 55 من أبواب جهاد النفس، الحديث 8.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 54 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 260

الشرط السادس: ارتفاع التهمة

اشارة

تقدم أنّه يشترط في الشهود صفات سبع، و قد استوفينا الكلام في خمسة منها أي البلوغ و كمال العقل، و الإسلام و الإيمان، و العدالة فبقى اثنان منها و هما: 1 ارتفاع التهمة، 2 طهارة المولد. و إليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر.

أمّا الأوّل فقد اتّفق الأصحاب على شرطيته على وجه الإجمال و دلّت عليه الرّوايات، و لنذكر شيئاً من كلمات الفقهاء:

قال المفيد: «و لا تقبل شهادة الفاسق و لا ذي الضغن و الحسد، و العدوّ في الدّنيا و الخصم فيها و لا تُقْبَلُ شهادة المتهم و لا الظنين». «1»

و قال الشيخ في النهاية: «و لا يجوز قبول شهادة الظنين و المتهم و الخصم و الخائن و الأجير». «2»

و قال في الخلاف: «إذا كان بين رجلين عداوة ظاهرة مثل أن يقذف أحدهما صاحبَه أو قذف الرجلُ امرأته فانّه لا تُقبل شهادة أحدهما على الآخر، و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: تُقبل و لا تأثير للعداوة في ردّ الشهادة بحال. دليلنا ما روى طلحة بن

عبيد اللّه قال: أمر رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم منادياً فنادى لا تُقْبل شهادة خصم و لا ظنين و العدوّ منهم. (و في بعض النسخ متهم) و قال: لا تقبل شهادة الخائن و الخائنة و لا الزاني و لا الزانية و لا ذي غمز على أخيه، و ذو الغمز من كان في قلبه حقد أو بغض». «3»

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 726.

(2) الطوسي: النهاية: 325.

(3) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 43.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 261

و قال ابن البرّاج: فالعدالة معتبرة في صحة الشهادة على المسلم و تثبت في الإنسان بشروط: و هي البلوغ، و كمال العقل، و الحصول على ظاهر الإيمان، و الستر و العفاف و اجتناب القبائح و نفي الظِّنَّة و الحسد، و التهمة و العداوة. «1»

و قال ابن سعيد: «و لا تقبل شهادة المتّهم على من يتّهم عليه». «2»

إلى غير ذلك من الكلمات و أمّا الرّوايات فقد عبّرت عن التهمة بالظنين و المتهم، فتارة جمعت بينهما «3» و أُخرى فرّقت بينهما فاستخدمت المتهم دون الظنين «4» و ثالثة عكست. «5»

قال الفيّومي: الظِّنَّة بالكسر التهمة، و هي اسم من ظننته إذا اتهمته فهو ظنين «فعيل» بمعنى مفعول و في السبعة (وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (التكوير/ 24): بمتهم، و أظننتُ به الناس: عرّضته للتهمة. «6»

أقول: إنّ في قوله سبحانه: (وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) قراءتين فمن قرأه بالظاء أُخت الطاء فقد فسره ب «متّهم». و هو يتعدى إلى مفعول واحد يقال ظننتُه: اتهمته أي ليس فيما يخبر عن اللّه بكاذب فإنّ أحواله ناطقة بالصدق و من قرأ بالضاد أُخت الصاد، فقد فُسِّر

ب «بخيل» أي ليس: ببخيل فيما يؤدِّي عن اللّه أن يعلِّمه كما علّمه اللّه. «7» و لعل قوله سبحانه (وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ) (التكوير/ 25) يؤيّد المعنى الأوّل و من ذلك يعلم صحّة ما عن الصحاح من أنّ المراد من الظنين: المتهم. و عندئذ يكون اللفظان مترادفين.

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 556.

(2) ابن سعيد الحلّي، الجامع للشرائع: 539.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3،، 5، 6.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(6) القيومي: المصباح، مادة ظن.

(7) الطبرسي: مجمع البيان: 5/ 446، ط صيدا.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 262

إجابة عن سؤال

إذا كان اللفظان مترادفين فما وجه الجمع بينهما؟ و قد أجاب عنه صاحب الجواهر، بأنّ المراد من الظنين: هو المتهم في دينه بقرينة إدخال الخائن و الفاسق تحته في بعض الروايات «1» و عندئذ يكون المراد من المتهم هو المتهم في خصوص الواقعة «2» و على ضوء ما ذكره لا تقبل شهادة اثنين:

1- المتهم في دينه الذي ربّما لا يتورّعُ عن الكذب و الزور. 2 المتهم في خصوص الواقعة لعداوة دنيوية بين الشهود و المشهود عليه أو لكونه منتفعاً من الشهادة.

إجابة عن سؤال ثان

إذا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل و هو الفرق بين الظنين و المتهم، يتوجّه هنا سؤال ثان: و هو أنّه بعد اشتراط العدالة التي هي الشرط الخامس، فلا وجه لهذا الشرط السادس و ذلك لأنّه إذا أُريد من الظنين، هو الخائن و الفاسق، كما في بعض الروايات، فقد استغنينا عنه بالشرط الرابع أي كونه عادلًا فلا يجتمع العدل، مع الخيانة و الفسق.

و الجواب أنّ مراد الأصحاب من المتهم في المقام بعد اشتراط العدالة ليس المتهم في دينه بأن يكون إنساناً غير ملتزم بالأحكام الشرعيّة بل المراد، هو المتهم في نفس الواقعة اتهاماً، لا يناقض عدالته و هذا شرط تعبدي وراء العدالة، و الشارع الحكيم يريد أن يكون نظام القضاء في الإسلام، منزّهاً عن توهم أيّ انحياز في الشاهد و القاضي و عن أي وصمة ريب و شكّ و إيهام، فإذا كان الشاهد يجرّ

______________________________

(1) لاحظ الوسائل: الجزء 18، الحديث 1، 2، 3 من الباب 30 من أبواب الشهادات.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 61.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 263

بشهادته نفعاً و ربّما يكون صادقاً لا يقبل منه لكن لا لأجل

كونه مناقضاً للعدالة بل لأنّ الشارع أراد تنزيه نظام القضاء عن وصمة التحيّز حتى يطمئنّ المترافعان في مجلس القضاء.

و لكن لمّا كان مطلق الاتهام غير قادح في الشاهد لضرورة صحّة شهادة الزوج في حقّ الزوجة و بالعكس و الصديق في صديقه و الوالد في حقّ الولد، لم يُتخذ الاتهام ضابطة كلية للردّ بل اقتصروا بالموارد التي ورد فيها النصّ و إلّا فالشاهد المتهم داخل تحت حجيّة البيّنة العادلة.

يقول المحقّق الأردبيلي حول قول العلّامة: «السادس: ارتفاع التهمة و لها أسباب»: العدالة مانعة عن ردّ الشهادة و هي سبب لقبولها، و مجرّد التهمة و أيّة تهمة كانت ليست سبباً للرد فإنّ العدالة تمنع الخيانة و إن كان له فيها نفع. نعم التهمة في الجملة مانعة بالنص و الإجماع و ليس لها ضابطة و أشار إلى تحقيق ذلك بقوله: «و لها أسباب». «1»

و بالجملة لمّا كان مطلق التهمة غير قادح من جانب، و من جانب آخر، تضافرت النصوص و الإجماع على قادحيتها، حاول المحقّق و العلّامة و غيرهما إطراح كلّ مورد بخصوصه لعدم كون مطلق التهمة ضابطة كلية و ذلك في ضمن مسائل.

و إليك البحث في ضوء كلام المحقّق.
المسألة الأُولى: لا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً أو يستدفع ضرراً
اشارة

لا تقبل شهادة من يجرّ بها إلى نفسه نفعاً، أو يستدفع ضرراً و قد مثلوا لذلك بالأمثال التالية:

1- الشريك فيما هو شريك فيه.

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 383.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 264

2- صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه.

3- السيّد لعبده المأذون.

4- الوصي فيما هو وصيّ فيه.

و أضاف العلّامة مثالًا خامساً.

5- الوارث إذا شهد على جرح مورّثه قبل الاندمال.

6- العاقلة إذا جرح شهود جناية الصبيّ.

و لنأخذ بالبحث عنها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: منع شهادة الشريك في حقّ الشريك فيما هو شريك فيه

فقد استدلوا على عدم القبول بوجهين:

1- إنّ الشاهد عندئذ يكون مدّعياً، و لا يقبل قول المدّعي بلا بيّنة.

2- تضافر الروايات على عدم قبول شهادته و إليك ما ورد في المقام.

روى الصدوق بإسناده عن فضالة عن أبان بن عثمان قال: سُئل أبو عبد اللّه عليه السَّلام عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه قال: «تجوز شهادته إلّا في شي ء له فيه نصيب» و على هذا المتن فقد سمعه أبان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام و إن كان السائل غيره لكن الظاهر من نقل الشيخ أنّه مرسل حيث روى عن أبان عمن أخبره عن أبي عبد اللّه مثله «1» و لا تعارض و لعلّ الصدوق ظفر بالسند و لم يعثر عليه الشيخ.

ثمّ إنّ الكليني روى عن أبان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه (البصري) قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام، عن ثلاثة شركاء شهد اثنان عن واحد قال: «لا تجوز شهادتهما» 2 و ظاهر الحديث انّ واحداً من الشركاء ادّعى على شخص، و شهد

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 265

اثنان من الشركاء له، و الحديث ظاهر أو محمول على ما إذا كان مورد الادعاء و الشهادة، المالَ المشترك. و على ذلك فلا تعارض بينه و بين ما رواه الشيخ بنفس السند قال سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن ثلاثة شركاء ادّعى واحد و شهد اثنان، قال: «يجوز». «1» فإنّه محمول على ما إذا شهدا على شي ء ليس لهما فيه شركة، أو محمول على سقط لفظة «لا» من التهذيب و كم فيه من التصحيف.

و ربّما يستدل على عدم الجواز بخبر محمّد بن الصلت قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السَّلام عن رفقة كانوا في طريق فقطع عليهم الطريق و أخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض، قال: «لا تقبل شهادتهم إلّا بإقرار اللصوص أو شهادة من غيرهم عليهم». 2

و الحديث غير قابل للاحتجاج من وجوه:

1- إنّ محمّد بن الصلت من أصحاب الصادق عليه السَّلام على ما في رجال الشيخ و كنيته: «أبو العديس» و هو مجهول أو مهمل في كتب الرجال. لم يوصف بشي ء من الوثاقة و الضعف فكيف يحتج به؟!

2- إنّه من المحتمل أن يكون متعلّق الشهادة كونهم قطاع الطريق حتى يجري عليهم حكم اللّه الوارد في قوله سبحانه: (إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) (المائدة/ 33).

3- إنّ الرواية على فرض الاحتجاج مطلقة، تدل على عدم حجّية شهادة بعض أهل القافلة لبعض، سواء كان المشهود به المال المشترك أو لا. و الالتزام بالإطلاق أمر مشكل، لعدم الموجب لمنع الشهادة في غير المشترك، كما

إذا شهد

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 4، 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 266

أحد الغرماء، على عين أنّها لبعضهم، فإنّه عندئذ يكون بماله أولى من سائر الغرماء فلا يضربون معه فيها و المورد فيما إذا كان المشهود به غير مشترك، نظير هذا.

اللّهمّ إلّا أن يمنع الإطلاق، و تحمل الرواية على قافلة تجارية أغار عليها قطاع الطريق، و كان الرسم الدارج، مشاركة القافلة فيما يحملون من مال التجارة من نقطة كالحجاز إلى الشام أو بالعكس.

4- و يحتمل أن يكون المنع، لا لأجل الشركة بل لأجل العداوة، حيث إنّ قطاع أخافوهم و قطعوا الطريق عليهم، فأورث عملهم عداوةً عليهم في قلوب أهل القافلة فيخرج الحديث عن موضع البحث أي عدم قبول شهادة الشريك في حقّ الشريك الآخر.

ثمّ إنّ الأصحاب علّلوا عدم القبول في المقام بأنّ الشاهد لأجل جرّ النفع ينقلب مدّعياً مكان كونه شاهداً. و هو متين لكن ينبغي بيان أحكام صور:

أ: لو شهد بأنّ له نصفه، و بما أنّه شهد على سهم الشريك دون سهمه قال في الجواهر: «قُبل»، و لكن لو علم القاضي بأنّ المشهود به، مشاع بين الشاهد و المشهود له، لزمه الردّ، لأنّه يجرّ بها النفع لنفسه لأنّ النصف الثابت بالشهادة لأحد الشريكين، لا يختصّ به بل يبقى على مشاعه، كما ذكرناه في كتاب القضاء.

ب: و لو شهد أحد الشريكين للآخر، ليس له فيه نصيب بالفعل و لكنّه يرث المشهود له، إذا مات، كالولد للوالد، فظاهر مسند أو مرسل أبان هو الجواز لتخصيصه المنع «بماله فيه نصيب». «1»

ج: لو قال أنّ زيداً أتلف من عمرو أو استقرض منه أو

غصب منه كذا و كان المال مشتركاً بين الشاهد و المشهود له فلا يقبل في حصّته، و أمّا في حصة الشريك فظاهر الجواهر عدم القبول و لكن الظاهر القبول، للفرق بين العين و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 267

الدين فإنّ الشهادة على الأولى، في حصّة الشريك تجرّ النفع إلى الشاهد لأنّ النصف الثابت باسم سهم الشريك يكون مشاعاً أيضاً بخلاف الدين، فإذا تملّكه المشهود له، بفضل شهادة الشريك يختصّ له إذا دفعه المشهود عليه، بنيّة أنّه سهم المشهود له لما مرّ من سهم كلّ من الدُّيّان، يتعيّن بنيّة الدائن، نعم لو دفعه بما أنّه مال للشركة لكان لما ذكره وجه.

الثاني: صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه

إذا شهد صاحب الدين للمعسر المحجور عليه لفلس بعد الحجر له بأنّ له على زيد كذا و أنّ المال الفلاني له بحيث لو ثبت أنّه له يأخذ عوض دينه منه، إمّا الكلّ إن لم يكن له شريك و إلّا فبعضه من غير فرق بين كون المشهود به ديناً أو عيناً و ذلك لأنّ حجر الحاكم على المفلس يُسقط ذمّته عن الاعتبار و يكون متعلّق الديون، هو ما بقي من ماله بعد إخراج المستثنيات من الديون فلو ثبت بشهادته، أنّ تلك العين ماله أو أنّ له ديناً على ذمّة شخص، يتعلّق طلب الغرماء بالعين و الدين بالمباشرة لخروج ذمّته عن الاعتبار لدى العقلاء فلو قلنا بالثبوت يلزم انقلاب الشاهد مدّعياً.

و من هنا تبيّن الفرق بين المحجور عليه، و المديون المُعْسِر الذي لم يحكم عليه بالحجر، فبما أنّ لذمّة المعسر اعتباراً يتعلّق طلب الغرماء بذمّته غير أنّه ينظر إلى ميسرة، فإذا

شهد أحد الغرماء بأنّ له تلك العين أو أنّ له ديناً على آخر، لا يتعلّق بالمشهود به دين الغرماء فإنّ المسئول أمامهم، ذمّته، لا العين الخارجية و لا الدين الذي له على ذمّة آخر.

الثالث: السيّد لعبده المأذون

وجهه أنّ ما في يده لمولاه فينقلب الشاهد مدّعياً، و ينطبق عليه قوله: «في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 268

شي ء له فيه نصيب». «1» بخلاف العكس، فيجوز شهادة العبد لمولاه قال المفيد: «و تقبل شهادة العبيد لسادتهم إذا كانوا عدولًا». «2» و ليس مطلق التهمة مانعاً إلّا أن ينطبق عليه عنوان وحدة المدّعي و الشاهد، أو يرد فيه نصّ.

الرابع: الوصي في ما هو وصيّ فيه

إذا شهد الوصي بشي ء للميت، يدخل المشهود به تحت ولايته و إن لم يدخل تحت ملكه و قد اختلفت في المقام كلمة الأصحاب قال الشيخ: «و لا بأس بشهادة الوصي على من هو وصي له، و له، غير أنّ ما يشهد به عليه، يحتاج أن يكون معه غيره من أهل العدالة». «3»

و قال ابن البرّاج: «و شهادة الوصي لمن هو وصى له، و شهادته عليه إذا كان معه غيره من أهل العدالة» «4» و مع ذلك نرى أنّ المحقق منع جواز شهادته، مخصِّصاً المنع «فيما هو وصي فيه» «5» ليدخل في ولايته، و من الممكن حمل كلامهما على ما إذا كان المشهود به خارجاً عن ولايته، كما إذا عيّن للصرف في الوصايا عيناً أو نقداً و لم يكن المشهود به منهما فيرتفع الخلاف بين الكلمات. و تبعه الشهيد في الدروس فقال: «و الوصي في متعلّق وصيته، و غرماء المفلس و الميت و السيّد لعبده». «6»

أقول: وجه المنع فيما إذا كان للوصيّ الأُجرة على التصرف في المشهود به واضح، إنّما الكلام فيما إذا يشهد من دون أن يكون له فيه ولاية التصرف، أو معها و لكن بدون الأُجرة، ففيه التفصيل، فلو كان مدّعياً، فلا يكون شاهداً لبطلان وحدة المدّعي و الشاهد

و أمّا لو كان المدّعي غيره من سائر الورثة فالمنع عن نفوذ

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2) المفيد: المقنعة: 726، أي يشهد على ضرره و صالحه.

(3) الطوسي: النهاية: 326.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 556.

(5) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 129.

(6) محمّد المكي: الدروس: 2/ 128، الدرس 146.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 269

شهادته غير ظاهر مضافاً إلى مكاتبة الصفار إلى أبي محمّد عليه السَّلام: هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع: «إذا شهد معه آخر عدل، فعلى المدّعي يمين» «1» فإنّ المراد من الميت هو الموصي، و قوله: «فعلى المدّعي اليمين» دليل على أنّ المدّعي غير الوصي فينتج المنع إذا صار الوصي مدّعياً و شاهداً، و الجواز في غيره. و مثلها المكاتبة الثانية 2 حيث تشهد فيها «لوارث الميت»، فلا وجه لعدم القبول و إنّما أوجب اليمين على المدّعي، مع أنّ عليه البيّنة، ففيه وجوه محتملة:

1- إنّها للاستظهار لوجود التهمة، كما ورد في وصايا الإمام لشريح. 3

2- احتمال أن يكون المدّعى عليه أيضاً ميتاً، فيكون أيضاً للاستظهار لاحتمال أدائه الدين و تؤيده المكاتبة الثالثة: «أو تقبل شهادة الوصي على الميت مع شاهد آخر عدل فوقع: نعم من بعد يمين» فإنّ المراد من الميت المشهود عليه. 4

3- احتمال سقوط «و إلّا» بين قوله: «معه آخر عدل» و قوله: «فعلى المدّعي اليمين».

و الحاصل أنّ الأصل في البيّنة العادلة هو نفوذ شهادتها و منها الوصي، و لا يترك الأصل إلّا إذا انطبق عليه قوله: «إلّا في شي ء له فيه نصيب» أو عنوان المدّعي و في غير هذين الموردين تقبل و

منه تظهر حال الوكيل.

الخامس: إذا شهد الوارث بجرح مورّثه

إذا شهد أنّ زيداً جرح من يرثه، فلا يخلو إمّا أن يموت بهذا الجرح أو لا، فعلى الأوّل لا تقبل الشهادة لأنّه بمنزلة شهادة وارث الدم على القتل فإنّها شهادة

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 270

لنفسه.

نعم يمكن القبول في صورة خاصة و هو لو كان الميت، المجروح مديوناً يصرف دينه في دينه، فإنّ النفع يرجع إلى الديّان لا إلى الوارث.

و أمّا إذا لم يمت فلا وجه لعدم القبول لأنّ شهادته للمورِّث المجروح لا لنفسه.

السادس: العاقلة تجرح شهود جناية الصبي

من أسباب التهمة من ترد بشهادته ضرراً على نفسه و من هذا القبيل:

ما إذا اتُهِمَ الصبي بالجناية على رجل و شهدا اثنان على جنايته فالدية تتوجّه على العاقلة، فلو جرح شهود الجناية، لا يقبل منه لأنّه يستدفع بشهادته الضرر (الدية) عن نفسه.

إلى هنا تمّت الفروع الواردة في المسألة الأُولى لبيان موارد التهمة، و إليك الكلام في المسألة الثانية في هذا الصدد أيضاً.

المسألة الثانية: في العداوة المانعة عن قبول الشهادة

العداوة الدينيّة لا تمنع القبول، و إلّا يلزم منع شهادةِ المسلم على الكافر، و المؤمن على المخالف، لأنّ هذه العداوة لو لم تؤكد العدالة لا تخالفها إنّما الكلام في العداوة الدنيوية فقالَ المحقّق: إنّها تمنع سواء تضمّنت فسقاً أو لم تتضمن. فيقع الكلام في الموارد التالية:

1- إذا تضمّنت العداوة الفسق كما إذا قذف المشهودَ عليه أو ضربه أو اغتابه بلا سبب مبيح، فلا إشكال في المنع، لكنّه يرجع إلى فقدان الشرط الرابع أعني العدالة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 271

2 إذا لم تتضمّن الفسق، مثل ما إذا كانت العداوة بعد حصول ضرر أو أذى منه له، كما إذا ضربه أو شتمه، أو قتل من أرحامه، فإنّ القول بالمنع مع كونها نابعة عن سبب صالح، يحتاج إلى الدليل.

و قد استدل للمنع بما يلي:

أ: روى الصدوق عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السَّلام قال: «لا تقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين» «1»، و إسماعيل بن مسلم هو السكوني الذي كنيته «أبو زياد»، نعم روى الكليني بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام كان لا يقبل شهادة فحّاش و لا ذي مخزية في الدين. 2

و لو

قلنا بوحدة الروايتين، لأشكل الاستدلالُ به لتردّد الصادر بين قوله: «شهادة ذي شحناء» أو «فحّاش» و الاستدلال يتمُّ على الأوّل دون الثاني و يمكن القول بتعددها لأنّ الأُولى تروي قول الإمام عليه السَّلام و الثانية تروى فعله، و يمكن أن يكون محل الابتلاء هو الفحّاش دون ذي شحناء و على فرض صحة الاستدلال فهي منصرفة إلى القسم الأوّل الموجب للفسق لا ما إذا كان لها وجه صالح.

ب: روى الصدوق مرسلًا في معانيه: «و لا ذي غمز على أخيه» و قد فسره الصدوق بالشحناء و العداوة. 3

ج: و روى في حديث آخر، قال: لا تجوز شهادة المريب و الخصم. 4 و يحتمل أن يراد به العدو، كما يحتمل ضعيفاً أن يراد أحد المتخاصمين في المرافعة.

و على كلّ تقدير فبما أنّ حجّية البيّنة، لا تخصّص إلّا بالحجّة فالقدر المتيقن هو العداوة المورثة للفسق، لا ما إذا كانت نابعة عن أصل صالح طبيعي، على نحو

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 32، من أبواب الشهادات، الحديث 5، 1.

(2) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 32، من أبواب الشهادات، الحديث 8، 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 272

لا يختصّ بفرد دون فرد.

3- ثمّ إنّ المحقّق فسّر العداوة بأن يعلم من حال أحدهما السرور بمساءة الآخر و المساءة بسروره، لكنّه لو كان للتمني مبدأ صالح فطريّ كظلمه و شتمه، و ضربه، فلا وجه للمنع. نعم لو لم يكن له مبدأ صالح و إنّما كان نابعاً عن الحسد و نظيره، فهو داخل في المنع.

4- إذا كانت العداوة من جانب المشهود عليه، لا الشاهد، فلا وجه للمنع و القدر المتيقن، هو عداوة الشاهد، و

إلّا ليقع ذريعة لرد الشهادة الحقّة حيث تظهر العداوةَ لإسقاط نفوذ شهادة الآخر.

5- إذا شهد العدوّ، لعدوه قبلت أخذاً بإطلاق حجّية البيّنة و لأنّها في هذا المورد تؤكد صدقها.

6- لو شهد بعض الرفقاء لبعض، على القاطع عليهم الطريق قال المحقّق: تمنع لتحقّق التهمة. و الأصل في ذلك رواية محمّد بن الصلت: سألت أبا لحسن الرضا عليه السَّلام عن رفقة كانوا في طريق فقطع عليهم الطريق و أخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض، قال: «لا تقبل شهادتهم إلّا بإقرار من اللصوص أو شهادة من غيرهم عليهم». «1»

و قد مضى تحقيق الكلام في الحديث عند البحث عن شهادة الشريك و قلنا إنّ إطلاق حجّية البيّنة محكَّمة ما لم يدلّ دليل على خلافه، فلو قلنا بأنّ الحديث راجع إلى الشهادة بكونهم قطاع الطريق لأجل اجراء الحدّ،، فلا يصلح للاستدلال بها للمنع في باب الأموال و الحقوق، و إن قلنا برجوعه إليهما. فلو قلنا بأنّ سبب المنع هو الشركة فالقدر المتيقن ما إذا جرّ نفعاً، و إن قلنا بأنّ المانع هو العداوة، فالقدر المتيقن ما إذا أوجب فسقاً لا ما إذا كان له مبدأ صالح

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27، من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 273

عقلائي. و بذلك يعلم أنّ رمي صاحب الجواهر بعض هذه الاحتمالات بانّها اجتهاد في مقابلة النص غير ظاهر.

المسألة الثالثة: في أنّ النسب غير مانع عن قبول الشهادة
اشارة

قال المحقّق: «النسب و إن قرب لا يمنع قبول الشهادة، كالأب لولده و عليه، و الولد لوالده، و الأخ لأخيه و عليه، و في قبول شهادة الولد على والده خلاف و المنع أظهر. سواء شهد بمال، أو بحقّ متعلّق ببدنه كالقصاص، و الحدّ» كما لو شهد

الولد على سرقة الوالد أو قتله نفساً.

أقول: تضافرت الروايات و النصوص على عدم مانعية الرابطة النسبية عن نفوذ الشهادة كما تضافرت الفتاوى عليه، و لأجل عدم خلاف بين الأصحاب نقتصر بذكر الكلمات عن نقل الروايات التي نقلها الحرّ العاملي في وسائله.

اتّفق «1» الأصحاب على عدم كون النسب مانعاً إلّا أنّهم اختلفوا في مقامين:

المقام الأوّل: في جواز شهادة الولد على والده

1- قال المفيد: «تُقبل شهادة الوالد لولده و عليه، و تقبل شهادة الولد لوالده و لا تقبل شهادته عليه». «2»

2- و قال السيّد المرتضى: «و ممّا انفردت به الإمامية في هذه الأعصار و إن روى لهما وفاق قديم، القول: بجواز شهادات ذوي الأرحام و القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولًا من غير استثناء لأحد إلّا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمداً على خبر يرويه من أنّه لا يجوز شهادة الولد على الوالد و إن جازت شهادته له و يجوز شهادة الوالد لولده و عليه». «3»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 26 من أبواب الشهادات.

(2) المفيد: المقنعة: 726.

(3) السيّد المرتضى: الانتصار: 244.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 274

و يظهر ممّا ذكره الشيخ و الشريف المرتضى أنّ الرأي السائد لأهل السنّة، هو مانعية النسب على وجه الإطلاق إلّا لفيف منهم قال بالجواز.

3- قال الشيخ: تُقبل شهادة الوالد لولده و الولد لوالده، و تقبل شهادة الوالد على ولده، و لا تقبل شهادة الولد على والده، و به «1» قال عمر، و عمر بن عبد العزيز و المزني، و أبو ثور و إحدى الروايتين عن شريح و اختاره المُزني، و قال باقي الفقهاء أنّها لا تقبل ثمّ استدل على الجواز بعموم الآية (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) «2» و (أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ

مِنْكُمْ) «3».

ثمّ قال شهادة الولد على والده لا تقبل بحال. و قال الشافعي: إن تعلّق بالمال أو بما يجري مجرى المال كالدين و النكاح و الطلاق قبلتْ، و إن شهد عليه بما يتعلّق بالبدن كالقصاص و حدّ الفرية، فيه وجهان: أحدهما «تُقْبل» و الثاني و هو الأصحّ أنّها لا تقبل. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم فإنّهم لا يختلفون فيه. «4»

4- و قال الشيخ في النهاية: لا بأس بشهادة الوالدة لولده و عليه مع غيره من أهل الشهادة و لا بأس بشهادة الولد لوالده و لا يجوز شهادته عليه. و لا بأس بشهادة الأخ لأخيه و عليه. «5»

5- و قال الحلبي: و لا تقبل شهادة العبد على سيّده و لا الولد على والده بما ينكرانه و تقبل شهادتهما عليهما بعد الوفاة. «6»

6- و قال سلّار: و إن شهد والد لولده، و عليه قبل، و الولد تقبل شهادته لوالده و لا تقبل عليه. «7»

______________________________

(1) مرجع الضمير، قبول الشهادة في غير الأخير و أمّا الأخير أي شهادة الولد على الوالد فقد تعرض بها في المسألة الثانية.

(2) البقرة: 282.

(3) الطلاق: 2.

(4) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادة، المسألة: 4544.

(5) الطوسي: النهاية: 330.

(6) الحلبي: الكافي: 435.

(7) المراسم العلوية: 233.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 275

7- قال ابن البرّاج: و لا شهادة الولد على الوالد و لا العبد على سيّد. «1»

8- و قال ابن حمزة: الولد تقبل شهادته لأبيه و لا تقبل عليه. «2»

9- و قال ابن إدريس: لا بأس بشهادة الوالد لولده و عليه، مع غيره من أهل الشهادة و لا بأس بشهادة الولد لوالده و لا يجوز شهادته عليه و قال السيّد المرتضى: تجوز أيضاً

شهادته عليه و الأوّل هو المذهب و عليه العمل و الإجماع منعقد و لا اعتبار بخلاف من يعرف باسمه و نسبه. «3»

10 و قال العلّامة في الإرشاد: و كذا تقبل شهادة النسيب على نسيبة إلّا الولد على والده خاصة. «4»

1- 1 و قال ابن سعيد: «و تقبل شهادة ذوي النسب بعضهم لبعض، و عليهم إلّا شهادة الولد على والده فإنّها لا تقبل حيّاً و تقبل شهادته عليه بعد موته. «5»

2- 1 و ذكر العلّامة في مختلف الشيعة أنّه مختار ابني بابويه.

أقول: لا شكّ في أصل الحكم و عدم مانعية الرابطة النسبية إنّما الكلام في صحّة الاستثناء و هي تعتمد على الأُمور التالية:

أ: الشهرة الفتوائية تكشف عن وجود النصّ و إن لم يصل إلينا بعينه، و قد أشار الصدوق إلى ذلك النصّ بقوله: «و في خبر آخر أنّه لا تقبل شهادة الولد على والده». «6»

ب: قوله سبحانه: (وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً) (لقمان/ 15) بدعوى أنّ ردّ قول الوالد و تكذيبه يضادّ المصاحبة بالمعروف.

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 558.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 231.

(3) ابن إدريس: السرائر: 1/ 134.

(4) مجمع الفائدة، قسم المتن: 12/ 404.

(5) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 539.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 26، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 276

ج: هو نوع عقوق يمنع عن قبول الشهادة.

أقول: إنّ الشهرة الفتوائية لا تقبل الإنكار و لم يعلم الخلاف من السيّد، على نحو القطع و الجزم، لأنّه بصدد بيان أصل الحكم أي أنّ النسب لا يمنع عن جواز الشهادة إجمالًا و عند ذلك نسب الاستثناء إلى بعض علمائنا من دون تبيين لرأيه فيه. نعم فهم ابن إدريس كما مرّ من

كلامه، خلاف ما استظهرناه و أنّ شهادة الولد على الوالد نافذة عنده. و يظهر من العلّامة في الإرشاد، التردّد، و نقل التردد عن تحريره أيضاً، لكنّه في المختلف أفتى بمذهب المشهور «1» لكن الّذي يصدّنا عن الاعتماد على مثل تلك الشهرة أنّها مستندة إلى ما فهموه من ظاهر الكتاب و أنّ نفوذها على خلاف المصاحبة بالمعروف أو أنّه عقوق و من المعلوم عدم دلالته على ما راموه، فإنّ الآية بصدد بيان حكم المعاشرة بما هي هي، مع قطع النظر عن سائر الطوارئ كما إذا كانت في السكوت، إماتة للحقّ، و إحياء للباطل فهي غير ناظرة إلى هذه الصور.

و منه يظهر حال العقوق، فإنّ حرمتها سواء أ فسرت بالعصيان و ترك الشفقة و الإحسان و الاستخفاف أم بغيرها ناظر إلى الحياة العاديّة و لا حكومة لها على سائر الواجبات و المحرّمات، فلو كانت إطاعته سبحانه موجبة للعقوق، فلا عبرة بمثل ذلك العقوق قال سبحانه: (وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا) (لقمان/ 15).

و إن شئت قلت: إنّ ما دلّ على لزوم المصاحبة بالمعروف أو الاجتناب عن العقوق كدليل النذر و اليمين ناظر إلى ما هو مباح و حلال بالذات و أمّا المحرّم و الواجب، فلا يقلّبهما عما هو عليه، فلا يكون الحرام جائزاً إذا كان تركه على خلاف المصاحبة بالمعروف أو موجباً للعقوق كما لا يكون حلالًا بالنذر و اليمين، و مثل الحرام، الواجب فلا ينقلب عمّا هو عليه بهذه الطوارئ و العوارض.

______________________________

(1) العلّامة الحلّي: مختلف الشيعة، الفصل السابع في الشهادات: 168.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 277

هذا و أنّ دليل القول بجواز الشهادة

قويّ جدّاً، فانّه يعتمد:

على قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ) (النساء/ 135). فإنّه صريح في جواز الشهادة على الوالدين و التحريض على الشهادة دليل على قبولها و إلّا يكون لغواً.

و قد اتّفقت كلمة الأصحاب على قبول شهادة الولد على الوالدة و إنّما الخلاف في شهادته على الوالد.

و تؤيّد الجواز رواية علي بن سويد السائيّ عن أبي الحسن عليه السَّلام في حديث قال: كتب في رسالته إليّ: «سألتَ عن الشهادات لهم فأقم الشهادة للّه و لو على نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا» «1»، و الضيم هو الظلم.

المقام الثاني: في شهادة الزوج و الزوجة
اشارة

هذا هو المقام الثاني الذي أشرنا إليه فيما سبق، و قد تبيّن أنّ العلقة النسبيّة غير مانعة عن قبول الشّهادة إلّا في مورد واحد على رأي بعض الأصحاب و أمّا الرابطة السببية، فغير مانعة بالاتّفاق منّا و أمّا أهل السنّة فهم على طوائف ثلاثة بين قائلة بالجواز مطلقاً كالشافعي أو نافية مطلقاً، كأهل العراق، و مفصّلة بين شهادة الزوج لزوجته فتُقبل دون العكس. «2» إنّما الكلام بين أصحابنا في لزوم ضمّ عدل آخر، بحيث لولاه لما ترتّب الأثر على الشهادة مطلقاً و إن ضمّ إليها يمين، و عدم لزومه.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و رواه في الباب 19 عن داود بن الحصين برقم 3.

(2) ستوافيك نصوصهم عن كتاب الخلاف للشيخ الطوسي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 278

توضيحه: انّه قد تبيّن فيما سبق و ستوافيك، حجّيةُ شهادة العدل الواحد مع اليمين، في مورد المال و الحق.

كما أنّ من المحقّق في محلّه حجّية شهادة المرأة الواحدة في رُبع ميراث المُستهل، و في ربع الوصية. فعندئذ، لو قلنا بعدم لزوم ضمّ العدل الآخر في كلا المقامين، تكون شهادة الزوج و الزوجة كشهادة غيرهما، فيجري فيهما ما يجري في غيرهما فتكفي مع شهادة الزوج يمين المرأة، لكفاية العدل الواحد مع يمين المدّعي في غير مورد الزوجيّة أيضاً أو تكفي شهادة الزوجة وحدها لإثبات ربع الوصية لزوجها و لا عبرة بيمين الرجل المدّعي إذا كان الشاهد امرأة. و أمّا لو قلنا بلزوم الانضمام، تخرج شهادة الزوج و الزوجة عن الضابطين فلا تكفي في مورد شهادة الزوج، يمين زوجته، و لا تكفي شهادة الزوجة لإثبات رُبْع الوصيّة، لزوجها.

و أمّا كلمات الأصحاب فهي على ثلاثة أوجه:

أ: فمنهم من لم يشترط الانضمام و جعل شهادة أحد الزوجين كشهادة غيرهما من باب واحد، كالمفيد في المقنعة و الشيخ في الخلاف، و ابن إدريس في السرائر، و ابن سعيد في الجامع و هم بين من لم يذكر من الضميمة شيئاً كالشيخ في الخلاف، أو ذكره و لكن صرّح بكفاية يمين الزوجة كالمفيد في المقنعة و ابن إدريس في السرائر.

قال المفيد: تقبل شهادة الرجل لامرأته إذا كان عدلًا أو شهد معه آخر من العدول أو حلفت المرأة مع الشهادة لها في الديون و الأموال. «1»

و قال الشيخ في الخلاف: تُقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، و به قال الشافعي، و قال أهل العراق: لا تقبل، و قال النخعي و ابن أبي ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجته، و لا تقبل شهادة الزوجة لزوجها. «2»

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 726.

(2) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 49.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2،

ص: 279

3 و قال ابن إدريس بعد التصريح بجواز شهادة كلّ للآخر مع عدل آخر: و قولنا في جميع ذلك إذا كان معه غيره من أهل العدالة على ما أورده بعض أصحابنا و إلّا إذا لم يكن معه غيره تجوز أيضاً شهادته له، مع يمين المدّعي فيما يجوز قبول شهادة الشاهد الواحد مع اليمين. «1»

4- و قال ابن سعيد: و تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر و عليه. «2»

فترى أنّ الشيخ في الخلاف و ابن سعيد في الجامع لم يحدِّثا عن ضمّ العدل بشي ء، و لكن الشيخ المفيد و ابن إدريس و إن ذكرا ضمّ عدل آخر و لكن استدركوا بأنّه لا لخصوصية له، و إنّما هو لأجل إكمال البيّنة و إلّا فحيث تكفي شهادة الزوج وحدها يثبت المدّعى بيمين المدّعي (الزوجة).

ب: منهم من يشترط وجود عدل آخر في كلا الطرفين، في نفوذ الشهادة لا لإكمال البيّنة.

5- قال الشيخ في النهاية: و لا بأس بشهادة الرجل لامرأته و عليها إذا كان معه غيره من أهل العدالة، و لا بأس بشهادتها له، و عليه فيما يجوز قبول شهادة النساء إذا كان معها غيرها من أهل الشهادة. «3»

6- و قال ابن البرّاج: شهادة الزوج لزوجته و عليها، مع غيره من أهل العدالة. «4»

ترى أنّ العلمين يذكران العدل الآخر بعنوان القيدية لا لأجل إكمال البيّنة نعم اقتصر ابن البرّاج بذكر شهادة الزوج و لم يذكر الزوجة، و يعلم حكمها من اشتراط العدل في شهادة الزوج، بوجه أولى لأنّه إذا لم تكن شهادة الزوج نافذة

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 134 و حاصله أنّه إذا لم يكن معهما عدل آخر تقبل شهادة الزوج مع يمين المدّعي، دون الزوجة.

(2) ابن

سعيد: الجامع للشرائع: 539.

(3) الطوسي: النهاية: 330.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 557.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 280

وحدها بل مشروطة بضمّ العدل، فشهادة الزوجة له تكون مشروطة بطريق أولى

ج: و منهم من فصَّل بين شهادة الزوج فلم يعتبر و شهادة الزوجة فاعتبره.

7- قال المحقّق: «و كذا تقبل شهادة الزوج لزوجته، و الزوجة لزوجها، مع غيرها من أهل العدالة» «1».

ثمّ إنّ المحقّق علّل وجه التفصيل بقوله: «و لعلّ الفرق إنّما هو لاختصاص الزوج بمزيد القوة في المزاج من أن تجذبه دواعي الرغبة». قال: و تظهر الفائدة في الزوجة لو شهدت لزوجها في الوصية.

هذه كلمات الأصحاب و إليك النصوص:

1- صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال: «تجوز شهادة الرجل لامرأته. و المرأة لزوجها إذا كان معها غيرها». «2»

و في السند علي بن الحكم و أبو المعزاء و الأوّل مشترك بين الثقة و غيرها و تُميّز الثقة، برواية أحمد بن محمّد بن عيسى عنه كما في المقام. و الثاني هو حميد ابن المثنى الصيرفي الذي قال النجاشي في حقّه: «ثقة ثقة».

و أمّا الدلالة، فلو قلنا بأنّ الضمير في «معها» يرجع إلى الزوجة، يكون دليلًا على قول المحقّق المفصِّل بين الزوج و الزوجة، و لو قلنا برجوعه إلى الشهادة، المعلومة من القرينة، فيكون دليلًا على القول الثاني كما قيل و فيه تأمّل. و لكن الظاهر هو الأوّل بشهادة الموثقة الآتية.

2- موثقة سماعة قال: سألته عن شهادة الرجل لامرأته قال: «نعم» و المرأة لزوجها؟ قال: «لا إلّا أن يكون معها غيرها». «3»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 130.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18،

الباب 25 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 281

3 صحيح عمار بن مروان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام، أو قال: سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لامرأته قال: «إذا كان آخر جازت شهادته معه لامرأته». «1» و في بعض النسخ مكان «آخر»، «خيراً» و لكنّه لا يلائم مع قوله: «معه» و الرواية صحيحة و عمّار بن مروان هو اليشكري الذي وثّقه النجاشي مع أخيه عمرو و قال: «هو و أخوه عمرو ثقتان» و إذا كان نفوذ شهادة الزوج مشروطاً بعدل آخر لكان نفوذ شهادة الزوجة أيضاً مشروطاً به لعدم القول بالتفصيل بهذا المعنى فيكون الصحيح دليلًا على الاشتراط مطلقاً.

فتلخّص أنّ الأوّلين دالان على التفصيل الوارد في كلام المحقّق، و الثالث دالّ على القول الثاني أي الاشتراط مطلقاً و لم نجد دليلًا على القول الأوّل أي عدم الاشتراط مطلقاً، سوى إطلاق حجّية قول الشاهد مع يمينه، و إن كان الشاهد زوجاً أو إطلاق حجّية قول المرأة في إثبات ربع الوصية و إن كانت المرأة، زوجة المشهود له.

و يمكن أن يقال: إنّ الزوج و الزوجة في المقام سيّان لا فرق بينهما، و أنّ اشتراط ضمّ آخر إليها في صحيح الحلبي و موثقة سماعة، لأجل أنّه لو لا الانضمام، إلى شهادة الزوجة، لا يثبت بشهادتها شي ء، إلّا مورد نادر و هو إثبات ربع الوصية و لأجل ذلك اشترط ضم آخر إليها، و هذا بخلاف الزوج فإنّه تثبت بشهادته بلا ضمّ آخر، الأموال و الحقوق، إذا حلفت الزوجة، و هو في نفسه كثير، فلم يذكر في شهادة الزوج انضمام عدل آخر و على ذلك فالخبران ناظران إلى غير

باب الوصيّة، فحينئذ، صيانة شهادة الزوجة عن اللغوية (في غير الوصية) يتوقف على الانضمام، دون الرجل، فإنّه لو لم ينضمّ إليه عدل آخر، لما لزمت اللغويّة لكفاية شهادة الرجل في الحقوق و الأموال مع يمين المدّعي (الزوجة).

و لعل من شرط الانضمام في شهادتها كالطائفة الثانية و الثالثة يريدون ذلك

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 282

لا أنّه لا يثبت شي ء بشهادتها بلا ضم، حتّى ربع الوصية.

بقي الكلام في صحيح عمار بن مروان حيث يشترط الانضمام مطلقاً، و لعلّه ناظر إلى مجال أوسع من باب الحقوق و الأموال، و من المعلوم أنّه لا يثبت بشهادة الزوج و لو انضم إليها يمين المدّعي، كثير من الأُمور، إلّا أن يضم إليها عدل آخر أو امرأتان.

ثمّ إنّ المراد من قوله: «إذا كان معها غيرها» في صحيح الحلبي و الموثقة، ما يكفي في إثبات المطلوب، و عليه لا يكفي ضم امرأة عادلة أو رجل عادل، بل لا بدّ من ضمّ امرأة و رجل حتى تكتمل البيّنة، و هذا بخلاف المراد من الانضمام في ناحية الزوج فيكفي الرجل الواحد، أو الامرأتان.

ثمّ إنّ مورد الروايات كمورد شهادة الوالد أو الولد هو جواز شهادة أحد الزوجين لآخر، و يمكن إلحاق صورة الشهادة على أحدهما به و ادعاء الأولوية، لابتعادها عن التهمة و يمكن أن يتمسك في إثبات الجواز بإطلاق أدلّة حجّية شهادة العدل إذا تمّت شرائطها، كما لا يخفى.

شهادة الصديق لصديقه

و تقبل شهادة الصديق لصديقه و إن تأكدت بينهما الصحبة و الملاطفة، لأنّ المفروض عدالته و ليس مطلق التهمة مانعة، و منه يُعلم جواز شهادته عليه بالأولوية. و لشمول

أدلّة حجّية شهادة العدل لكلتا الصورتين.

المسألة الرابعة: في عدم نفوذ شهادة السائل

اتّفقت كلمة الأصحاب على عدم جواز شهادة السائل في الجملة، و إن اختلفوا في بعض مصاديقه:

و قبل أن نذكر كلمات الأصحاب، نذكر صوره المختلفة حتى نكون في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 283

دراسة الروايات على بصيرة.

إنّ الاستجداء و سؤال الناس له صور مختلفة:

أ: السائل بكفّه مع اتّخاذه حرفة و ربّما يملك معاش شهر أو سنة، و مع ذلك يستجدي كلّ يوم بكفه لأنّه اتّخذه حرفة.

ب: المستجدي بالدوران على الأبواب و الأسواق و الناس و ربّما يقنع بقليل من النقد و المتاع و شي ء من الخبز و يتخذه مهنة.

ج: من تدفعه الضرورة في الحياة إلى الاستجداء على وجه مؤقت، و ربّما يكون الداعي إليه، هو تأخير راتبه التي يصل إليه من بلده، أو طروء حادث قاصم، لا يقيم ظهره إلّا السؤال بالكف أو بالدوران.

د: من يسأل الناس و يطلب الإعانة بالمباشرة و بنفسه مع الوقار، و المذاكرة على نحو يحفظ شرفه و كرامته، و لا يريق ماء وجهه.

ه: من يسأل الناس لا بالمباشرة و بنفسه، بل يتوسط بعض الناس في جلب الأموال إليه سواء كان الإرسال بواسطة، أو بلا واسطة و إن كان لها دور في توجيه الناس إليه.

و: الطفيلي و هو من يحضر طعام الغير بلا دعوة.

هذه هي صور المسألة، و إليك نصوصَ الأصحاب، لدراسة تبيين سعتها لجميع الصور أو بعضها:

1- قال الشيخ: لا تجوز شهادة السائلين على أبواب الدور و في الأسواق، و تجوز شهادة ذوي الفقر و المسكنة المتجملين، الساترين لأحوالهم إذا حصل لهم شرائط العدالة. «1»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 326.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 284

2

و قال ابن البرّاج: و لا شهادة السائلين في الأسواق و لا على أبواب الدور. «1»

3- و قال ابن إدريس: قد روي أنّه لا تجوز شهادة السائلين على أبواب الدور و في الأسواق و إن كانت شرائط العدالة فيهم حاصلة، إلّا أنّ ذلك يختص بمن يكون ذلك عادتَه و صناعتَه، و يتخذ ذلك حرفة و صناعة و بضاعة فأمّا من أخرجته ضرورة مُجحفة في بعض الأحوال، فلا تردّ شهادتُه بحال لأنّه لا دليل على ذلك و قد أعطينا الرواية الواردة بذلك حقّها. «2»

و وافقه المحقّق و قال: و لو كان ذلك مع الضرورة نادراً لم يقدح في شهادته. «3»

5- و قال العلّامة بعد نقل كلام ابن إدريس: الوجه المنع. «4»

6- و استحسن الشهيد تفصيل المحقّق في المسالك. «5»

و أمّا الروايات فهي كما تلي:

1- صحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السَّلام قال: سألته عن السائل الذي يسأل بكفّه هل تقبل شهادته؟ فقال: «كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفّه» «6» و في سند الحديث «العمركي» و هو ابن علي البوفكي و «بوفك» قرية بنيسابور، وثّقه النجاشي.

2- موثق محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «ردّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم شهادة السائل الذي يسأل في كفّه» قال أبو جعفر عليه السَّلام: «لأنّه لا يُؤمن على الشهادة و

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 558.

(2) ابن إدريس: السرائر: 2/ 122.

(3) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 130.

(4) العلامة الحلي: مختلف الشيعة، كتاب القضاء: 166.

(5) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 452.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 35 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 2، ص: 285

ذلك لأنّه إن أُعطي رضي و إن مُنع سخط». «1»

و في السند ابن فضال و الظاهر أنّ المقصود هو والد الحسن بنعلي بن فضال بشهادة رواية ابن خالد عنه و في رواية الشيخ جاء التعليل جزء من كلام الرسول.

3- معتبر الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السَّلام قال: سألته عن السائل بكفّه أ تجوز شهادته؟ فقال: «كان أبي يقول: لا تقبل شهادة السائل بكفه». 2

لا شكّ في شمول الروايات، لمن يتخذ الاستجداء مهنة و حرفة سواء أ كان السؤال بالكف، أو بالدور على الأبواب و الناس، و الذوق الفقهي يساعد إلغاء خصوصية السؤال بالكف، كما لا شكّ في عدم شموله، لمن دفعته الضرورة إلى الاستجداء بكلا الطريقين على وجه لم يتخذه مهنة و إنّما اتخذه طريقاً لسدّ الجوع و صيانة الحياة.

إنّما الكلام في مَن يسأل الناس مباشرة و بنفسه، لكن مع حفظ الوقار و الكرامة و اختار الشهيد الثاني دخوله فيها، قائلًا بأنّ المراد بالسائل بكفّه، من يباشر السؤالَ و الأخذَ بنفسه و السؤال في الكفّ كناية عنه. 3

و لكن الظاهر عدم دخوله فيها للفرق الواضح بين الأوّلين و هذا القسم، ففيهما يصدق قوله عليه السَّلام: «إنّه لا يؤمَنُ على الشهادة و ذلك لأنّه إن أعطي رضي و إن منع سخط» و التعليل و إن لم يكن من قبيل ملاكات الأحكام و مناطاته بل من قبيل الحِكَم و النكات، لكنّه يصلح لأن يكون سبباً لانصراف الروايات عن القسم الرابع لعدم وجوده فيه. و إنّما يوجد بوجه غالبي في القسمين الأوّلين.

و منه يظهر حال القسم الخامس و عدم دخوله تحت الروايات، و أمّا الطفيلي

______________________________

(1)

1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 35 من أبواب الشهادة، الحديث 2، 3.

(2) 3 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 452.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 286

فهو خارج عن موردها و إلحاقه بها، أشبه بالقياس إلّا إذا اتخذه حرفة و مهنة و يرصد كلّ يوم و ليلة، الضيافات، حتى يدخل في زمرة المدعوين و هذا أيضاً لو سُمِحَ له بالدخول يرضى و إن مُنِعَ سخط.

ثمّ إنّ السؤال و الاستجداء إذا تضمّن كذباً أو تدليساً، فهو حرام موجب للفسق، و إلّا فلا دليل على حرمته سوى كونه موجباً لإراقة ماء الوجه و هدم الكرامة الإنسانية و لعلّه كاف في حرمته و إيجاد الفسق، و قد ورد في الحديث أنّ اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شي ء إلّا إذلال نفسه ... «1» قال سبحانه (لِلْفُقَرٰاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لٰا يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة/ 273).

فلو قلنا بأنّ القيد احترازي و أنّ معنى الآية: هؤلاء الّذي أُحصروا في سبيل الحقّ، لا يسألون الناس إلحافاً و إنّما يسألونهم بلا إلحاف و إصرار، فيكون دليلًا على عدم كون السؤال مذموماً للفقير الواقعي إذا كان مجرداً عن الإصرار و أمّا لو قلنا بأنّ القيد ناظر إلى بيان حال نوع الفقراء حيث يسألون الناس إلحافاً و إصراراً، و معنى الآية أنّ هؤلاء المحصورين ليسوا من هذه الطبقة، فيكون معنى الآية أنّهم لا يسألون أبداً و إن كان النبيّ يعرفهم بسيماهم و بعلامة موجودة في وجوههم، فتكون الآية دليلًا على ذمّ السؤال مطلقاً و

إن كان مع الإصرار أشدّ. إلّا إذا وجب لحفظ الحياة فيرتفع الذمّ.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 286

المسألة الخامسة: في شهادة الضيف و الأجير
اشارة

اتّفقت كلمة الأصحاب على أنّه تجوز شهادة الضيف للمضيِّف و عليه،

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 11، الباب 12 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 287

مثل اتّفاقهم على جواز شهادة الأجير على الموجر، و إنّما اختلفت في جواز شهادته للموجر على قولين فالمشهور من عصر والد الصدوق الّذي توفي عام 329 و ولده المتوفى عام 381 إلى عصر ابن حمزة صاحب الوسيلة الذي توفي حوالي عام 550 هو عدم الجواز تمسكاً بنصوص ستة دالّة على المنع و أوّل من خالفهم و أفتى بجوازها هو ابن إدريس (598543) و تبعه المحقّق (676602) و العلّامة في كتابيه: الإرشاد و المختلف، و الشهيد الثاني و المحقّق الأردبيلي، فأصبحت المسألة ذات قولين أحدهما للقدماء و الآخر للمتأخرين إلّا ابن سعيد فإنّه وافق القدماء كما سيوافيك و الكلّ يستمدّ من الدليل النقلي و مورد الخلاف فيما إذا تحمّل الشهادة و أدّاها و هو بعدُ لم يفارقه و أمّا إذا أدّى بعد مفارقته الموجرَ، فلا خلاف فيه. ثمّ إنّ الخلاف في الأجير و الموجر، لا في الموجر و المستأجر و إليك نقل كلماتهم:

1- قال الشيخ: و من أشهد أجيراً له على شهادة ثمّ فارقه، جازت شهادته له، و تجوز شهادته عليه و إن لم يفارقه، و لا بأس بشهادة الضيف إذا كان من أهلها. «1»

2- و قال

أبو الصلاح الحلبي: و لا تقبل شهادة الشريك فيه و لا الأجير لمستأجره. «2»

3- و قال ابن البرّاج: شهادة الأجير على مستأجره سواء كان مقيماً معه أو كان قد فارقه، و شهادته له بعد مفارقته. «3»

4- و قال ابن حمزة: لا تقبل شهادة خمسة نفر ... و الأجير إذا شهد لمستأجره ما دام معه. «4»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 327.

(2) الحلبي: الكافي: 436 و المراد من المستأجر، هو الموجر فلا تغفل.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 556.

(4) ابن حمزة: الوسيلة: 230.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 288

5 و أوّل من خالف الرأي العام، هو ابن إدريس فقال:

و لا شهادة الخصم و الخائن و قال شيخنا «و الأجير» و هذا خبر واحد لا يُلْتفت إليه و لا يُعرّج عليه بل شهادة الأجير مقبولة سواء كانت على من استأجره أو له، و سواء فارقه أم لم يفارقه لأنّ أُصول المذهب تقتضي قبول هذه الشهادة و هو قوله تعالى: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) و (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و لا مانع يمنع من قبول شهادته و هذا عدل فينبغي أن تُقْبَلَ شهادتُه فلأنّه لا يَجرُّ بشهادته إليه نفعاً و لا يدفع عنه ضرراً و لا يعرف بشي ء من أسباب الفسق، و لا دليل على ردّ شهادته من كتاب و لا سنة مقطوع بها و لا إجماع إلى أن قال: و لا بأس بشهادة الضيف إذا كان من أهلها. «1»

6- و قال المحقّق: تقبل شهادة الأجير و الضيف و إن كان له ميل إلى المشهود له لكن يرفع التهمة تمسكهما بالأمانة. «2»

7- و قال ابن سعيد: و تقبل شهادة أحد الزوجين

للآخر ... و الأجير على مستأجره و له بعد مفارقته. «3» و مفهومه عدم الجواز إذا لم يفارق و هو موافق لفتوى القدماء كما عرفت.

8- و قال العلّامة: و تقبل شهادة الأجير و الضيف. «4»

9- و قال في المختلف: و الوجه عندي أنّ شهادته إن تضمنت تهمة أو جرّ نفع لم تقبل و عليه تحمل الروايات المانعة. 5

10 و قال الشهيد الثاني: إنّ القول بالقبول أجود. 6

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 123121.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 130.

(3) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 539.

(4) 4 و 5 ابن المطهر الحلي: إرشاد الأذهان: 2/ 158 و مختلف الشيعة، كتاب القضاء: 166.

(5) 6 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 452.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 289

11- و قال المحقّق الأردبيلي بعد المناقشة في سند الروايات المانعة و دلالتها: و لكن عموم أدلة القبول و الجواز كثيرة و ليس في المنع شي ء عن صحيح صريح، فالمصير إليه و تخصيص الأدلّة مشكل. «1»

أقول: إنّ مقتضى القواعد العامة هو القبول، و الردّ يحتاج إلى الدليل، إذ يكفي في الجواز الآيتان المباركتان و عموم أدلّة حجّية البيّنة و ما جاء في رواية مسعدة بن صدقة، «و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» «2» إنّما المهم دراسة أدلة القائلين بالمنع، و إليك سردها:

1- موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً» قال: «و يكره شهادة الأجير لصاحبه، و لا بأس بشهادته لغيره و لا بأس به له بعد مفارقته». «3»

يلاحظ عليه: أنّ الحديث كسيف ذي حدَّين، صالح للاستدلال لكلا القولين، أمّا

الجواز، فلظهور لفظ الكراهة فيه و أنّها ليست ممنوعة منعاً باتّاً، مضافاً إلى أنّ مفهوم قوله: «و لا بأس به له بعد مفارقته» وجود البأس قبل مفارقته و هو يعادل الكراهة لا الحرمة، و أمّا المنع، فلما ذكره الأردبيلي من أنّ الكراهة المصطلحة هنا بعيدة إذ لو كانت الشهادة مقبولة، ينبغي وجوبها عيناً مع الغير و إلّا كفاية «4» و بعبارة أُخرى أنّ مورد الشهادة هو الحقوق و الأموال، فلو كانت الشهادة جامعة الشرائط، يجب القبول، و إلّا فيحرم، و لا تتوسط الكراهة بينهما في مورد الشهادة، من غير فرق بين الأداء و القبول.

2- صحيح صفوان عن أبي الحسن عليه السَّلام قال: سألته عن رجل أشهد أجيره

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 409.

(2) الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(4) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 408.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 290

على شهادة ثمّ فارقه أ تجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: «نعم و كذلك العبد إذا أعتق جازت شهادته». «1»

أقول: إنّ القيد جاء في كلام الراوي و ثبوت الحكم للموضوع المقيّد في لسانه لا يكون دليلًا على عدمه عند انتفاء القيد. اللّهمّ إلّا أن تستظهر مدخليته في الحكم من تكراره في لسان الإمام في العبد الذي عطفه الإمام عليه مع هذا القيد و إن لم يسأله الراوي عنه.

3- موثق سماعة قال: سألته عمّا يرد من الشهود، قال:: المريب، و الخصم، و الشريك و دافع مغرم، و الأجير و العبد و التابع و المتهم، كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم». «2» و في السند «الحسن» و هو

الحسن بن علي بن زياد الوشاء، و هو من الطبقة السادسة الذي يروي عنه الحسين بن سعيد الأهوازي و هو من الطبقة السابعة و الحديث موثق. و قد جاء الأجير مقابل التابع، و لعلّ المراد من الثاني خادم البيت و هذه الروايات الثلاث صالحة للاحتجاج سنداً و مضموناً، و أمّا الثلاث الآتية فلا تصلح إلّا للتأييد.

4- خبر العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السَّلام لا يجيز شهادة الأجير». «3» و هو ضعيف السند، و المحكيّ عمل الإمام لا قوله فلا يؤخذ بإطلاقه، إلّا يستظهر أنّ ملاك المنع هو كونه أجيراً فقط، لا كونه جارّاً لنفسه النفع أو دافعاً عن نفسه الضرر.

5- روى الصدوق مرسلًا في الفقيه: و قال في حديث آخر قال: لا تجوز شهادة المريب و الخصم و دافع مغرم أو أجير أو شريك أو متهم أو تابع. «4»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 291

6 و روى أيضاً مرسلًا في معاني الأخبار قال: «قال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا تجوز شهادة خائن ... و لا التابع من أهل البيت» «1» و فسره الصدوق بالخادم و التابع و الأجير.

و الحديثان الأخيران ضعيفان للإرسال و الأحاديث التي يمكن الاحتجاج بها هي الثلاثة الأُوَل و لعلّها كافية، فما ذهب إليه القدماء أقوى و لكن المتأخرين القائلين بالجواز أوّلوا الروايات المانعة

بالنحو التالي:

1- الممنوع هو الإشهاد و أمّا إذا تحمّل مع المنع تجوز شهادته و يؤيده أنّ الوارد في صحيح صفوان، هو الإشهاد قال: سألته عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثمّ فارقه أ تجوز شهادته له بعد أن يفارقه. «2»

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ القيد في لسان الراوي، لا الإمام، و قد أتى به مقدمة للسؤال عن حكم نفس الشهادة على أنّه لا يساعده لسان سائر الروايات، فانّ المطلوب فيها هو بيان حكم الشهادة، و أدائها لا الإشهاد و التحمّل.

2- حمل المنع على الكراهة، و لكنّه لا تساعده موثقة سماعة لأنّه ورد الأجير فيها في عداد الشريك و دافع مغرم، و لا يمكن حمل النهي فيهما على الكراهة و المرجوحية على أنّك عرفت أنّه لا معنى للمرجوحية.

3- حمل المنع على ما إذا كانت هناك تهمة كجلب نفع أو دفع ضرر كما لو شهد بدفع الثوب لمن استأجره على قصارته أو خياطته.

يلاحظ عليه: أنّ الردّ يكون عندئذ أمراً استثنائياً و عندئذ يطرح السؤال التالي و هو إذا كان الأصل هو القبول، فلما ذا ذكر عدمه بصورة الضابطة؟

4- المراد هو الخادم الذي يوجر جميع منافعه، كما فسر به الصدوق، بقرينة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 8 و لاحظ الفقيه: 3/ 25 ط النجف و معاني الأخبار، باب التابع و المعترّ: 208 ط الغفاري.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 292

قوله: «فارقه» فيكون الدليل أخصّ من المدّعى، و لا يدلّ على ردّ شهادة كلّ أجير و إن كان أجيراً يوماً أو يومين و شهد.

و الذي تسكن إليه النفس هو

الأخذ بالمنع، غير أنّه إذا أعاد الشهادة بعد المفارقة، تقبل قطعاً، كما سيوافيك في مبحث اللواحق.

بحث في اللواحق
الأولى: هل يشترط كون الشاهد جامعاً لشرائط القبول حين تحمل الشهادة،

أو يكفي كونه كذلك حين التأدية فتظهر الثمرة في الصغير و الكافر، و الفاسق المعلن إذا عَرفوا شيئاً و تحمّلوه و هم في تلك الحال المانعة من القبول ثمّ زال المانع عنهم فأقاموا ما تحملوه. التحقيق هو الثاني و ذلك بوجهين:

1- عموم الأدلة، فإنّهم عند التأدية من مصاديق البيّنة العادلة.

2- الروايات الخاصّة المتضافرة الدالّة على قبول شهادة الذمي و اليهودي و النصراني بعد ما أسلموا و إن تحمّلوا في حال كفرهم «1» و لا يعادله ما في صحيح جميل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن نصراني أُشهد على شهادة ثمّ أسلم بعدُ أ تجوز شهادته؟ قال: «لا، و يحمل على الإسلام المجرّد من الاقتران بالعدالة».

و ما ورد في قبول شهادة الصبيان إذا تحملوا قبل البلوغ و أدّوا بعده. «2»

و لو شهد العبد على مولاه فرُدَّت ثمّ أعادها بعد زوال المانع أو شهد الولد على الوالد و رُدّت ثمّ مات الأب و أعادها، فمقتضى الضابطة، الأخذ بمقتضى الإطلاقات و قد أشار إليه الشيخ في خلافه و نقل الأقوال و قال: إذا شهد صبي أو عبد أو كافر عند الحاكم فردّ شهادتهم ثمّ بلغ الصبي و أعتق العبد و أسلم الكافر

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 39 من أبواب الشهادات، الحديث 71.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب الشهادات، الحديث 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 293

فأعادوها قُبِلتْ، و كذلك إن شهد بالغ مسلم حرّ بشهادة فبحث عن حاله فبان فاسقاً ثمّ عُدِّل فأقامها بعينها قُبِلَتْ منه و حكم بها و به قال

داود، و أبو ثور، و المزني و قال مالك: أردّ الكل، و قال أهل العراق و الشافعي: أقبل الكلّ إلّا الفاسق الحرّ البالغ فإنّه إذا ردّت شهادته لفسقه ثمّ أعادها و هو عدل لا تقبل شهادته، دليلنا: كلّ ظاهر ورد بقبول شهادة العدل فإنّها محمولة على عمومها. «1»

نعم ورد في رواية السكوني، تقييد جواز شهادة العبد، بعدم سبق الردِّ روى عن علي عليه السَّلام: «و العبد إذا شهد بشهادة ثمّ أعتق جازت شهادته إذا لم يردها الحاكم قبل أن يعتق»، و قال علي عليه السَّلام: «و إن أعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته». «2»

و لعلّ عدم القبول لأجل أنّ ردّ الحاكم كان لفسقه لا لكونه عبداً، فلو عُتق مع بقاء الحال لا يُقبل.

و أمّا ما روي عن عليّ عليه السَّلام، فظاهر فيما إذا كان العتق لأجل الشهادة، فيكون الردّ لأجل التهمة.

و أمّا الفاسق، فهو على قسمين: معلن و مستتر، فلا شكّ في قبول شهادة الأوّل بعد التوبة و الصلاح، و إن رُدّتْ في حال الفسق إنّما الكلام في المستتر إذا قام فردّت بجرحه ممّن له خبرة بباطن أمره ثمّ تاب، فإن شهد بأمر جديد فتُقبل و أمّا لو أعاد ما رُدَّت فربّما يستشكل قبول شهادته لأجل تهمة الحرص على رفع الشبهة عنه لاهتمامه بإصلاح الظاهر و دفع العار عنه بخلاف المتجاهر بالفسق و الكفر، و لكنّه شبهة في مقابل الإطلاقات و العمومات، فلا يعتد بها كما ذكره المحقّق.

الثانية: المعتبر في قبول شهادة الشاهد مع استجماعه للصفات المعتبرة فيه علمه بما يشهد به،
اشارة

سواء كان سببُ العلم استدعاءَ المشهود له و عليه للإشهاد، أم اتّفاق علمه بالواقعة لاشتراك الجميع في المقتضي و هو العلم و تترتب عليه

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 60.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 23

من أبواب الشهادات، الحديث 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 294

صحّة الشهادة في المواضع التالية:

1- إذا سمع الإقرار من المقرِّ بلا استدعاء من الطرفين أو الطرف الواحد، و ما هذا إلّا لأنّ الأمر بالإشهاد في الآية، أمر إرشادي، و أمّا أنّه هل تجب عليه الإجابة إذا دعي أو لا؟ فسيجي ء تحقيقه.

2- لو سمع اثنان يوقعان عقداً كالبيع و الإجارة و النكاح.

3- إذا شاهد الغصب أو الجناية.

4- إذا سمع منهما ما يوجب حكماً و إن قال الغريمان أو أحدهما لا تشهد عليهما.

إنّما الكلام في الصورة الخامسة أي إذا استتر فنطق المشهود عليه مسترسلًا فالمشهور عند علمائنا هو قبولها و خالف ابن الجنيد و سيوافيك نقل كلامه عن غاية المراد.

قال الشيخ في الخلاف: شهادة المختبي مقبولة و هو إذا كان على رجل دين يعترف به سرّاً و يجحده جهراً، فخبأ له صاحب الدين شاهدين يريانه و لا يراهما ثمّ حاوره الحديث فاعترف به فسمعاه و شاهداه، صحّت الشهادة و به قال ابن أبي ليلى، و أبو حنيفة، و عمرو بن حريث القاضي و الشافعي، و ذهب شريح إلى أنّها غير مقبولة، و به قال النخعي و الشعبي. و قال مالك: إن كان المشهود عليه جلَداً قبلت و إن كان مغفَّلًا يُخْدَع مثله لم أقبلها عليه. دليلنا ما قلناه في المسألة الأُولى «1» و أيضاً قوله تعالى: (إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) «2» و هذا شهد بالحق لأنّه علمه. «3»

______________________________

(1) قال في المسألة المتقدمة: إذا شهد صبي ... ثمّ بلغ و شهد يقبل لأنّ كلّ ظاهر ورد بقبول شهادة العدل فإنّها محمولة على عمومها.

(2) الزخرف: 86.

(3) الخلاف، ج 3، كتاب الشهادات،

المسألة 61.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 295

قال ابن إدريس: إذا سمع الشاهد رجلًا يقرّ بدين، فيقول: لفلان عليّ ألف درهم، صار السامع به شاهداً بالدين، قال المقرّ اشهدوا عليّ بذلك أو لم يقل، و كذلك إذا شاهد رجلين تعاقدا عقداً، كالبيع، و الصلح و الإجارة و النكاح، و غير ذلك، و سمع كلام العقد، صار شاهداً بذلك، و كذلك الأفعال، كالغصب، و القتل، و الإتلاف، يصير به شاهداً، و كذلك إذا كان بين رجلين خلف في حساب، فحضرا بين يدي شاهدين و قالا لهما قد حضرنا لنتصادق، فلا تحفظا علينا ما يقرّ به كلّ واحد منّا لصاحبه، ثمّ حصل من كلّ واحد منهما إقرار لصاحبه بالدين، صارا شاهدين، و لا يلتفت إلى تلك المواعدة، لأنّ الشاهد بالحقّ، من علم به، فمتى علم له صار شاهداً.

فأمّا شهادة المختبي فمقبولة عندنا، و هو إذا كان على رجل دين، يعترف به سرّاً و يجحده جهراً، فاحتالَ صاحبُ الدين، فخبأ له شاهدين، يسمعانه، و لا يراهما، ثمّ جاراه، فاعترف به، و سمعاه، و شهدا به، صحّت الشهادة عندنا، و خالف في ذلك شريح فقط. «1»

و عن غاية المراد عن ابن الجنيد المنع حيث قال: «أو كان من خدع فسُتِر عنه لم يكن له أن يشهد عليه» ثمّ ردّ عليه أنّه سبقه الإجماع أو تأخر عنه.

و قال في الجواهر بعد نقل كلام غاية المراد: و هذا هو العمدة. «2»

و أورد عليه بأنّ هذه الشهادة في إيثار التهمة ليس بأقل من التبرع بالشهادة في حقوق الآدميين قبل السؤال في الحاكم في مجلس الحكومة، فإذا كانت الثانية مردودة فلتكن الأُولى كذلك.

يلاحظ عليه: ما ذكرنا من أنّ

مطلق التهمة ليس بمانع و إلّا يلزم ردّ غالب الشهادات و إنّما المانع ما ورد فيه النص بالخصوص أو قام على ردّه الإجماع كما هو

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 121120.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 100.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 296

المدّعي في باب التبرّع، و ليس المقام من أحدهما، على أنّ الداعي لتحمّل الشهادة بهذا النحو ربّما يكون باستدعاء من صاحب الحقّ على وجه يشقّ عليه ردّه، و ليس مثل هذا دليلًا على الحرص للشهادة.

حكم إقامة الشهادة بلا إشهاد
اشارة

إذا تحمّل الشهادة بلا استدعاء من المشهود له و عليه، فهل تجب عليه الإقامة إذا دُعي إليها أو لا بعد الاتفاق على وجوبه إذا شهد بالاستدعاء، قال سبحانه: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 283).

و لنذكر كلمات الأصحاب:

1- قال ابن الجنيد (ت 381): و إذا حضر الإنسان حساب اثنين فأقرّ أحدهما لآخر سبباً ثمّ جحده إيّاه فاحتيج إلى شهادة الحاضر كان ذلك إلى الشاهد إن شاء حكى ما حضر من غير أن يُثبتَ الشهادة و إن شاء تأخّر لأنّ صاحب الحقّ لم «يستر» عنه الشهادة. «1»

2- قال الشيخ: و من علم شيئاً من الأشياء و لم يكن قد أُشهد عليه ثمّ دُعي إلى أن يشهد كان بالخيار في إقامتها و في الامتناع منها اللّهمّ إلّا أن يعلم أنّه إن لم يُقمها بطلَ حقُّ مؤمن فحينئذ تجب عليه إقامة الشهادة. «2»

3- قال أبو الصلاح: هو مخيّر فيما يسمعه و يشاهده بين تحمّله و إقامته و تركهما. «3»

______________________________

(1) ابن الجنيد: مختلف الشيعة، كتاب الشهادات،، 173، و لعلّ الصحيح «لم يطلب منه».

(2) الطوسي: النهاية، كتاب الشهادات، 330.

(3) الحلبي:

الكافي: 436.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 297

4- و قال ابن البرّاج: إذا علم شيئاً و لم يكن قد أُشهد عليه ثمّ دُعي إلى الشهادة بذلك، كان مخيّراً بين أن يقيمها و بين أن لا يقيمها، فإن علم أنّه متى لم يُقِمْها بطل حقُّ مؤمن وجب عليه إقامتها. «1»

5- و قال ابن حمزة: فإذا شاهد شيئاً من ذلك و علم حقيقته فقد تحمل شهادته و جاز له إقامة الشهادة على حسب ما شاهد و قد تجب إقامتها إذا أدّى الامتناع منها إلى ضياع حقّ من حقوق المسلمين. «2»

6- و قال ابن إدريس: و متى علم شيئاً من الأشياء و لم يكن قد أُشهد عليه ثمّ دُعي إلى أن يشهد فالواجب عليه الأداء لقوله تعالى: (وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة/ 283) و لا يكون بالخيار في إقامتها. «3»

و لمّا كان ظاهر عبارة ابن إدريس موهماً للخلاف و الردّ على الشيخ، حاول العلّامة في المختلف أن يزيل الوهم و أنّه ليس اختلاف بين ابن إدريس و الآخرين قال: و التحقيق أنّه لا نزاع في المعنى هنا لأنّ الشيخ قصدَ بالجواز و الخيار من حيث إنّه فرض كفايةً يجوز تركه، إذا قام غيره مقامه، و لهذا إذا لم يُقم غيره مقامه، و خاف لحوقَ ضرر بإبطال الحقّ وجب عليه إقامة الشهادة فإن قصد ابن إدريس الوجوب هنا عيناً فهو ممنوع. نعم في الحقيقة لا يبقى فرق بين أن يشهد من غير استدعاء و بين أن يشهد معه. «4»

و أمّا المنصوص فهي على أقسام ثلاثة:
أ: ما يدلّ على أنّ الشاهد بالخيار و إن دُعي

و هو ما يلي:

1- صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «إذا سمع الرجل

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 561.

(2)

ابن حمزة: الوسيلة: 232.

(3) ابن إدريس: السرائر: 2/ 132.

(4) ابن المطهّر الحلي: مختلف الشيعة، كتاب الشهادات، 173 و الظاهر أنّ المقصود من «هنا» هو الصورة الأُولى أي إذا قام مقامه شخص آخر، و إلا فالوجوب في غير هذه الصورة ليس ممنوعاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 298

الشهادة و لم يُشهَد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت».

و الظاهر أنّ لمحمّد بن مسلم رواية واحدة رواها الكليني تارة عن ابن محبوب عن العلاء بن رزين عن ابن مسلم عن أبي جعفر، و أُخرى عن صفوان بن يحيى عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام و ثالثة عن ابن فضال عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السَّلام، و على ذلك فتتحد الروايات الثلاث. «1» غير أنّ الأخيرة تشمل على قيد، سقط من الأوّلين و هو قوله: «إلّا إذا علم من الظالم و لا يحلّ له إلّا أن يشهد».

2- خبر محمّد بن مسلم «2» قال: سألت أبا جعفر عليه السَّلام عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما قال: «ذلك إليه إن شاء شهد و إن شاء لم يشهد، و إن شهد، شهد بحقّ قد سمعه، و إن لم يشهد فلا شي ء، لأنّهما لم يُشهداه».

و الظاهر أنّ لمحمّد بن مسلم رواية ثانية رواها الكليني عن طريق محمّد بن هلال، عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر، و رواها الصدوق باسناده المذكور في المشيخة عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام فتتحد الروايتان «3» الواردتان

في الوسائل برقم 5 و 6.

3- صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يُشهَد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت» و قال: «إذا أُشهدَ لم يكن له إلّا أن يُشهد». «4»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3، 4.

(2) وصفناه بالخبر، لوقوع محمّد بن عبد اللّه بن هلال في السند و لم يوثق.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 5، 6.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 299

ب: ما يدل على لزوم الشهادة إذا دُعي

4- خبر محمّد بن مسلم «1» عن أبي جعفر الباقر عليمها السَّلام في الرجل يشهد حساب الرجلين ثمّ يدعى إلى الشهادة قال: «يشهد». «2» و لا يخفى وجود التعارض بينه و بين الرواية الثانية لابن مسلم، حيث إنّه عليه السَّلام حكم فيها بالخيار مع الدعوة، و حكم هنا بالشهادة و لو لا الاختلاف في المضمون، لحكمنا بوحدته، مع الرواية الثانية و قال في الجواهر: و يؤيّده خبر ابن أشيم «3» و لكنّه لا صلة له، بالمقام و إنّما يدل على أنّ سماع الطلاق كاف في صحّته، و لا يتوقف على الإشهاد و هو غير ما نحن فيه.

ج: ما يدل على لزوم الإجابة إذا توقف دفع الظلم عليه

5- مرسلة يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد، و إن شاء سكت إلّا إذا علم مَن الظالم فيشهد و لا يحل له أن لا يشهد». «4»

و تدل عليه رواية ابن مسلم «5» المشتملة على هذا القيد أيضاً كما مرّ و ليستا رواية واحدة لاختلاف الراوي و المروي عنه. فابن مسلم يروي عن أبي جعفر عليه السَّلام، و مرسلة يونس مروية عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام.

و يؤيده ما رواه الصدوق مرسلًا قال: قال الصادق عليه السَّلام: «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً» «6» و لعلّه نفس ما جاء في الروايتين و قد نقل بالمعنى.

______________________________

(1) وصفناه بالخبر، لوقوع أحمد بن يزيد في سنده و هو لم يوثق.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 8.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 10.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب

5 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 300

و بذلك ظهر عدم الخلاف في المسألة فتوى و نصّاً، قال المحقّق الأردبيلي: «و لا شكّ أنّ ظاهر هذه الأخبار عدم وجوب الإقامة مع عدم الاستشهاد أوّلًا، و لكن العقل يأبى عن ذلك في الجملة و يستبعد تجويز الشارع تضييع حقّ امرئ مظلوم مع علم الشاهد بذلك و بأنّه قد يجي ء بشهادته و تجويز السكوت؛ لأجل أنّه ما استشهد و إن كان هو قصّر في الأوّل. و تدلّ على الوجوب، الآيات و الأخبار كما تقدّم.

فيمكن التصرّف و التأويل فيها (الأخبار الدالّة على عدم الوجوب)، فإنّه ليس فيها صحيح صريح في جواز السكوت و عدم الشهادة مع العلم بتضييع حقّ الناس و حصر الشاهد فيه مع استدعاء صاحبه الشهادة منه مع عدم الضرر عليه و لا على أحد من إخوانه المؤمنين.

فيمكن الحمل على عدم وجوبه العيني، و لا على عدم طلب صاحبها، و لا على عدم العلم اليقيني، و لا على عدم الاستدعاء إلى التحمّل، لا الأداء.

قال في الفقيه بعد نقل رواية محمّد بن مسلم و غيرها: قال مصنف هذا الكتاب: معنى هذا الخبر الذي جُعل الخيار فيه إلى الشاهد بحساب الرجلين، هو إذا كان على ذلك الحقّ غيره من الشهود، فمتى علم أنّ صاحب الحقّ مظلوم و لا يحيى حقّه إلّا بشهادته، وجب عليه إقامتها و لم يحلّ له كتمانها فقد قال الصادق عليه السَّلام: «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً».

كأنّه إشارة إلى رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السَّلام، قال: إذا سمع الرجل الشهادة و لم

يُشهَد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت إلّا إذا علم مَن الظالم فيشهد فلا يحلّ له إلّا أن يشهد، فتأمّل». «1»

و قد علمت أنّ التفصيل لو لا حكم العقل أيضاً هو مقتضى النصوص.

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 521520، و لا يخفى أنّ في العبارة ضعفاً و أظنّ أنّ لفظة «و لا» في الموارد الثلاثة مصحف «أو» العاطفة فلاحظ.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 301

الثالثة: التبرع بالشهادة قبل سؤال القاضي
اشارة

لا عبرة بشهادة من شهد قبلَ سؤال القاضي، بلا خلاف، و لكن يقع الكلام في مقامات:

الأوّل: ما هو الدليل على المنع؟

الثاني: بعد ثبوت الدليل و النهي، فهل النهي تكليفي يورث عصيانُه الفسق بلا إصرار أو معه، أو وضعيّ بمعنى عدم ترتب الأثر كيمين المنكر قبلَ طلب المدّعي أو القاضي؟

الثالث: إذا رُدَّت شهادته، فهل تقبل في موضعها في نفس المجلس أو في مجلس آخر أو لا؟

الرابع: هل الدليل يعمّ الجاهل أو يختص بالعالم؟

الخامس: هل الحكم مختص بحقوق الناس أو يعمّ حقوق اللّه تبارك و تعالى؟

و قبل الورود في صلب الموضوع نذكر كلمات الأصحاب:

1- قال المفيد: لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يُسأل. «1»

2- قال الشيخ: و لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة. «2»

و قال الحلبي: و لا يجوز أن يشهد إلّا أن يُستشهد. «3» و المقصود: قبل أن يُسأل، و ليس المراد قبل أن يُشْهَد لتعرّضه له بعد هذا الكلام.

4- و قال ابن البرّاج: و لا يجوز لإنسان أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة. «4»

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 5728.

(2) الطوسي: النهاية: 330.

(3) الحلبي: الكافي: 436.

(4) ابن البرّاج: المهذب: 2/ 561.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 302

5 و قال ابن إدريس: و لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة. «1»

6- و قال المحقّق: التبرّع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة فيمنع القبول. «2»

7- قال العلّامة: و تردّ شهادة المتبرّع قبل السؤال للتهمة إلّا في حقوقه تعالى و المصالح العامة على إشكال. «3»

8- و قال الشهيد الثاني: من أسباب التهمة: الحرص على الشهادة بالمبادرة إليها قبل استنطاق الحاكم سواء كان بعد دعوى المدّعي أم قبله. «4»

ترى أنّ كلام القُدامى من العلماء خال عن

التعليل بالتهمة و إنّما جاء التعليل بهذا في كلام المحقّق و مَن بعده.

هذا نصوص علمائنا و كأنّ عدم الجواز عندهم أمر مسلّم إلّا أنّ المهم دراسة الأمر الأوّل و هو تبيين الدليل مع العلم بأنّ مقتضى الكتاب و السنّة هو حجّية قول العادل فما لم يَقُم دليل قاطع على الخروج عن إطلاقهما، فهو محكَّم.

و يحتمل أن يكون الدليل المخرج أحد الوجوه التالية:
أ: وجود دليل صالح واصل إليهم

إن إطباق القدماء خصوصاً مثل المفيد و الشيخ على عدم الجواز، كاشف عن وجود دليل صالح على الحكم وصل إليهم و لم يصل إلينا، و من البعيد أن يكون الدليل ما سيوافيك عن طريق غيرنا من الروايات التي لا يُحتج بها إلّا بعد التأكد من صحة مضمونها و قد تقرر في محلّه أنّ الرسم الدارج بين القدماء من عصر والد الصدوق (ت 329) إلى عصر الشيخ (ت 460) هو الإفتاء بنفس

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 133.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 131.

(3) ابن المطهّر: إرشاد الأذهان: 2/ 158.

(4) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 454.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 303

عبارة الرواية أو مضمونها كما هو الغالب بتجريد المتون عن الأسانيد و على هذا الغرار، أُلِّفَ فقه الرضا لوالد الصدوق، و المقنعة للمفيد و النهاية للشيخ و قد كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي يعتمد على ما ورد في الأخيرين بعض الاعتماد إن لم يجد نصّاً في الكتب الحديثية، و قد مضى اتّفاقهم على لفظة «لا يجوز».

ب: المبادرة مظنّة التهمة

إنّ التعليل بالتهمة، جاء في كلام المحقّق فهو أوّل من علّل عدم القبول بأنّه يطرق التهمة إلى الشاهد و أنّه شهد للمدّعي زوراً بسبب حرصه على ذلك، من غير فرق بين كونه قبل دعوى المدّعي أو بعدها متمسّكاً بإطلاق ما ورد من عدم قبول شهادة المتهم. «1» و ممّن ركن إلى هذا الوجه، صاحب الرياض و أفتى بأنّه لو انتفت التهمة تُقْبَل، و إن رُدّت، كما إذا كان المشهود له عدوَّه، و المشهود عليه خصمَه أو كانت المبادرة لأجل الجهل بالحكم الشرعي.

يلاحظ عليه: بما ذكرنا سابقاً من أنّ مطلق التهمة ليس مانعاً و إلّا

يلزم ردّ كثير من الشهادات و إنّما يُردُّ بالتهمة إذا كان هناك نص، أو إجماع فإن تمّ استكشاف النص عن اتفاق القدماء أو أكثرهم أو أحرزنا عدم الخلاف كما عليه صاحب الجواهر. «2» فهو و إلّا فالتمسك بإطلاق ما دلّ على عدم قبول شهادة المتهم، غير تام إذ فيه مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لو أخذنا بإطلاقه لزم ردّ أكثر الشهادات أنّ المتهم مجمل من حيث المفهوم، إذ من المحتمل أن يكون المراد، المتهم في عقله و دركه، أو بصره و سمعه و بتعبير آخر من عرف بكثرة الغلط و الغفلة، كما عبر به أيضاً الخرقي في متن المغني و قال: و لا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط و الغفلة. «3»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3، 5، 6.

(2) الجواهر: 41/ 104.

(3) ابن قدامة: المغني: 10/ 255، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 304

قال المحقّق الأردبيلي بعد ذكر هذا الوجه: و أنت تعلم أنّ التهمة غير ظاهرة خصوصاً إذا كان جاهلًا فإنّما نجد كثيراً مَن يشهد قبل الاستشهاد من غير ميل إلى إثبات المشهود، بل قد يكون إلى عدمه أميل لغرض مثل فقر المشهود عليه أو مصاحبته أو عداوة المشهود له، اعتقاداً لوجوب الشهادة و تحريم كتمانها كيف و العدالة تمنع من الشهادة على الكذب مع العلم بقبحه، و الوعيد في الكتاب و السنّة و تحريمه بإجماع المسلمين إلى أن قال: و بالجملة ردّ شهادة العدل بمجرّد ذلك مع وجوب قبول العدل و عدم ردّه بالكتاب و السنّة و الإجماع مشكل إلّا أن يكون إجماعياً. «1»

ج: التجاوز إلى حريم صاحب الحقّ

إنّ الشهادة قبل سؤال الحاكم، تجاوز

على حريم حقّ القاضي لأنّه يعتبر فيها سؤاله عن الشهود فحينئذ تكون الشهادة قبل السؤال نحو يمين المنكر قبل إذن صاحب الحقّ، و يشهد على هذا الوجه أنّهم قالوا بقبول شهادة المتبرع في المجلس الآخر، بل في نفس المجلس إذا كان بعد سؤال الحاكم فلو كان المانع هو التهمة يجب أن تردّ مطلقاً لبقائها في كلا المجلسين. قال الشهيد في المسالك: «و لو أعاد تلك الشهادة في مجلس آخر على وجهها ففي قبولها وجهان من بقاء التهمة في الواقعة، و اجتماع شرائط الشهادة الثابتة و هذا أجود». «2»

د: وجود نصوص عن غير طرقنا

جاء في مسانيد القوم و سننهم ما يدلّ على منع تلك الشهادة نظير:

أ: «ثمّ يجي ء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها». «3»

ب: «ثمّ يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد». «4»

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 400399.

(2) المسالك: 2/ 454.

(3) مسند أحمد: 4/ 426.

(4) سنن ابن ماجة: 2/ 791 برقم 2363.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 305

ج: «تقوم الساعة على قوم يشهدون من غير أن يُستشهدوا». «1»

إلى غير ذلك من نبويّات، لا يحتج بها لعدم ثبوت وثاقة رواتها.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الأوّل و تبين أنّ الصالح للاستدلال هو الوجه الأوّل و الثالث و يقرب من الأوّل ادعاء الإجماع على المنع. و إن كان الأوّل أظهر.

و أمّا الأمر الثاني أي كون النهي تكليفياً أو وضعياً، فلو قلنا بالوجه الأوّل أي استكشاف النص من كلمات الأصحاب أو كونها معقد الإجماع فالظاهر أنّ النهي وضعي لا تكليفي، إرشادي لا مولوي، فيكون النهي لتعليم الشاهد، حتّى لا يشهد لعدم ترتب الأثر عليها، كالنهي عن بيع مال الغير، إذا لم يتصرف فيه، أو عن بيع

ما ليس عنده و مثله القول بأنّ دليل النهي، هو التهمة أو التجاوز إلى حريم القاضي فالظاهر أنّ النهي، إرشادي لبيان عدم ترتّب الأثر نعم لو كان المستند الروايات النبوية، فالظاهر أنّ النهي تكليفي، يورث الفسق، و أمّا على المختار، فلا يورث الفسق و لا يحتاج إلى توبة.

و منه يظهر حال الأمر الثالث من قبولها في نفس المجلس أو بعده، لأنّ النهي كان تعليمياً إرشادياً، فإذا وقعت الشهادة في موضعها، لا تردّ.

و أمّا الأمر الرابع فالظاهر عمومه للعالم و الجاهل أي لا يعتدّ بمثل هذه الشهادة و إن شهد عن جهل بآداب القضاء الإسلامي.

و أمّا الأمر الخامس من اختصاصه بحقوق الناس أو شموله لحقوق اللّه أيضاً فالأصحاب فيه على طائفتين: بين متردد في الشمول و جازم بعدم الشمول.

قال المحقق: أمّا في حقوق اللّه أو الشهادة للمصالح العامة (كالوقف على المساجد و القناطيرة) فلا يمنع إذ لا مدّعي لها و فيه تردّد. «2»

و قال العلّامة: و تردّ شهادة المتبرع قبل السؤال للتهمة إلّا في حقوقه تعالى

______________________________

(1) دعائم الإسلام: 2/ 506.

(2) نجم الدين الحلّي الشرائع: 4/ 917.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 306

و المصالح العامة على إشكال. «1»

و أمّا الجازم فمنهم الشهيد الثاني، و المحقّق الأردبيلي، و صاحب الجواهر. قال الشهيد: وجه التردّد من عموم الأدلة الدالة على الردّ، و تطرّق التهمة، و من ثبوت الفرق الموجب لاختصاص الحكم بالأوّل لأنّ هذه الحقوق لا مدّعى لها، فلو لم يشرع فيها التبرع لتعطّلت و هو غير جائز و لانّه نوع من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو واجب و أداء الواجب لا يعدّ تبرعاً و هذا هو الأقوى. «2»

و الظاهر

عدم تصوّر التبرع في الشهادة في الحدود، لما علمت سابقاً من خروجها عن مجال القضاء و أنّ دوره فيها هو العمل بالبيّنة بعد إحراز الشهود، فليس فيها تخاصم و ترافع، و على ذلك فطبيعة الموضوع تقتضي المبادرة و إعلام الحاكم و لو أغمضنا عن ذلك فالأظهر عدم الفرق بين الحقوقين، لإطلاق الدليل المستكشف عندنا، و وجود التهمة في كلا الموردين عند غيرنا كما لا يخفى.

الرابعة: في الفاسق إذا تاب لقبول شهادته

إذا كان الشاهد فاسقاً فلا يخلو إمّا أن يكون عادلًا و ذا ملكة راسخة رادعة، ثمّ صار فاسقاً فتاب فلا شكّ أنّه تقبل شهادته لأنّ ملكة العدالة لا تزول بعصيان واحد، غير أنّ الفسق مانع عن قبول قوله فإذا تاب صار كمن لم يذنب فتُقبل شهادتُه.

إنّما الكلام في المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادتُه فقد نقل عن الشيخ في المبسوط أنّه قال: «إنّه إذا قال له الحاكم تب و تاب قبلت شهادته» و علّله الشهيد الثاني بصدق التوبة المقتضي لعود العدالة و انتفاء المانع فيدخل تحت

______________________________

(1) ابن المطهر الحلّي: إرشاد الأذهان: 2/ 158.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 454، لاحظ مجمع الفائدة: 12/ 400، و الجواهر: 41/ 108.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 307

عموم قبول شهادة العدل. «1» و قد نقل عن ابن سعيد أيضاً في جامعه و سيوافيك نصّه بعد الفراغ من تحليل كلام الشيخ.

أقول: ذكره الشيخ في المبسوط في فصل «شهادة القاذف»، و نحن نذكر موجز كلامه ليتبين أنّ محور كلامه خصوص القاذف فقط إذا أمره الإمام بالتوبة.

قال: المعصية لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون فعلًا أو قولًا فإن كانت فعلًا كالزنا و السرقة و اللواط و الغصب و شرب

الخمر فالتوبة هاهنا أن يأتي بالضد ممّا كان عليه و هو صلاح عمله لقوله تعالى: (إِلّٰا مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صٰالِحاً فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ) (الفرقان/ 70) فإذا ثبت أنّها صلاح عمله «2» فمدّته التي يقبل بها شهادته سنة و من الناس من قال يُصلِحُ عملَه ستة أشهر.

و أمّا إن كانت المعصية قولًا لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يكون ردّة أو قذفاً فإن كان ردّة فالتوبة، الإسلام و هو أن يأتي بالشهادتين و أنّه بري ء من كلّ دين خالف الإسلام فإذا فعل هذا فقد صحّت توبته، و ثبتت عدالته، و قبلت شهادته، و لا يعتبر بعد التوبة مدّة يصلح فيها عمله.

و أمّا إن كانت المعصية قذفاً لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يكون قذف سبّ أو قذف شهادة فإن كان الأوّل فالتوبة إكذابه نفسه إلى أن قال: فإذا ثبت صفة التوبة فهل تفتقر عدالته التي يقبل بها شهادته إلى صلاح العمل أو لا؟ قال قوم: مجرد التوبة يجزيه و قال قوم: لا بدّ من صلاح العمل و هو الأقوى لقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا) (النور/ 5).

و إن كان الثاني أي قذف الشهادة فهو أن يشهد بالزنا دون الأربعة فإنّهم

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 455، و سيوافيك أنّ تعليل المسالك يتمشى فيمن كان عادلًا و صار فاسقاً، لا في المشهور الفاسق الذي لم يزل فاسقاً الذي هو مورد كلام المحقق.

(2) كذا في النسخة المطبوعة و لعلّ الصحيح «انّه أصلح عمله».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 308

فسقة فالتوبة هاهنا أن يقول قد ندمت على ما كان منّي و

لا أعود إلى ما أُتّهم فيه فإذا قال هذا زال فسقه و ثبتت عدالته و قبلت شهادته و لا يراعى صلاح العمل. و الفرق بين هذا و قذف السب هو أنّ قذف السبّ ثبت فسقه بالنص و هذا بالاجتهاد عندهم.

و يجوز للإمام عندنا أن يقول تب أقبل شهادتك و إنّما قلنا ذلك لأنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أمر بالتوبة. «1»

أقول: إنّ الإمعان في كلامه يعطي أنّه يقبل توبة الفاسق لغاية قبول الشهادة في مورد واحد و هو قذف الشهادة لا قذف السبّ فلا يصحّ أن يقال إنّ الشيخ يقول بأنّه يجوز للإمام أن يقول للعاصي تب أقبل شهادتك و إن كان عصيانه بالفعل دون القول و في القول، بقذف السب و غيره.

نعم ليس كلام الشيخ نقياً عن الإشكال خصوصاً أنّه فسر الآية الواردة في قذف الشهادة، بقذف السب، فإنّ الظاهر أنّ الآية ناظرة إلى قضية الإفك التي قذفت فيها زوجة النبي أو غيرها بعمل منكر و هي من مقولة قذف الشهادة لا قذف السبّ هذا كلّه راجع إلى تفسير كلام الشيخ.

و أمّا ابن سعيد فقال في جامعه: و لو قال القاضي لشخص تب أقبل شهادتك، فظهرت منه التوبة قبلها. «2» فالمتبادر من كلامه، من علم منه أنّه تاب واقعاً و ندم على ما مضى مع العزم على الترك فيما يأتي، لا مجرّد التوبة غير المعلوم كونه للّه أو لقبول شهادته.

و أمّا تحقيق المطلب في المسألة فنقول قد عرفت أنّ الكلام في المشهور بالفسق و من المعلوم أنّه بالتوبة لا يصير عادلًا لأنّ العدالة ملكة راسخة في النفس تحصل بالمراقبة التامة للوظائف بالإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات فكيف يكون مجرّد التوبة سبباً

لرجوع العدالة و ما نقلناه عن المسالك إنّما يناسب

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 179178.

(2) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 541.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 309

العادل الذي صدرت منه المعصية نادراً فإذا تاب يزول المانع و تؤثر العدالة المخزونة في النفس لا في المشهور بالفسق.

نعم لو دلّ الدليل في مورد على أنّ مجرّد التوبة كاف في قبول شهادة الشاهد نأخذ به و لكن ليس هناك دليل عليه إلّا ما ورد في مورد القذف من الروايات التي جمعها الشيخ الحر في الباب 36 من أبواب الشهادات فإن تمّت دلالتها نأخذ بها و إلّا فالكتاب هو المحكّم فإنّ الظاهر منه عدم كفاية التوبة و لزوم مشاهدة الصلاح في أفعاله بعد التوبة قال سبحانه: (إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 5).

و يمكن الجمع بين مفاد الآية و الروايات الدالة على قبول توبته، بأنّها وردت لردّ الفكرة الخاطئة في عصر صدور الروايات حيث كان الناس يقولون: «توبة القاذف فيما بينه و بين اللّه و لا تقبل شهادته أبداً» «1» فلما سُئلوا عليهم السَّلام عن قبول توبته قالوا بقبول توبته ناويين ردّ هذه الفكرة و أمّا أنّه هل تكفي التوبة أو يشترط الصلاح في العمل حتى يتّصف بالعدالة فليست الروايات بصدد بيان أحد الأمرين.

هذا ما يرجع إلى نفس المسألة و أمّا ما هو حقيقة التوبة و ما شرائطها فإنّما يطلب لنفسه مجالًا خاصاً حتى نذكر فيه آراء الفقهاء و المتكلفين و علماء الأخلاق فلنقتصر بما أفاده شيخنا الشهيد في المسالك «2» قال: أمّا التوبة الواقعية (التوبة المنقذة من النار) فهي عبارة عن الندم على ما مضى و يترك

مثله في الحال و يعزم على أن لا يعود عليه، ثمّ إذا كانت المعصية لا يتعلّق بها حقّ اللّه تعالى و لا العباد فتكفي التوبة و لا شي ء عليه سوى ذلك، و إن تعلّق بها حقّ مالي كمنع الزكاة و الغصب و الجنايات في أموال الناس فتجب مع ذلك تبرئة الذمة منه، و هل إبراء

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 455.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 310

الذمة محقّق للتوبة أو هو واجب آخر؟ فيه وجهان.

و إن تعلّق العصيان بما ليس أمراً مالياً كشرب الخمر فله أن لا يُظهره و يتوب، كما له أن يظهر، ليقام عليه الحدّ.

و إن كان حقاً للعباد كالقصاص فعليه أن يأتي المستحق و يمكّنه من الاستيفاء و أمّا القذف و الغيبة فإن بلغه الأمر فكذلك و إن لم يبلغه ففيه وجهان: من أنّه حقّ آدمي فلا يزول إلّا من جهته و من استلزامه زيادة الأذى، فعلى الأوّل يجب عليه الاستحلال و على الثاني يكفيه الاستغفار في حقّه.

و أمّا التوبة الظاهرة التي يترتّب عليها قبول الولايات و نفوذ الشهادات فإن كان العصيان قوليّاً كالقذف فقد وقفت على كيفية التوبة و أنّ الأثر لا يترتب إلّا بعد الإصلاح و ما دلّ من الروايات على قبول توبته ليست ناظرة إلى نفي ما ذكرنا و أمّا الفعلية فلا يكفي إظهار التوبة لأنّه لا يؤمن أن يكون له في الإظهار غرض فاسد، على أنّه لا ينسلك بمجرّد التوبة في عداد العدول.

فقد تلخص من هذا البحث الضافي أُمور:

1- إنّ العادل إذا فسق بالعصيان الواحد تكفي فيه التوبة و لا يتوقف على

مشاهدة العمل الصالح في حياته.

2- إذا كان الشاهد مشهوراً بالفسق فالشيخ الطوسي يقول في مورد واحد بكفاية التوبة و هو في قذف الشهادة.

3- الحقّ أنّ التوبة لا تكفي في القذف لتصريح الآية بلزوم الإصلاح بعد التوبة و الروايات الدالة على قبول توبته ليست بصدد نفي العمل الصالح بل بصدد نفي الفكر الخاطئ من أنّه لا تقبل توبته.

4- إنّ التوبة الواقعية المؤثرة في نجاح الإنسان في الآخرة يتوقف على الندم على ما مضى و العزم على الترك في ما يأتي و الخلوص من توابع الذنب على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 311

التفصيل السابق.

5- التوبة الظاهرية التي يراد منها عود الولايات و قبول الشهادات تتوقف على انسلاك العاصي في زمرة العدول و لا يكفي صرف التوبة ما لم تتحقق فيه ملكة العدالة.

المسألة السادسة: إذا تبيّن في الشهود ما يمنع القبول

إذا تبيّن للحاكم في الشهود ما يمنع القبول فله صور:

1- إذا تبيّن للقاضي في مورد الشاهد أنّه صار فاسقاً بعد صدور الحكم.

2- إذا تبيّن أنّه صار فاسقاً بعد إقامة الشهادة و قبل صدور الحكم.

3- إذا تبيّن انّه كان فاسقاً قبل إقامة الشهادة و استمرّت حاله إلى زمان الإقامة.

4- إذا عثر القاضي بعد صدور الحكم بالجارح أو أقام المنكر البيّنةَ على فسق الشاهد حين إقامة الشهادة.

5- إذا تبيّن للقاضي أنّ الشاهد شهد زوراً و ظلماً.

هذه هي الصور المتصوّرة و الفرق بين الأربعة الأُوَل و الصورة الخامسة هو تبيّن كذب الشاهد في الأخيرة دون الصور الأُولى، لأنّ تبيّن الفسق في زمن الإقامة لا يلازم كونه كاذباً إذ ليس كلّ فاسق كاذباً في قوله، و إن كان كل كاذب فاسقاً و عليك بيان أحكام الصور واحدة تلو الأُخرى:

أمّا الصورتان الأُوليتان فلا موجب

للنقض لأنّ الشهادة كانت جامعة للشرائط حين الإقامة و إن فقد الشاهدُ الشرطَ إمّا بعد الإقامة كما في الصورة الثانية أو بعد القضاء كما في الصورة الأُولى و الملاك في جواز الشهادة و نفوذها كونها جامعة للشرائط حين الأداء و لأجل ذلك لو ماتَ الشاهدُ بعد الإقامة أو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 312

جُنَّ فلا يوجب بطلانها و لأجل ذلك اتّفقت كلمتهم على صحّة القضاء فيهما.

و أمّا الصورة الثالثة فالحقّ فيه نقض الحكم لأنّه تبيّن أنّ القضاء لم يكن واجداً للشرط الشرعي و إن شئت قلتَ: انّه قد تبيّن للقاضي أنّ الحكم كان فاقداً لشرطه و معه كيف يمكن أن يكون نافذاً غير قابل للنقض؟!

فإن قلت: ما الفرق بين باب الشهادة و صلاة الجماعة، فلو تبيّن فسق الإمام بعد إقامة الصلاة لا تجب الإعادة مع أنّه كان فاقداً للشرط حينَ الإقامة فلو كانت العدالة شرطاً واقعياً لزمت الإعادة و النقض فيهما و لو كان شرطاً علمياً يلزم عدمهما أيضاً كذلك؟

قلت: إنّ لسان الدليل في باب الجماعة يعرب عن كون الشرط علمياً لا واقعياً حيث قال: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» «1» الظاهر في أنّ الموضوع هو الوثوق سواء أوافق الواقع أم لا بخلاف باب الشهادة فإنّ المتبادر من قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) هو كونه عادلًا في الواقع و بذلك يتبين أنّ العلم في صلاة الجماعة أُخِذَ موضوعياً بخلاف باب الشهادة فقد أُخذ فيه طريقياً محضاً.

و أمّا الصورة الرابعة: أعني إذا قامت البيّنة على فسق الشاهد حين الشهادة فهل ينقض الحكم أو لا؟ الظاهر لا لأنّ البيّنة المزبورة لا تقتضي العلم بفساد ميزان

الحكم خصوصاً مع معارضتها ببيّنة أُخرى حال القضاء دالّة على عدالة الشاهد.

فإن قلت: إذا تعارض الجارح مع المعدِّل، يقدم الجارح.

قلت: الضابطة مختصّة بما تعارضا قبل صدور الحكم لا بعد صدوره على وجه صحيح فلا ينقض إلّا بالعلم بفقدان الشرط و ذلك لأنّ القضاء مبني على

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 5، الباب 10 من أبواب الجماعة، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 313

الدوام و التأبيد فلا يُنقض إلّا بعد العلم بالفساد و فقد القضاء الشرط اللازم لا ما إذا قامت البيّنة على فقدان الشرط فأدلّة حرمة نقض الحكم محكَّمة ما لم يعلم الفساد خصوصاً إذا قامت البيّنة الجارحة لدى القاضي الآخر، مع إمكان حمل القضاء الأوّل على الصحّة.

و أمّا الصورة الخامسة: فحكمها واضح لا يحتاج إلى البيان و إنّما ذكرت لأجل إيضاح الفرق بينها و بين الصور المتقدّمة.

تمّ الكلام في الشرط السادس من شروط الشهادة العامة، بقي الكلام في الشرط الأخير و هو ما يلي:

الشرط السابع: طهارة المولد

اشارة

يشترط في الشاهد طيب المولِد و طهارته فلا تقبل شهادة ولد الزنا و لننقل كلمات الفقهاء:

1- قال السيّد المرتضى في الانتصار: و ممّا انفردت به الإمامية القول بأنّ شهادة ولد الزنا لا تقبل و إن كان على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 314

ظاهر العدالة. ثمّ احتجّ بإجماع الطائفة عليه. «1»

2- و قال الشيخ في النهاية: و لا تجوز شهادة ولد الزنا فإن عرفت منه عدالة قُبِلتْ شهادتُه في الشي ء الدون. «2»

3- و قال الشيخ في الخلاف: شهادة ولد الزنا لا تقبل و إن كان عدلًا. «3»

4- و قال ابن البرّاج: و لا يجوز قبول شهادة مبطل على محق و إن

كان على ظاهر الإسلام و كذلك شهادة ولد الزنا. «4»

5- قال ابن حمزة: و لا تقدح في قبول الشهادة، الولادةُ من الزنا إذا كان المشهود به شيئاً قليلًا حقيراً. «5»

6- و قال ابن زهرة: و لا تقبل شهادة ولد الزنا بدليل هذا الإجماع. «6»

7- و قال ابن إدريس: و لا تجوز شهادة ولد الزنا لأنّه عند أصحابنا كافر بإجماعهم عليه قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: فإن عرفت منه عدالة قبلت شهادتُه في الشي ء الدون. و هذا غير مستقيم لأنّه إن كان عدلًا فتقبل شهادته في الدون و غير الدون و إن كان عنده كافراً فلا تقبل شهادته في الدون و لا غير الدون، و إنّما هذا خبر واحد، أورده إيراداً، لا اعتقاداً. «7»

8- و قال المحقّق: لا تقبل شهادة ولد الزنا أصلًا و قيل تقبل في اليسير مع تمسّكه بالصلاح و به رواية نادرة و لو جُهلت حاله، قبلت شهادته و إن نالته بعض الألسن. «8»

9- و قال يحيى بن سعيد: و لا شهادة ولد الزنا و روي ان عرفت منه عدالة قُبلت في الشي ء الدون. «9»

10- و قال العلامة: الخامس طهارة المولد فتردّ شهادة ولد الزنا و إن قَلَّتْ. «10»

11- قال الخرقي في المختصر: و شهادة ولد الزنا جائزة في الزنا و غيره.

12- و قال ابن قدامة في شرحه: «هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و

______________________________

(1) المرتضى، الانتصار: 247.

(2) الطوسي: النهاية: 326.

(3) الطوسي: الخلاف: ج 3، كتاب الشهادات، المسألة 57، تركنا نقل الباقي من كلام الشيخ لأنّ النسخ لعامتها سقيمة و اكتفينا في نقل آراء أهل السنة بما سيوافيك من المغني لابن قدامة.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 557.

(5) ابن حمزة: الوسيلة:

230.

(6) ابن زهرة: الغنية: 440.

(7) ابن إدريس: السرائر: 2/ 122.

(8) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 132.

(9) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 539.

(10) ابن المطهر: إرشاد الأذهان: 2/ 157.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 315

الحسن و الشعبي و الزهري و الشافعي و أبو عبيد، و أبو حنيفة، و أصحابه و قال مالك و الليث: لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنّه منهم، فإنّ العادة فيمن فعل قبيحاً أنّه يُحِبُّ أن يكون له نظراء، و حُكي عن عثمان انّه قال: ودّت الزانية أنّ النساء كلّهن زنين.

ثمّ احتج على القبول بإطلاق دليل قبول العادل و أضاف:

أوّلًا: أنّ ولد الزنا لم يفعل قبيحاً.

ثانياً: أنّ الزاني لو تاب لقبلتْ شهادته و هو الذي فعل القبيح فإذا قبلت شهادته فغيره أولى. «1»

و قال سبحانه: (وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ)* (الأنعام/ 164).

و لنذكر قبل سرد الروايات أمرين:

الأوّل: إنّ مقتضى الكتاب و السنّة هو قبول شهادته، لانسلاكه في عداد المسلم المؤمن العادل، و لا يعدل عنهما إلّا بدليل قاطع كما هو سيرتنا في تخصيص الكتاب و السنة القطعية.

الثاني: إنّ الحكم بعدم القبول لا يُنشأ من الحكم عليه بالكفر كما عليه ابن إدريس في سرائره، إذ لا دليل على كفره و إطلاق ما وصف الإسلام و الإيمان و العدالة يعمّ طيب المولد و خلافه، و عدم قبول إسلامه يباين قوله سبحانه: (وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ)* بل المنشأ هو الروايات المتضافرة و إن كانت بعضها قاصرة السند لكن فيها صحيحة و موثقة، و يشدّ بعضها بعضاً، على أنّ اتّفاق العامة على الجواز إلّا مالك في مورد يؤيد صدور هذه الروايات و أنّها ناظرة إلى ردّهم و إليك

ما ورد عنهم عليهم السَّلام:

______________________________

(1) ابن قدامة: المغني: 10/ 263.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 316

1 صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته عن شهادة ولد الزنا فقال: لا و لا عبد «1» و فيه دلالة على عدم قبول شهادة العبد أيضاً و إن كان المعروف عندنا قبول شهادته، فالرواية صحيحة سنداً و لو لا هذا الذيل، كانت نقية مضموناً.

2- صحيح محمّد بن مسلم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «لا تجوز شهادة ولد الزنا». 2 و وصفه صاحب الجواهر بالخبر، مع أنّه صحيح و لعلّه لأجل وجود محمّد ابن عيسى بن عبيد اليقطيني في السند و هو عندنا ثقة صرح به النجاشي و إن استثناه ابن الوليد عن رجال نوادر الحكمة.

3- معتبر أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عن ولد الزنا أ تجوز شهادته؟ فقال: «لا»، فقلت: إنّ الحكم بن عُتَيْبَة يزعم أنّها تجوز؟ فقال: اللّهمّ لا تغفر ذنبه ما قال اللّه للحكم (وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ) 3. 4 و وصفه في الجواهر بالخبر، و الأردبيلي بالرواية، و ما هو إلّا لورود سهل بن زياد في سنده، و الأمر في سهل، سهل و أمّا أبان فهو أبان بن عثمان الذي يعدّ من أصحاب الإجماع و قد أوضحنا معنى الكلمة المعروفة في حقّه أنّه «ناووسي» في كتابنا: كليات في علم الرجال.

4- موثقة عبيد بن زرارة عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر عليه السَّلام يقول: «لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل و فيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً لأنّه لا تجوز شهادته و لا يؤمّ الناس». 5 و في السند إبراهيم بن محمّد بن

الأشعري القمي الذي وثقه النجاشي و ابن فضال الفطحي الثقة، و عبيد بن زرارة الذي وصفه النجاشي بأنّه ثقة ثقة.

5- و مرسلة العياشي عن عبيد اللّه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادته و لا يؤم الناس». 6 و هي مشعرة بالكراهة.

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 31، أبواب الشهادات، الحديث 6 و 3.

(2) 3 الزخرف: 44

(3) 4- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 31 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 4، 9، 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 317

6 خبر علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: «لا يجوز شهادته و لا يؤم». «1»

و لعلّ هذا المقدار من الروايات التي فيها الصحيح و الموثق كاف في تخصيص الكتاب و السنة.

بقي الكلام في ما استثناه الشيخ و ابن حمزة من قبول شهادته في الشي ء الدون و قد وردت به رواية. و هي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه سئل عن شهادة ولد الزنا فقال: «لا تجوز إلّا في الشي ء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً». «2» رواه عيسى بن عبد اللّه ابن سعد بن مالك القمي الذي روى الكشي في حقّه أنّ الصادق عليه السَّلام قال: «هو منّا أهل البيت عليهم السَّلام». «3»

و قد أفتى بمضمونه الشيخ في النهاية و ابن حمزة في الوسيلة كما عرفت و وصفه المحقّق بالندرة و المراد كونه متروكاً غير معمول به و إلّا فالسند صحيح و الرواية مروية عن الحسين بن سعيد الأهوازي الثقة عن فضالة بن أيوب الأزدي الثقة، عن أبان بن عثمان و هو

من أصحاب الإجماع عن عيسى بن عبد اللّه القمي. و حمله في الوسائل على التقية.

و قال الأردبيلي: في الطريق ضعف «4» و أجاب العلامة في المختلف عن الاستدلال بالرواية بأنّ قبول شهادته في اليسير يعطي المنع من قبول الكثير من حيث المفهوم و لا يسير إلّا و هو كثير بالنسبة إلى ما دونه فإذن لا تقبل شهادته إلّا في أقلّ الأشياء الذي ليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه إذ لا دون له، و مثله

______________________________

(1) قرب الاسناد/ 122، و ما في الوسائل «تجوز شهادته» محمول على سقط حرف النفي من نسخته و قد صرّح بأنّ المثبت فمن مسائل علي بن جعفر هو لا تجوز.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 31 من أبواب الشهادات، الحديث 5.

(3) الكشي: معرفة الرجال: 281.

(4) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 381 و لم يعلم وجه الضعف و لعلّه خفي عليه المراد من عيسى بن عبد اللّه و لكنّك عرفته شخصه بقرينة نقل أبان عنه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 318

لا يتملك. «1»

يلاحظ على الأخير بأنّ المراد هو الشي ء اليسير العرفي و من المعلوم أنّه في العرف مضبوط و إن كان يختلف حسب الأجواء و البيئات.

و هل الممنوع هو الشهادة و الإمامة أو يعم المنعُ غيرهما كاستماع الطلاق و النكاح و لعلّ الثاني هو الأجود لأنّ الغاية من الاستماع هو الشهادة فلو كانت شهادته غير جائزة تكون قرينة على انصراف الدليل عن مثله فلا يكفي حضور ولد الزنا في مجلس العقد و الطلاق و إن لم يشهد بعدُ.

حكم من نالته بعض الألسن بكونه ولد زنا

قال المحقق: و لو جُهِلت حاله قُبلت شهادته و إن نالته بعض الألسن.

و قد علل القبول بإطلاق الأدلة و عمومها و

المراد إطلاق أدلة حجّية قول العادل و عمومها.

يلاحظ عليه: بأنّه من قبيل التمسك بالإطلاق و العام في الشبهة المصداقية لأنّ الفرد المبهم دائر بين كونه داخلًا تحت العام أعني قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) أو خارجاً عن تحته و واقعاً تحت المقيّد و المخصص و في مثله لا يُتمَسّك بواحد منهما بل يكون المرجع هو الأصل العملي.

نعم يمكن التمسك بقاعدة الفراش إذا ولد مِنْ أُمّ لها فراش و إن اشتهر في الألسن أنّه وليد غير زوجها فما لم يثبت الثاني فهو محكوم بكونه وليد الفراش.

و يظهر من صاحب الجواهر قبول شهادته و إن لم تكن هناك قاعدة الفراش قال: بل و لو لم يكن فراش على الأصح في نحوه مما جاء النهي فيه على طريق

______________________________

(1) ابن المطهر: المختلف الشيعة، كتاب الشهادات: 166.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 319

المانعية الظاهرة في اختصاص المعلوم دون المشكوك فيه الداخل في العمومات. «1»

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر كلامه هو اختصاص المخصص بالمعلوم دون المشكوك و الحقّ انّ الخارج هو ولد الزنا بوجوده الواقعي سواء كان معلوماً أو مجهولًا أو مشكوكاً، فلا يصحّ التمسك بالعمومات لكونه شبهة مصداقية للعام حسب الإرادة الجدّية.

ثمّ إنّه يظهر منه تصحيح شهادته عن طريق آخر و هو تنقيح موضوع العام المخصص بأصل شرعي و إحرازه به فيحكم بطهارة مولد كلّ من لم يعلم أنّه ابن زنا.

و لعلّ مراده هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي في مورد الفرد المبهم حيث لم يكن ولد زنا قبل الولادة فنشك في انقلابه إلى خلافه بعد الولادة فيستصحب فيحكم عليه بكونه باقياً على العنوان العدمي إلى حين الولادة فيبقى تحت العام.

يلاحظ عليه:

بتغاير القضيتين فإنّ المتيقن عدم كونه ولد زنا في حال عدم الموضوع و المشكوك كونه كذلك بعد الولادة و إن شئت قلت المتيقن هو السالبة بانتفاء الموضوع و المشكوك هو السالبة بانتفاء المحمول و إسراء حكم أحدهما إلى الآخر أشبه بالقياس و أنسب بالأصل المثبت.

تمّ الكلام في شرائط الشاهد و لندخل في بيان مستند الشهادة.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 121 و في العبارة حزارة و الأولى أن يقول: الظاهرة في اختصاصها بالمعلوم دون المشكوك فيه فيدخل المشكوك في العمومات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 320

المقصد الثاني في مستند الشهادة

اشارة

و قد عبّرنا عنه في صدر الكتاب بقولنا: «بما ذا يصير الشاهد شاهداً».

اتّفقت كلّمتهم على أنّه يشترط في الشهادة أن تكون مستندة إلى العلم إلّا ما خرج ممّا تكفي فيه الاستفاضة و الشياع و إن لم تكن مفيدة للعلم كما سيوافيك الكلام في الاستثناء و إليك كلمات الأصحاب:

1- قال المفيد: و إذا نسي الشاهدُ الشهادةَ، أو شكّ فيها لم يجُز

له إقامتها، و إن أُحضِرَ كتاب فيه خطّ يعتَقد أنّه خطّه، و لم يَذكر الشهادة، لم يشهد بذلك، إلّا أن يكون معه رجل عدل يُقيم الشهادة فلا بأس أن يشهد معه. «1»

2- و قال الشيخ: لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالماً بما يشهد به حين التحمل و حين الأداء لقوله تعالى: (وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الاسراء/ 36) و قال تعالى: (إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/ 86).

و روى ابن عباس قال: سُئل رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن الشهادة فقال: هل ترى الشمس؟ قال: نعم قال: على مثلها فاشهد أودع. «2»

3- و قال أيضاً:

و إذا أراد إقامة شهادة، لم يجز له أن يقيم، إلّا على ما يعلم، و لا يعوِّل على ما يجد خطّه، به مكتوباً. فإن وُجد مكتوباً و لم يذكر الشهادة لم يَجز

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 728.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 180 و لاحظ ص 330.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 321

له إقامتها فإن لم يذكر، شهد معه آخر ثقة، جاز له حينئذ إقامة الشهادة. «1»

4- و قال أبو الصلاح الحلبي: و لا يحلّ أن يتحمّل شهادة لا يعلم مقتضاها من أحد طُرقِ العلم و إن رأى خطّه. «2»

5- و قال ابن البرّاج: إذا أراد إقامة شهادة لم يجز له إقامتها إلّا على ما يعلم و لا يعتمد على خطّه إن لم يكن ذاكراً للشهادة فإن لم يذكره و شهد معه آخر، جاز أن يقيمها و الأحوط الأوّل. «3»

6- و قال ابن حمزة: لا تجوز إقامة الشهادة لأحد إلّا أن يتحمّلها و هو عالم بها و العلم يحصل في ذلك بأحد ثلاثة أشياء: بالشهادة وحدها، و بالسماع و المشاهدة معاً، و بالسماع و الاستفاضة. «4»

7- و قال ابن إدريس: و إذا أراد إقامة شهادة لم يجز له أن يُقيم إلّا على ما يعلمه و يُتقنه و يقطع عليه و لا يعوِّل على ما يجد خطّه به مكتوباً، أو خاتمه به مختوماً لما قدّمناه من قوله تعالى: (وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء/ 36) و قول الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لما سئل عن الشهادة فقال للسائل: فهل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع. «5» و ما روي عن الأئمّة الأطهار عليهم السَّلام في مثل هذا

المعنى أكثر من أن تحصى قد أورد بعضه شيخنا أبو جعفر في استبصاره ثمّ نقل عن الشيخ الاعتمادَ على خطّ الشاهد و الخاتم إذا شهد معه ثقة، ثمّ ردّ عليه بأنّه خبر واحد و قد عدل عنه الشيخ في استبصاره. «6»

8- و قال المحقّق: و الضابط العلم ثمّ استدل بآية سورة الإسراء و حديث الرسول. «7»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 330.

(2) الحلبي: الكافي: 136.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 561.

(4) ابن حمزة: الوسيلة: 232.

(5) الوسائل: الباب 20 من أبواب الشهادات، الحديث 3، مرسلة المحقق.

(6) ابن إدريس: السرائر: 2/ 131.

(7) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 132.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 322

9- و قال العلّامة: مستند الشهادة هو العلم إلّا ما استثنى. «1»

10 قال الشهيد الثاني: الأصل في الشهادة البناء على العلم و اليقين ثمّ استدل بالآية و الحديث النبوي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. «2»

11- و قال المحقّق الأردبيلي: مستند الشهادة و ما يصير به الشاهد شاهداً هو العلم اليقيني إلّا ما استثنى من الشهادة و الاستفاضة في الأُمور الخاصة. «3»

إلى غير ذلك من الكلمات و يدل عليه مضافاً إلى ما عرفت في كلماتهم من الآية و الرواية النبوية صلَّى الله عليه و آله و سلَّم روايات:

1- موثقة السكوني قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لا تشهد بشهادة لا تذكرها فإنّه من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً». «4»

2- خبر عليّ بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك». 5

3- صحيح الحسين بن سعيد قال: كتب إليه جعفر بن عيسى: جعلت فداك جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنّهم

أشهدوني على ما فيه، و في الكتاب اسمي بخطي قد عرفته، و لست أذكر الشهادة و قد دعوني إليها، فأشهد لهم على معرفتي أنّ اسمي في الكتاب و لست أذكر الشهادة؟ أو لا تجب الشهادة عليّ حتى أذكرها، كان اسمي في الكتاب أو لم يكن؟ فكتب: «لا تشهد». 6

4- مرسلة الصدوق: قال: قال الصادق عليه السَّلام: «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً». 7

______________________________

(1) ابن المطهر: إرشاد الأذهان: 2/ 161.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 456.

(3) المحقّق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 451.

(4) 4- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب الشهادات، الحديث 4، 3، 2، و جعفر بن عيسى في السند ممدوح.

(5) 7 الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 323

نعم يُعارض ما ذكر صحيح عمر بن يزيد الثقة المعروف ببيّاع السابري قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: الرجل يُشْهِدني على شهادة فاعرف خطي و خاتمي و لا أذكر من الباقي قليلًا و لا كثيراً قال: فقال لي: «إذا كان صاحبك ثقة و معه رجل ثقة فاشهد له». «1» و في سند الحديث الحسن بن علي بن النعمان و قد وثقه النجاشي فلا غبار على السند و قد أفتى بمضمونه المفيد في المقنعة، و الشيخ في النهاية، و جعل ابن البرّاج الأحوط في خلافه و ردّه ابن إدريس بحماس و ربّما حُمل على حصول العلم من رؤية خطّه و شهادة أخيه و ردّ عليه ابن إدريس بقوله: «و أيّ علم يحصل له إذا شهد معه آخر ثقة و لم يذكر هو الشهادة فهذا يكون شاهداً على شهادة و هو حاضر و

لا تجوز الشهادة على الشهادة إلّا إذا تعذّر على شاهد الأصل، الحضورُ و هاهنا شاهد الأصل حاضر و أيضاً فلا بدّ أن يكون اثنين حتى يقوما مقامه و هاهنا شاهد الفرع واحد». «2»

و على كلّ تقدير فالرواية مخالفة لمقتضى القواعد و لا يمكن رفع اليد عنها بهذا الخبر.

1 الشهادة استناداً إلى الاستصحاب

قد عرفت اتّفاقهم على اشتراط العلم في الشهادة فهل المراد من العلم في المقام، هو العلم المنطقي أي الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، أو العلم العرفي و هو الاطمئنان الذي بمنزلة العلم عندهم أو المراد هو الحجّة الأعم من العقلية و الشرعية و يعمّ الأُصول العملية وجوه، و الكلام مركّز فعلًا على الاعتماد على الأدلّة الشرعية كالبيّنة و الاستصحاب و اليد و أصل البراءة أمّا البيّنة فسيأتي الكلام فيها و أنّها تكون من قبيل الشهادة على الشهادة، إنّما الكلام في الشهادة اعتماداً و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) ابن إدريس: السرائر: 2/ 132.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 324

استناداً إلى الاستصحاب فربّما يقال بجواز الشهادة به و ذلك بوجهين:

1- الدليل العام الدال على حجّية الاستصحاب بناءً على إطلاقه الشامل لحال الشهادة.

يلاحظ عليه: أنّه ناظر لبيان تكليف نفس الإنسان المتيقّن سابقاً، حيث يجوز له الاعتماد عليه في طهارته و صلاته و صومه و أمّا جواز الاستناد إليه في مقام الشهادة على الغير فلا إطلاق فيه.

2- ما روي صحيحاً عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: الرجل يكون في داره، ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدَع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدثَ في داره و لا ندري ما أحدث

له من الولد إلّا أنّا لا نعلم انّه أحدث في داره شيئاً و لا حدَث له ولد، و لا تُقسَّم هذه الدار على ورثته الذين تَرك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان، أ وَ نشهدُ على هذا؟ قال: نعم.

قلت: الرجل يكون له العبد و الأمة فيقول: أبَقَ غلامي أو أَبَقَتْ أمتي، فيُؤخذ بالبلد فيكلفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه أ فنشهد على هذا إذا كَلفناه و نحن لم نعلم انّه أحدث شيئاً؟ فقال: «كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته، أو غاب عنك لم تشهد به». «1»

و يمكن الإجابة عنه مضافاً إلى التعارض الصريح بين الصدر و الذيل حيث إنّه جوّز الشهادة في مسألة الدار و حصر الوارث في الموجود فيها و لكنّه لم يجوّز في مورد العبد و الأمة إذا ادعيا الحرّية حيث قال: «لم تشهد به» أنّ المقصود هي الشهادة على حدّ علمه و هو أنّه كان مالكاً للدار قبل ثلاثين سنة و له من الأولاد ما علم حين ذاك و ليس له الشهادة زائداً على ما علم و هو أنّ الرجل كان

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 17 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 325

مالكاً إلى موته و ليس له من الأولاد إلّا هذا.

و يشهد لهذا الحمل روايته الأُخرى قال: قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان و تركها ميراثاً و انّه ليس وارث غير الذي شهدنا له، فقال: «اشهد بما هو علمك» قلت:

إنّ ابن أبي ليلى يُحلفنا الغموس، فقال: «احلف إنّما هو على علمك». «1»

و على ضوء ما ذكرنا يمكن دفع التعارض بين الصدر و الذيل بحمل النهي في الشق الثاني، على الشهادة ببقاء المشهود به على ما كان، و من المعلوم عدم العلم ببقاء الوضع السابق إلى الآن و حمل الشق الأوّل على مقدار علمه و ما ذكرنا من التفريق و إن كان تصرفاً في الرواية لكنّه بالنظر إلى روايته الأُخرى قريب.

و أمّا أثر هذه الشهادة، فيظهر فيما إذا لم تكن الدار، بيد الأولاد، فالشهادة على كون الأب مالكاً سابقاً، و هؤلاء أولاده في ذلك الظرف يجعلهم صاحب اليد، فمن ادعى خلافه، يكون مدّعياً تجب عليه إقامة البيّنة، نعم لا يجوز للشاهد أن يستصحب فيشهد، لأنّه شهادة على غير علم، نعم له العمل به في حياته الشخصية في مورد المشهود به، كما أنّه ليس للقاضي الاستصحاب لأنّ أدلّة القضاء منحصرة في البيّنة و اليمين و الإقرار، نعم له أن يتخذه حجّة حتى يثبت خلافه، لا أن يقضى على وفقه لأنّ من بيده الدار، له حجّة شرعية على مالكيته، و لا يحتاج إلى الحكم بأنّه له و إنّما يكون أثر العلم السابق أنّ للقاضي أن يطلب من مدّعي الخلاف البيّنة فإذا لم يأت به انتهى النزاع بعدم إثباته.

2- الشهادة استناداً إلى اليد

اشارة

مقتضى القواعد، عدم جواز الشهادة استناداً إلى اليد و إن كان يجوز

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 17، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 326

العمل بها فيما يرجع إلى الحياة الشخصية، كما يجوز له الإخبار بذلك عند السؤال، إذا لم يكن هناك ترافع و نزاع إنّما الكلام في الشهادة في المحكمة عند الترافع

و التنازع اعتماداً على اليد، فالظاهر عدم الجواز لعدم العلم المعتبر في موضوع الشهادة، لكن المتبادر من معتبرة حفص بن غياث، جوازها اعتماداً عليها. ففيها عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال قال له رجل: إذا رأيتُ شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: «نعم» قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «أ فيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه مِنْ قِبَلِه إليك» ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

أقول: إنّ هنا أُموراً ثلاثة:

1- جواز العمل بمقتضى اليد في الحياة الشخصية.

2- جواز الإخبار بأنّه له.

3- جواز الشهادة عند النزاع و الترافع استناداً إلى اليد.

و الظاهر أنّ المراد من «الشهادة بأنّه له»؟ هو الإخبار بأنّه له، لا الاستناد إليه في مقام الشهادة و الدليل عليه أمران:

أ: لو كان التسلط مسوِّغاً للشهادة يلزم عدم انفكاك ذي اليد عن البيّنة في مورد من الموارد لأنّ الاستيلاء يسمح لكل عادل أن يشهد أنّه له، مع أنّهم يقسمون ذا اليد إلى ذي بيّنة و عدمها.

ب: إنّ قوله: «و إلّا لما قامَ للمسلمين سوق» دليل على جواز الاستناد إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 327

اليد في الحياة الشخصية، و مقام الإخبار لا غير.

و الحاصل أنّ

الأدلة الدالة على عدم جواز الشهادة إلّا بالعلم قويّ لا يمكن تخصيصه بهذه الأُمور.

بقي الكلام في مورد واحد ربّما يعدّ نقضاً للقاعدة و هو جواز الشهادة على إقرار المرأة إذا حضر من يعرفها و إن لم يعرفها الشاهد، ففي خبر علي بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السَّلام قال: لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة و ليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها. (و لا يجوز عندهم أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر فينظر إليها)، فأمّا إذا كانت لا تعرف بعينها و لا يحضر من يعرفها، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها و على إقرارها دون أن تسفر و ينظرون إليها. و ما بين القوسين رواه الصدوق في الفقيه، كما أنّ ما بعدهما رواه الكليني في الكافي. «1»

و ربّما يستظهر من مكاتبة الصفار إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السَّلام التعارض و هي: في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر و يسمع كلامها إذا شهد عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا تجوز الشهادة حتى تبرزنَّ و تثبتها بعينها؟ فوقع عليه السَّلام: «تتنقب و تظهر للشهود إن شاء اللّه» و قال الصدوق: و هذا التوقيع عندي بخطه عليه السَّلام «2».

و في الجواهر أنّ قوله: «تتنقب و تظهر للشهود» محمول على التقيّة لما ورد في

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 40، الكافي: 7/ 400، و العجب أنّ صاحب الوسائل، صرح في فهرس الوسائل: ج 18، الباب 43 من أبواب الشهادات بأنّ في هذا الباب ثلاثة أحاديث مع أنّه في المطبوع الذي بأيدينا ليس فيه إلّا

حديث واحد و هذا دليل على أنّ النسخة غير صحيحة، و قد رأيت فيما بعد الحديث في نسخة الوسائل تحقيق مؤسسة آل البيت، ج 27، ص 401، الباب 43 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2) الفقيه: 3/ 40، برقم 132. و قد سقط من الوسائل المطبوعة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 328

الرواية الأُولى: «من أنّه لا يجوز عندهم أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر إليها».

و لا وجه للحمل على التقية، إذ من الجائز أن يكون لتحمّل الشهادة طرق ثلاثة:

1- أن يعرفها الشاهد. 2 أن يحضر في مجلس الشهادة من يعرفها. 3 أن تبرز بالنقاب الذي يستر شيئاً من الوجه، و يبدي شيئاً و ليست المكاتبة صريحة في ردّ الأوليين. و على كلّ تقدير، فالرواية الأُولى محمولة على ما إذا حصل العلم و أمّا تخصيص الأدلة فهو بعيد لإباء لسان عمومات اشتراط العلم.

مستند الشهادة إمّا مشاهدة أو سماع أو كلاهما

إذا كانت صحّة الشهادة مشروطة بعلم الشاهد، فإنّ أدوات العلم إمّا الشهود بالعين، أو السماع أو بهما.

فلا يشهد على الأفعال إلّا بالمشاهدة، و لأنّ آلة السمع لا تدركها كالغصب و السرقة و القتل و الرضاع و الولادة و الزنا و اللواط فلا يصير شاهداً بشي ء إلّا مع المشاهدة من غير فرق بين كونه سامعاً أو أصم، لأنّ السمع ليس دخيلًا فيها و يكفي في حقّه الإطلاق.

و ما يخالفه أعني ما رواه إسماعيل بن مهران الثقة، عن درست، عن جميل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة الأصم في القتل؟ فقال: «يؤخذ بأوّل قوله و لا يؤخذ بالثاني» «1»، فهو مخدوش من جهات:

1- عدم صحّة السند، فانّ درست بن منصور لم يوثق.

2- احتمال كون الأصم مصحف

«الصبي» حيث ورد فيه هذا المضمون

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 43 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 329

فيه.

قال في الوافي: و العلّة فيه غير ظاهرة و يحتمل أن يكون قد بُدِّل الصبي بالأصم فإنّ الصبي هو الذي يختلف في قوله و لا دخل للسمع في شهود القتل و صدوره من المشهود عليه و إنّما المدار على البصر. «1»

3- على أنّ الثاني لو كان منافياً للأوّل كان رجوعاً عن الشهادة فلا يقبل و إن لم يكن منافياً، لا يكون ثانياً. «2»

و الظاهر قبول شهادته فيما يعتبر فيه المشاهدة فقط. و قال سيّدنا الأُستاذ: يجوز للأعمى و الأصم تحمّل الشهادة و أداؤها إذا عرفا الواقعة و تقبل منهما فلو شاهد الأصمّ الأفعال جازت شهادته فيها و لو سمع الأعمى و عرف صاحب الصوت علماً جازت. و كذا يصحّ للأخرس تحمل الشهادة و أداؤها فإن عرف الحاكم إشارته يحكم و إن جهلها اعتمد فيها على مترجمين عدلين و تكون شهادته أصلًا. و يحكم بشهادته «3».

و سوف نرجع إلى البحث عن الأعمى و الأخرس حسب ترتيب الشرائع و إن كان الأولى البحث عن الجميع في المقام و لكن المحقّق أخّر البحث عنهما.

كفاية العلم المستند إلى الحس

قد عرفت لزوم استناد الشهادة إلى العلم و أنّه لا تكفي فيها الظنون و لا الحجج الشرعية و مع ذلك يقع الكلام في موضعين:

1- هل يكفي مطلق العلم و إن كان مستنداً إلى غير الحس كالأسباب غير

______________________________

(1) الفيض: الوافي: أبواب قضاء الشهادات/ 146، الطبعة الحجرية.

(2) النجفي، الجواهر: 41/ 128.

(3) الإمام الخميني: التحرير، كتاب الشهادات، المسألة 4، ص 446.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2،

ص: 330

العادية من الجفر و الرمل و غيرهما أو يشترط أن يكون مستنداً إلى الأسباب العادية كالحواس الظاهرية. لا شكّ في اعتبار الثاني و انصراف الأدلّة عن الأوّل و إن كان القطع الحاصل منهما حجّة للقاطع في حياته الشخصية و هذا كاشتراط كون الفتوى مستنبطة من الكتاب و السنّة و العقل و لا اعتبار بالمستنبطة من غيرها.

2- هل يكفي مطلق العلم الحاصل من الأُمور العادية و الحواس الظاهرية من دون التزام أن يكون العلم المتعلِّق بالمبصرات، حاصلًا من الإبصار و المشاهدة، بل يكفي و إن حصله من السماع، و بالعكس أولا، مثلًا لو حصل العلم بالقتل الذي هو من المبصرات من الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة فهل للشاهد أن يشهد بالمسبب مضافاً إلى السبب بحجّة أنّ الملاك هو العلم الحاصل من الحس و المفروض أنّه حاصل من سماع الخبر المتواتر أو لا يكفي بحجّة أنّ المتيقن من الأدلة هو استناد الشهادة إلى العلم الحاصل من الحس المختص بنوع الواقعة و هو المشاهدة في المبصرات و السماع في المسموعات قولان.

ذهب صاحب الرياض إلى المنع، خلافاً لصاحب الجواهر حيث اختار الجواز و استدل القائل بالمنع بوجوه و هي:

1- إنّ الشهادة مأخوذة من الشهود و هو لغة الحضور، و المعتمد على السماع في المبصرات لم يحضر الواقعة فلا يقال له إنّه شهد و حضر بل يوصف الشاهد بأنّه لم يكن شاهداً و حاضراً للمشهود به.

2- إنّ في قول النبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و قد سئل عن الشهادة و قال: «هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع» «1» إشعاراً باعتبار الرؤية في الشهادة في خصوص المبصرات و مثله قول الإمام الصادق عليه

السَّلام: «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك». «2»

3- إنّ القطع المستند إلى الحس الباطني ربّما يختلف شدّة و ضعفاً فكيف يطمئن بشهادته و هذا.

4- و هذه الوجوه و إن اقتضى عدم الاكتفاء بالعلم المستند إلى التسامع و الاستفاضة في ما سيأتي من الموارد السبعة إلّا أنّ الإجماع كاف في الاكتفاء به فيها مضافاً إلى قضاء الضرورة و مسيس الحاجة إليه اللّذين استدلوا بهما للاكتفاء به.

______________________________

(1) النوري: المستدرك، الجزء 17، الباب 15 من كتاب الشهادات، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 331

5 و لو شككنا في كفاية السماع في مورد المبصرات فمقتضى الأصل هو عدم القبول. «1»

هذا خلاصة ما أفاده القائل بالمنع و أجاب صاحب الجواهر عن هذه الوجوه بما يلي بتلخيص منّا:

1- لو كان الحضور شرطاً في صحّة الشهادة فليس لنا أن نشهد بتنصيب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عليّاً عليه السَّلام للإمامة و لا على ما صدر من الخلفاء بالنسبة إلى بنته و حبيبته إذ لم نكن نحن حاضرين في الواقع مشاهدين إيّاه بل وصل إلينا من طريق السماع.

2- لو كان الإبصار بالعين شرطاً في الشهادة في مورد المبصرات لزم عدم صحّة شهادة الأعمى فيها مع ما ورد من صحّة شهادته إذا أثبت. «2»

3- إنّ الموارد السبعة مستثناة من اعتبار العلم في الشهادة حيث إنّه يشترط فيها العلم إلّا هذه الموارد بل يكفي فيها الظن المتاخم للعلم الذي يعبر عنه بالاطمئنان و قد غفل المستدل و زعم أنّها مستثناة من شرطية المشاهدة في المبصرات إلّا فيها. نعم عبارة المحقق كما يأتي في البحث

التالي يوهم ذلك.

4- إنّ الشهادة هو الإخبار الجازم من غير مدخلية الحضور فعندئذ يكون

______________________________

(1) السيّد علي: رياض المسائل: 2/ 381.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 42 من كتاب الشهادات، الحديث 1، 2، 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 332

العلم الضروري الحاصل من المتواتر كالعلم الحاصل من المشاهدة.

5- و الذي يدل على عدم اعتبارها أنّ الشهادة لا تتوقف على المشاهدة و السماع بل يكفي الذوق في المذوقات و الشم في المشمومات، و الحس في الملموسات. «1»

و يؤيد ما ذكره من أنّ استثناء السبعة يرجع إلى الاستثناء من لزوم تحصيل العلم هو أنّ العلامة ذكر في موردها العبارة التالية و قال: الشرط الرابع العلم و هو شرط في جميع ما يشهد به إلّا النسب، و الملك المطلق، و الموت، و النكاح، و الوقف، و العتق و الولاء فقد اكتفى في ذلك بالاستفاضة بأن تتوالى الأخبار عن جماعة من غير مواعدة أو تشتهر حتى يقارب العلم. «2»

و نقول إكمالًا لدليل المجوّز: إنّ الشهادة و إن كان يستعمل في معنى الحضور كما في قوله: (وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2) أي فليحضر عذابهما طائفة منهم، لكنّه استعمل في الذكر الحكيم في مطلق العلم الجازم قال سبحانه حاكياً عن لسان اخوة يوسف: (فَقُولُوا يٰا أَبٰانٰا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ مٰا شَهِدْنٰا إِلّٰا بِمٰا عَلِمْنٰا) (يوسف/ 81) مع أنّهم لم يحضروا وقت السرقة و إنّما علموا بها من إخراج صواع الملك من رحله، و مع ذلك قالوا «و ما شهدنا» و منه قوله سبحانه: (شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ وَ الْمَلٰائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ) (آل عمران/ 18) إلى غير ذلك

من الآيات الكثيرة التي استعملت فيها تلك المادة في مطلق العلم و التفريق بين هذه الآيات و الروايات الواردة في باب ثبوت الدعوى بشهادة العدلين بتخصص الثانية للمشاهدة و الرؤية، تفكيك بلا وجه بعد كون المادة موضوعة للمعنى الواحد و مستعملة في جميعها بملاك فارد.

و أمّا الروايتان فهما ناظرتان إلى لزوم تحصيل العلم القطعي و عدم كفاية الظن لا إلى أنّه تشترط المشاهدة في المبصرات.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 130.

(2) ابن المطهر: إرشاد الأذهان: 2/ 16.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 333

و الحقّ أنّ العمومات الواردة في باب الشهادات تعمّ العلم بكل خبر يكون العلم مستنداً إلى الحس سواء كان مدركاً بالمشاهدة أو بغيرها و لأجل ذلك نكتفي في غير المبصرات و المسموعات بالحواس الثلاثة الأُخر.

نعم يجب أن لا يتسرّع الشاهد فيتخيل الظنّ الغالب علماً كما أنّه ربّما يقطع بما لا يفيد القطع خصوصاً إذا انضم إليه بعض الأغراض النفسانية بخلاف العلم الحاصل بالأُمور المفيدة له. عرفاً عند المستقيمين الخالين عن الأغراض الذين لهم قابلية النقد و التميز بين المراتب فانّه لا يتخلّف غالباً. «1»

ما يكفي فيه التسامع و الشياع

و اعلم أنّ المحقّق ذكر أنّ مستند الشهادة إمّا المشاهدة أو السماع أو هما فقال، فما يفتقر إلى المشاهدة، الأفعال، إلى أن قال: «و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق، لتعذّر الوقوف عليه مشاهدة في الأغلب. «2»

و الظاهر أنّ قوله: «فما يكفي فيه السماع» تبيين للشق الثاني من مصادر الشهادة حيث جعل مصدر الشهادة المشاهدة تارة و السماع أُخرى، و يؤيد ذلك أنّه لا يذكر ما يكفي فيه السماع بعد ذلك شيئاً و إنّما ينتقل بعد ذكر أُمور ترتبط بالاستفاضة، إلى الثالث

أعني ما يشترط فيه المشاهدة و السماع.

و هناك احتمال آخر و هو أنّه ليس راجعاً لبيان حكم الشق الثاني بل العبارة ناظرة إلى الاستثناء من شرطية العلم و أنّه ليس بشرط في الموارد الثلاثة التي ذكرها و على ذلك فالسماع في عبارته بمعنى التسامع المرادف بالشياع و الاستفاضة. و تشهد بذلك عبارة العلّامة في الإرشاد حيث قال: الرابع من الشرائط العامة: العلم و هو شرط في جميع ما يشهد به إلّا النسب إلى آخر ما ذكره.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 131.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 132.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 334

و اعلم أنّ في الاستفاضة مسألتين:

الأُولى: ما ذا يثبت بالاستفاضة؟ و قد مرّ البحث عنهما في كتاب القضاء حيث قال المحقق: تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة و كذا يثبت بها النسب و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق، فللقاضي أن يقضى بهذه الأُمور لو ثبت عنده بالاستفاضة. «1»

الثانية: هل يجوز للشاهد أن يشهد بما ثبت عنده بالاستفاضة لا بالمشاهدة و الرؤية و هذه هي المبحوث عنها في المقام.

نعم إنّ المحقّق أيضاً ينتقل إلى البحث عن المسألة الأُولى أيضاً في المستقبل فانتظر.

و على كلّ تقدير فقد اختلفت كلمتهم فيما يصحّ الشهادة عليه بالاستفاضة فقد استثنى ابن الجنيد النسب فقط قال:

1- لا تصح الشهادة بالشائع من الأُمور إلّا أن تتصل الشهادة بالشهادة إلى إقرار، أو رؤية إلّا في النسب وحده. «2»

2- قال الشيخ: فأمّا ما يقع العلم به سماعاً فثلاثة أشياء: النسب و الموتِ و الملكِ المطلق.

و مراده من العلم هو الاطمئنان أو الظن القوي المتاخم للعلم بشهادة ذيل كلامه حيث قال:

أمّا النسب فإذا استفاض في الناس أنّ

هذا فلان بن فلان صار متحملًا للشهادة له بالنسب إلى أن قال: و لأنّه لا يمكنه التوصل إلى معرفته قطعاً فصار عالماً متحمّلًا للشهادة بالاستفاضة.

ثمّ إنّه قدس سره أفاض الكلام في الموت و الملك المطلق و قال ما هذا حاصله:

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 70.

(2) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات 177.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 335

و أمّا الموت فكذلك يتحملها بالاستفاضة لأنّ أسباب الموت كثيرة مختلفة فإذا سمع الناس يقولون قد مات فلان صار شاهداً بموته.

و أمّا الملك المطلق فكذلك إذا استفاض في الناس أنّ هذا ملك فلان من دار أو دابة أو عبد أو ثوب صار شاهداً بذلك لأنّ أسباب الملك كثيرة مختلفة، يُملك بالشراء، و الهبة، و الغنيمة، و الإحياء، و الإرث، فلهذا صار به شاهداً بالاستفاضة كالموت و النسب سواء. فإذا ثبت هذا فإنّما يشهد بالملك المطلق بالاستفاضة دون سببه فلا يقول ملكه بالشراء أو بالهبة أو بالإحياء أو غنيمة لأنّ هذه الأسباب لا يشهد بها بالاستفاضة. «1»

3- و قال في الخلاف: تجوز الشهادة على الوقف و الولاء و العتق و النكاح بالاستفاضة كالملك المطلق و النسب و للشافعي فيه وجهان فقال الاصطخري مثل ما قلناه و قال غيره لا يثبت شي ء من ذلك بالاستفاضة و لا يُشهد عليها بذلك دليلنا أنّه لا خلاف أنّه يجوز لنا الشهادة على أزواج النبي و لم يثبت ذلك إلّا بالاستفاضة لأنّا ما شهدناهم و أمّا الوقف فهو مبنيّ على التأبيد فإن لم تجز الشهادة بالاستفاضة أدّى إلى بطلان الوقوف لأنّ شهود الوقف لا يبقون أبداً فإن قيل يجوز تجديد شهادة على شهادة أبداً قلنا: الشهادة على الشهادة لا

تجوز عندنا إلّا دفعة واحدة و أمّا البطن الثالث فلا يجوز على حال. و على هذا يؤدي إلى ما قلناه. «2»

فلو ذكر الشيخ في المبسوط موارد ثلاثة، فقد أضاف في الخلاف إليها موارد أربعة فصارت الموارد سبعة.

4- و قال قطب الدين الكيدري: و لا يحصل العلم بالمشهود عليه إلّا بمشاهدة أو سماع أو بهما معاً إلى أن قال و الثاني (السماع): النسب و الموت و الملك المطلق يعلم ذلك بالاستفاضة. «3»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 181180.

(2) الطوسي: الخلاف، كتاب الشهادات، المسألة 15.

(3) قطب الدين الكيدري: اصباح الشيعة: 531.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 336

5 و قال المحقّق في المختصر النافع: أمّا السماع فيثبت به النسب و الملك و الوقف و الزوجية. «1» فقد ذكر منها أربعة مع أنّه اكتفى في الشرائع على الثلاثة حيث قال:

6- و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق لتعذّر الوقوف عليه. «2»

7- و قال العلّامة: و يثبت بالسماع: النسب و الملك المطلق و الوقف و الزوجية. «3»

و قد اقتصر على موارد أربعة: مع أنّه وسَّع الأمر في الإرشاد حيث قال: و العلم شرط في جميع ما يُشهد به إلّا النسب و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق و الولاية فقد اكتفى في ذلك بالاستفاضة. «4»

إنّ المستثنى منه في كلام الكيدري و المحقّق، هو الرؤية و المشاهدة و أنّه لا يعتبر فيها المشاهدة، لا أنّه لا يعتبر فيها العلم، نعم صريح كلام الشيخ و العلّامة، انّ المستثنى منه هو اعتبار العلم إلّا في هذه الموارد، و قد استثنى في بعض الكلمات أربعة، و في بعضها سبعة، إلى سبعة عشر.

و الدليل

على الاستثناء أمران:

1- مرسل يونس: «خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات، و التناكح و الأنساب و الذبائح و الشهادات» «5» إذا فسر الحكم بحكم الناس، و قد مرّ تفسيره في محلّه. «6»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: المختصر النافع: 289، ط مصر.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 133.

(3) ابن المطهر: تبصرة المتعلّمين.

(4) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 160.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(6) لاحظ ج 1 من هذا الكتاب.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 337

2 ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في قضية إسماعيل عند ما دفع بضاعته لشارب الخمر ليتّجر به و لامه الإمام و اعتذر اسماعيل بأنّه لم يره يشرب الخمر إنّما سمع الناس يقولون: «يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: (يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: يصدِّق اللّه و يصدّق للمؤمنين». «1»

أقول: الحديث الأوّل مرسل يشمل على غير ما ذكره الأصحاب، و لا صلة للثاني بالمقام إذ ليس المراد من التصديق ترتيب الآثار الشرعية، بل التحذر و العمل بالاحتياط و هو غير المطلوب.

و التحقيق أن يقال: لو كان الاستثناء راجعاً إلى اعتبار المشاهدة في المبصرات إلّا في هذه الموارد لتعذّر الوقوف عليها عن طريق الرؤية غالباً به كما هو صريح المحقق. مع افتراض حصول العلم من الشياع الموجود في مواردها، فإنّ الاستثناء إنّما يصحّ على القول بشرطية المشاهدة في المبصرات و أمّا لو قلنا بكفاية كون العلم مستنداً إلى الحس فلا موضوع للاستثناء، و على فرض صحّة الاستثناء فالظاهر أنّه يعمّ كلّ مورد يتعذّر الوقوف عليه عن طريق المشاهدة من غير فرق بين

السبعة و ما فوقها.

و إن قلنا: إنّ الاستثناء راجع إلى شرطية العلم في الشهود، إلّا في هذه الموارد كما هو صريح الشيخ في المبسوط و العلّامة في الإرشاد فيقع الكلام تارة في عمل الشاهد بالاستفاضة أو لا، و جواز إخباره عنه أُخرى، و الشهادة بها ثالثاً.

أمّا الأوّل فلا شكّ في حجّية الاطمئنان الحاصل من الاستفاضة للشاهد كما يجوز الإخبار عن هذه الأُمور، سبباً (الاستفاضة) و مسبباً أي النسب و الموت و غيرهما.

إنّما الكلام في الشهادة على هذه الأُمور، فلا يحكم بالجواز إلّا بعد الدليل

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 6 من أبواب الوديعة، الحديث 1. و الآية 61 من سورة التوبة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 338

المعتبر على جوازها في هذه الموارد كالسيرة لأنّ اعتبار العلم في الشهادة أمر قطعي لا يمكن العدول عنه إلّا بمثله و لعلّ السيرة موجودة في النسب و النكاح، الوقف دون سائرها خلافاً للشيخ حيث قال: و أقلّ ما يتحمّل به الشهادة أن يسمع عدلين فصاعداً يقولون ذلك فإذا شهد بذلك فهو شهادة ابتداء و لا يشهد به من حيث الشهادة على الشهادة. «1» و أورد عليه المحقّق بأنّ الملاك لو كان الظن فإنّه يحصل بخبر الواحد، مع أنّه لا يجوز الشهادة معه على المسبب. «2»

نعم و أمّا الشهادة على نفس الاستفاضة فهو جائز مطلقاً لكونه أمراً سماعياً و المفروض وجود شرطها لكنّها لا تنفع في القضاء.

فرعان:
الأوّل: إذا شهد بالملك و سببه

قد تعرفت إنّ الثابت بالاستفاضة أُمور خاصة، و مما يثبت بها هو الملك المطلق أي ما لا يعيّن سببه.

ثمّ إنّ سبب الملك على قسمين: قسم يثبت مثل مسبّبه بالاستفاضة كالموت فانّه سبب للميراث الذي هو عبارة أُخرى عن

ملك الوارث بموت المورّث، فالسبب، و مسبّبه هنا سيّان في الثبوت بالاستفاضة. و قسم لا يثبت بها و إن كان مسبّبه يثبت بها، كالبيع و الهبة و الاستغنام.

فإذا استفاض أنّ هذا ملك زيد و ورثه عن أبيه، فللشاهد أن يشهد بالمسبب و سببه لأنّ كليهما يثبتان و أمّا إذا استفاض أنّ هذا ملك لزيد اشتراه من عمرو فليس له إلّا أن يشهد بالمسبّب دون السبب لأنّه لا يثبت بها فلو شهد بالأمرين هل تقبل الشهادة بالنسبة إلى المسبّب الذي كانت شهادته مقبولة فيها

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 18.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 338

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 133.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 339

لو كانت مجردة عن الشهادة على السبب؟ فيه وجهان:

1- لا تقبل الشهادة، لأنّها لا تبعّض.

2- تقبل و تلغى الضميمة و هي الشهادة على السبب الذي لا يثبت بالاستفاضة، لوجود المقتضي للقبول في أحدهما دون الآخر و الأخير مختار المحقق و هو الحقّ، إذ لا تبطل الشهادة بضم الشهادة على أمر لا تقبل فيه الشهادة.

و أمّا الثمرة فهي مبنيّة على قاعدة مسلّمة لدى العامة و كثير من الأصحاب و قد مرّ بيانها عند البحث عن تعارض البيّنتين و هي أنّ البيّنة المتضمّنة لبيان السبب، متقدّمة على البيّنة المجرّدة عنه، المقتصرة بالمسبب.

و على ضوء هذا فنذكر فروعاً ترجع إلى القسمين:

1- فلو شهد البيّنة بالاستفاضة على السبب و المسبب و قال: استفاض قول الناس بأنّ الدار ملك لزيد، ورثه

عن أبيه الميّت و شهدت بيّنة أُخرى عن غير طريق الاستفاضة على خلافها، و أنّه ملك لبكر اشتراه من خالد، تكون البيّنتان متعارضتين لتساويهما في الشهادة على الأمرين و ثبوتهما حسب الفرض بكلتا البيّنتين.

2- و لو شهدت البيّنة الثانية على المسبّب فقط دون السبب رُجّحت البيّنة الأُولى عليها، لاشتمالها على الشهادة بالمسبّب و السبب، المقبولة فيه الشهادة دون البيّنة الأُخرى.

هذا كلّه حول القسم الأوّل و أمّا القسم الثاني أي ما يثبت المسبّب بالاستفاضة دون السبب فنقول:

3- لو قال الشاهد استفاض قول الناس بأنّ الدار لزيد اشتراها من عمرو، فعلى القول بحجّيته في خصوص المسبب و أنّ الضميمة غير قادحة لو تعارضت مع بيّنة أُخرى غير مستندة إلى الاستفاضة و شهدت على المسبّب و سببه، رجّحت الثانية على الأُولى، لاشتمالها على ذكر السبب و عدم قبول شهادة البيّنة الأُولى في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 340

جانب السبب.

4- تلك الصورة و لكن كانت البيّنة مجرّدة عن الشهادة بالسبب، لتكافأت الشهادتان. كلّ ذلك على القول بالتبعيض في مفاد الشهادة و إلا ففي الثالث و الرابع، تُقَدَّم البيّنة الأُخرى على البيّنة المستندة على الاستفاضة.

و لا يخفى وجود التعقيد في عبارة المحقّق في المقام. ثمّ إنّه يريد من قوله «و الفرق تكلف»: أنّ التفريق في القسم الثاني (أي ما لا يثبت فيه السبب بالاستفاضة) بالقبول فيما إذا شهدا بالملك المطلق مجرداً عن ذكر السبب و عدم قبوله فيما إذا اشتمل على ذكره كالبيع تكلف و ذلك لأنّ ضميمة ما لا يثبت بالاستفاضة لا تقدح في ثبوت ما يثبت بها أي الملك المطلق.

الثاني: إذا تعارض السماع المستفيض مع اليد

لا يشترط في الشهادة بالاستفاضة على الملك المطلق، انضمام يد المشهود له

أو تصرفه، لما مرّ من أنّ الملك المطلق يثبت بها لتعدد أسبابه و خفاء بعضها فلا يفتقر إلى انضمام أمر آخر، و لو اشترط لزم ردّ الشهادات الكثيرة إلّا أنّ الكلام فيما إذا كان لواحد من المدّعيين يد و لآخر سماع مستفيض ففي ترجيح أحدهما وجهان:

1- ترجيح السماع لأنّه يفيد الملك الحال، بخلاف اليد لأنّها تحتمل غير الملك من العارية و الإجارة و الغصب بخلاف الملك الصريح.

2- الثاني ما اختاره المحقّق من تقديم اليد على السماع المستفيض و علّله بوجه عليل و قال لأنّ السماع قد يحتمل إضافة الاختصاص المطلق المحتمل للملك و غيره، و لا تزال اليد بالمحتمل. «1»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 134.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 341

و حاصله: أنّ السماع مشترك بين الملك و الاختصاص كما هو مفاد قولهم هو لزيد: فيحتمل أنّه ملك زيد أو مختص به.

يلاحظ عليه: أنّه خلف الفرض لأنّ المفروض أنّ الاستفاضة دلّت على أنّه ملكه لا أنّه من مختصاته.

مسائل ثلاث
المسألة الأُولى: فيما إذا كان هناك يد و تصرف دون الاستفاضة

كان المذكور في الفرع السابق أمرين:

1- تجوز الشهادة بالاستفاضة و إن كانت مجردة عن اليد و التصرف.

2- إذا كان في جانب يد و في جانب آخر سماع مستفيض فالمحقّق على تقديم قول ذي اليد، و قد عرفت أنّ الحقّ خلافه.

و المذكور في هذه المسألة أمران:

أ: عكس الأمر الأوّل، أي إذا كانت هناك يد و تصرّف هل تجوز الشهادة بالملك المطلق أو لا؟

ب: إذا كانت يد، بلا تصرف فهل تجوز الشهادة بالملك المطلق له أو لا؟ و كان على المحقّق ذكر الجميع في مقام و هو أحكام الأُمور الثلاثة: اليد و التصرّف و الاستفاضة من حيث الاجتماع و الافتراق.

أمّا الصورة الأُولى: فقال

الشيخ في الخلاف: من كان في يده شي ء يتصرف فيه بلا دافع و لا منازع بسائر أنواع التصرف جاز أن يُشهَدَ له بالملك طالت المدة أم قصرتْ و به قال أبو حنيفة، و قال الشافعي: جاز أن يُشْهَد له باليد قولًا واحداً فأمّا الملك فينظر فيه فإن طالت المدّة فعلى وجهين، قال الاصطخري: جاز أن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 342

يُشهد له بالملك و قال غيره: لا يجوز. و إن قصرت المدّة مثل الشهر و الشهرين فلا يجوز قولًا واحداً. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضاً لا خلاف أنّه يجوز أن يشتري منه فإذا حصل في يده يدعي أنّه ملك فلولا أنّ ظاهر تصرّفه يدل على ملكه لم يجز له إذا انتقل إليه بالبيع، أن يدعي أنّه ملكه. «1»

و قد عنونه في المبسوط و ذكر قولين و لم يرجح أحدهما على الآخر قال: فأمّا إن كان في يده دار يتصرف فيها مطلقاً من غير منازع بالهدم و البناء و الإجارة و الإعارة و غير ذلك فيسوغ للشاهد أن يشهد له باليد بلا إشكال و أمّا بالملك المطلق فلا تخلو المدة من أحد أمرين إمّا أن يكون طويلة أو قصيرة، فإن كانت طويلة مرّت عليه السنون على صورة واحدة، من غير منازعة، قال بعضهم يُشهد له بذلك لأنّ عرف العادة قد تقرّر أنّ من تصرف مطلقاً من منازع «2» كان متصرفاً في ملكه.

و قال غيره: إنّ البيّنة تشهد له باليد و التصرف و أمّا بالملك مطلقاً فلا لأنّ اليد يختلف فتكون مستعيراً أو مستأجراً أو مالكاً أو أميناً أو وصياً و التصرف واحد، فإذا اختلفت الأيدي و أحكامها، لم

يجز أن يُشهد بالملك المطلق.

و أمّا إن كانت المدّة قصيرة كالشهر و الشهرين و نحو ذلك فإنّه لا يُشهَد له بالملك لأنّ الزمان قصير على هذه الصورة يتفق كثيراً فلا يدل على ملك و يفارق هذا، الزمانَ الطويل لأنّه في العرف أنّه في ملك. «3»

أقول: قد تقدم اعتبار العلم بالمشهود له علماً قطعياً لا يقبل احتمال الخلاف كما هو المتبادر من التمثيل بالشمس و الكف، فلو كانت اليد و التصرف في مدّة خاصة من غير منازع مفيداً للعلم بأنّ صاحب اليد المتصرف مالك جاز أن

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 14 و قد أشار في ذيل كلامه إلى مفاد حديث حفص بن غياث. لاحظ ص 326 من هذا الجزء.

(2) كذا في النسخة و الصحيح من غير منازع.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 182181.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 343

يُشهد له بالملك، دون ما إذا لم يكن كذلك، خصوصاً إذا وجد منازع و أقام بيّنة.

إلّا إذا قلنا: «بأنّه يكفي قيام الأمارة المفيدة للظن الغالب في الشهادة، بحجّة جوازها عند الاستفاضة». و هو كما ترى أشبه بالاستدلال بالقياس و أمّا ادعاء الإجماع كما في الخلاف ففي غير محلّه و لعلّه أراد به وجود الرواية و سيوافيك الكلام فيها.

و أمّا الصورة الثانية: أي تجرّدت اليد عن التصرف فقال المحقّق بأنّه تجوز الشهادة باليد، و أمّا الشهادة بالملك المطلق فقال: قيل نعم و هو المروي و فيه إشكال. «1»

القول بالجواز الذي حكاه المحقّق هو الذي نقله في المسالك عن العلّامة و أكثر المتأخرين مستدلًا برواية حفص بن غياث الّتي مرّت غير مرّة. «2» و قد عرفت سابقاً، من أنّ الرواية أجنبية عن الشهادة في

مقام القضاء، و المراد من الشهادة الواردة فيها هو الإخبار بأنّ العين له و يؤيده ذيلها: «و لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

ثمّ إنّ المحقّق استشكل على جواز الشهادة باليد المجرّدة على الملك بأنّ اليدَ لو أوجبت الملكَ له، لم تُسمع دعوى من يقول: الدار التي في يدِ هذا لي، لأنّه بمنزلة أن يقال هذا ملك لي.

أقول: هذا الإشكال ذكره الشيخ في المبسوط في الصورة الأُولى و لم يذكره في الصورة الثانية، و المحقّق عكس (و الحقّ جريانه في كلتا الصورتين) قال: و لأنّ اليد لو كانت ملكاً لوجب إذا حضرا عند الحاكم فقال المدّعي أدعي داراً في يد هذا، أن لا يسمع دعواه لأنّه قد اعترف بالملك له فلمّا سمعت دعواه ثبت أنّ اليد

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 134.

(2) الوسائل: 18، الباب 25، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 344

لا تدل على ملك و لا يكون ملكاً. «1»

و العجب أنّ الشيخ مع ذكر هذا الإشكال في الصورة الأُولى عنون الثانية: أي اليد المجرّدة عن التصرف و ذكر فيه وجهين: الشهادة باليد، و أمّا الملك فقال بعضهم: يشهد له بالملك و روى أصحابنا أنّه يجوز له أن يشهد بالملك كما يجوز له أن يشتريه ثمّ يدّعيه ملكاً له. «2»

و الحقّ أن يقال إنّه لو قلنا بصحّة التنزيل في العبارة لما كان هناك فرق بين الصورتين إلّا أنّ المهم هو عدم صحّة التنزيل، فإنّ القول «بأنّ هذا ملك لزيد و أنا أدعيه» إقرار قاطع بالملكية له، و لا يقبل الإنكار بعد الإقرار، و لا يعبأ بمثل هذا الكلام الذي يناقض صدره ذيله

و هذا بخلاف القول بأنّ العين التي في يد زيد، ملك لي فإنّه إقرار بوجود أمارة الملكية في جانبه، و في الوقت نفسه يدعي كونها خاطئة.

و إن شئت قلت: الاعتراف بوجود الأمارة ليست اعترافاً بصحّتها، لأنّها تنقسم إلى صحيحة و خاطئة، بخلاف الإقرار، فلا يسمع ادعاء الخطاء فيه.

المسألة الثانية: في أنّ الوقف و النكاح يثبت بالاستفاضة

قد تعرفت فيما سبق أنّه يبحث في الاستفاضة تارة عمّا يثبت بها، و أُخرى عن جواز الاعتماد عليها في مقام الشهادة، و قد مرّ البحث عن الأوّل في صدر كتاب القضاء، كما أوعزنا إليه سابقاً، و أمّا الثانية فكان البحث فيه آنفاً، لكن المحقّق عاد إلى المسألة الأُولى ثانياً في هذا المقام و قال: الوقف و النكاح يثبت بالاستفاضة أمّا على القول بإفادتها العلم فلا غبار في ثبوتهما بها و أمّا على القول بإفادتها الظن فقد علّله بما تقدّم نقله عن الشيخ فيما سبق و إليك حاصل كلامه

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 182.

(2) يشير إلى مضمون رواية حفص.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 345

في ثبوتهما:

أمّا الوقف فلو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف مع امتداد الأوقات و فناء الشهود. و أمّا النكاح فلأنّا نقضي بأنّ خديجة عليها السَّلام زوجة النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كما نقضي بأنّها أُمّ فاطمة عليها السَّلام.

فإن قلت: لا حاجة لنا في الثاني بالاستفاضة، لقيام التواتر على زوجيتها للنبي و أُمومتها لبنته.

قلت: إنّ التواتر فاقدة للشرط لأنّ الطبقة الأُولى لم يخبروا عن مشاهدة العقد.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ تخصيص الأمرين بالثبوت بالاستفاضة و إخراج غيرهما عنه، ينافي ما ذكره في كتاب القضاء من أنّه يثبت بها أُمور سبعة «1» كما مرّت.

و ثانياً: أنّ بقاء الوقوف لا

يتوقف على سماع الاستفاضة، بل يكفي قبول الشهادة على الشهادة في الثالثة و ما فوقها، و ما دلّ على اختصاص حجّية الشهادة عليها بالثانية، يخصص بمورد الوقوف و ذلك لأنّه لو لا السماع لبطلت الوقوف.

و إن شئت قلت: ليس تخصيص ما دلّ على شرطية العلم، في الشهادة أولى من تخصيص دليل اختصاص حجّية الشهادة على الشهادة، بالثانية منها و يمكن أن يقال: بما أنّ لسان دليل شرطية العلم آب عن التخصيص فيخصص دليل الشهادة على الشهادة لأجل الضرورة المدعاة في المقام.

و أمّا النكاح فيمنع، افتقاد الطبقة الأُولى شرط التواتر، و ذلك لأنّ أبا طالب كان هو المتصدي لتزويج ابن أخيه فخطب خطبة بليغة، و كان في المجلس وجوه بني هاشم و شخصيات من قريش، فخرجوا عن المجلس، فأخبروا بما رأوه و

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 67.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 346

شاهدوه. «1»

و الحقّ أن يقال: لو أفادت الاستفاضة و اليقين سادت في حقول العمل به، و الإفتاء على وفقها، و الشهادة بها من غير فرق بين موضوع دون موضوع و إن لم تفد إلّا الظن المتاخم للعلم الذي نعبر عنه بالاطمئنان فهو حجّة في حقول العمل و الإفتاء، دون الشهادة، إلّا إذا قامت السيرة عليه و لعلّها موجودة في النسب و الوقف و النكاح.

المسألة الثالثة: في شهادة الأخرس

الأخرس يصحّ منه تحمّل الشهادة و أداؤها، لإطلاق الأدلّة. قال الشيخ: يصحّ من الأخرس تحمل الشهادة بلا خلاف و عندنا يصحّ منه الأداء و به قال مالك و أبو العباس بن سريج و قال أبو حنيفة و باقي أصحاب الشافعي: لا يصحّ منه الأداء دليلنا ما قلناه في المسألة الأُولى (شهادة الأعمى) سواء.

«2»

و لو حقّق الحاكم شيئاً من إشاراته القائمة مقام اللفظ من غيره من إقرار و عقد و غيرهما، بنى عليه، و إلّا يرجع إلى مترجم، يترجم معنى إشاراته و هو مفسر و مبيّن لما شهد به لا شاهد به و لأجل ذلك ليست الترجمة من مقولة الشهادة، فيكفي مترجم واحد لما قلناه من كفاية خبر الواحد في الموضوعات في غير باب الشهادة و لأجل ذلك قال المحقّق: و لا يكون المترجمان شاهدين على شهادته بل يثبت الحكم بشهادته أصلًا لا بشهادة المترجمين فرعاً.

***

3- من مستند علم الشاهد

هذا هو القسم الثالث من مستند علم الشاهد الذي أشار إلى أقسامه

______________________________

(1) بحار الأنوار: 16/ 16؛ مناقب آل أبي طالب: 1/ 30.

(2) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 18.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 347

الثلاثة فيما سبق و قال و مستندها:

1- إمّا المشاهدة. 2 أو السماع. 3 أو كلاهما.

و قد مضى البحث عن الأوّلين فقال حول الأوّل: فما إلى المشاهدة، الأفعال، لأنّ آلة السمع لا تدركها. و قال حول الثاني: و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق. فابتدأ في المقام بالثالث و قال: ما يفتقر إلى السماع و المشاهدة، كالنكاح و البيع و الشراء و الصلح و الإجارة فإنّ حاسّة السمع لا يكفي في فهم اللفظ و يحتاج إلى البصر لمعرفة اللافظ فلا بأس بشهادة من اجتمع له الحاستان.

أقول: إذا كان مستند الشهادة في الأفعال هو الرؤية و المشاهدة، و مستندها فيما يتعذر الوقوف عليه عن طريقها في الأغلب، هو السماع كالنسب و غيره، فمستندها في العقود و الإيقاعات و ما أشبههما ممّا يترتب الأثر على لفظ اللافظ كالنذر و اليمين،

و القذف و السب، هو المشاهدة و السماع معاً لأنّ الشهادة به يتوقف على وجود حاستين و إعمالهما حتى تعرف بالبصر اللافظ، و يفهم بالسماع اللفظَ فمن اجتمعت فيه حاسّتان، فله أن يشهد بالعقد و الإيقاع.

إنّما الكلام في الأعمى فبما أنّه واجد لإحدى الحاستين دون الأُخرى فلا تقبل إلّا فيما كان السماع كافياً أو كان عروض العمى غير ضارّ أو غير ذلك فتقبل شهادته في الموارد التالية:

1- إذا شهد، بنفس سماع العقد و الإيقاع من غير نظر إلى اللافظ.

2- إذا شهد بما يكفي فيه السماع و الاستفاضة كالموت و النسب.

3- إذا تحمّل و شهد و هو بصير، ثمّ عرضه العمى.

4- إذا تحمّل و هو بصير و كان أعمى عند الأداء.

نعم فرّط أبو حنيفة في ردّ شهادة الأعمى فقال هو و تلميذه محمّد بن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 348

الحسن الشيباني: لا يصحّ منه التحمّل و لا الأداء فيما لا يحتاج إلى المشاهدة فجعلوا العمى كالجنون و قالا أشدّ من هذا: قالا لو شهد بصيران عند الحاكم فسمع شهادتهما ثمّ عميا أو خرسا قبل الحكم بها، لم يحكم كما فسقا قبل الحكم بشهادتهما. «1»

أقول: إنّ مدرسة الرأي لا تنتج إلّا أمثال هذه الفتاوى الشاذة عن الكتاب و السنة، فكيف تردّ شهادته إذا شهد و هو جامع للشرائط، و إن افتقد بعضها بعد إقامتها فليس العمى إلّا كموت الشاهد قبل الحكم. و كيف يقيسه بالفاسق، مع الفرق الواضح بينهما فالمقتضى في الثاني غير موجود، بخلاف الأعمى؟! و ما تصوره مانعاً ليس بمانع.

5- إذا تحمل الشهادة و هو أعمى محرزاً القائل و عارفاً بصوته، بحيث حصل له العلم بغير المشاهدة كما ربّما

يتفق فيما إذا كان بينه و بين المشهود عليه صلة فيعرفه بصوته و كلامه فلو تحمل و الحال هذه و أدّاها كانت حجّة و إلى هذه الصورة يشير المحقّق و يقول: لو عرف صوت العاقد معرفة يزول معها الاشتباه، قيل لا يقبل لانّ الأصوات تتماثل و الوجه أنّها تقبل لأنّ الاحتمال يُدفع باليقين لأنّا نتكلم على تقديره. «2» و لشمول الإطلاقات للمقام مضافاً إلى صحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: سألته عن شهادته الأعمى، فقال: «نعم إذا أثبت». «3»

6- أن يشهد على اللفظ، و العاقد مستنداً إلى تعريف العدلين على أنّ العاقد أو الموقع هو فلان فيجوز كما يشهد البصير على تعريف غيره، و في الجواهر: يكون الأعمى شاهد أصل لا فرع بلا خلاف أجده كما اعترف به في الرياض بل

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 17.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 135.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 42 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 349

عن ظاهر السرائر الإجماع عليه. و يؤيّده دخول المورد في قوله «إذا أثبت» بناء على أنّ المراد الإثبات الأعم و لو بالبيّنة، كما هو المتبادر ممّا ورد في الشهادة على المرأة إذا حضر من يعرفها «1» و قد سبق الكلام فيه.

7- إذا قبض على رجل لا يعرفه، و تحمل شهادته و أدّى عليه و الحال هذه فتمضى شهادته بلا كلام و قال الشهيد الثاني: و هذا ممّا استثناه القائلون بالمنع من قبول شهادته و سمّوها الضبطة و هي أن يضع رجل فمَه على أُذُن الأعمى و يدُ الأعمى على رأسه بحيث يتيقن أنّه يسمع منه فيقرّ

بطلاق زوجته المشخصة و لا يزال يضبطه حتى يشهد بها، سمع منه عند الحاكم، نعم فيه عسر و لكن العسر لا يمنع من القول. «2»

و بذلك بان أنّ ردّ شهادة الأعمى على إطلاقه ليس بصحيح.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 43، من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 458.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 350

المقصد الثالث في المواضع التي تقبل فيها الشهادة من أقسام الحقوق

اشارة

و قد قسّمها المحقّق إلى حقّ للّه تعالى، و حقّ للآدمي فيكون التقسيم ثنائياً، مع أنّ مقتضى صيغة الجمع أن يكون ثلاثيّاً أو أزيد، لكن بما أنّ كلًا من القسمين ينقسم إلى أقسام، صحّ الإتيان بصيغته، و الإتيان بهما في صدر البحث لأجل الإشارة إلى أنّ جميع الأقسام يرجع إلى هذين القسمين.

و الغرض من عقد هذا البحث، بيان العدد المعتبر في الشهادات في كلّ مورد، و اعتبار الذكورة في موارد خاصة.

و بما أنّ المعتبر في الشهادة، التعدّد، فالاكتفاء بالشاهد الواحد في مورد الهلال على رأي أو بالشاهد و اليمين في الأموال و الحقوق، كأنّه استثناء من الدليل.

فلنذكر أحكام حقّ اللّه و هو على أقسام:

الأوّل: ما لا يثبت إلّا بأربعة رجال و هو ثلاثة: الزنا و اللواط و السَّحق و يدل على اعتبارها في الزنا آيات ثلاث:

1- (وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) (النساء/ 15).

كان في صدر الإسلام إذا فجرت المرأة حُبِستْ في البيت أبداً حتى تموت ثمّ نسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في غيرهم. «1»

______________________________

(1) الطبرسي: مجمع البيان: 2/ 20.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 351

2 (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً) (النور/ 4).

3- (لَوْ لٰا جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اللّٰهِ هُمُ الْكٰاذِبُونَ) (النور/ 13).

ترى اتّفاقها في طريق ثبوت الزنا و أنّها الأربعة من الرجال. و إن اختلفت في جزاء الزانية ففي الأولى منها، أنّ جزاءها الإمساك في البيوت حتى يتوفّاهن الموت، و في الثانية و الثالثة، هو الجلد، و قد نسخت الآية الأُولى حكماً و جزاء، لا طريقاً، فالطرق إلى إثباته أربعة، ما مسها النسخ، و إن مسّ جزاء الزنا بفضل الآيتين، و بذلك يعلم أنّ

الاستدلال بالآية الأُولى لا غبار عليه إذ النسخ شمل الحكم، لا الطريق.

أضف إلى ذلك تضافر النصوص من أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام على ثبوته بالأربعة فلاحظ. «1»

أمّا الثاني: أي اللواط

فقد اتّفقت كلمتهم على أنّه مثل الزنا و لم يرد فيه نص صريح لكن يمكن استظهار الاعتبار مضافاً إلى كونه أغلظ من الزنا، فيعتبر فيه ما هو المعتبر في الزنا بوجه أولى من بعض النصوص، حيث ورد النص على أنّ اللواط يثبت بالإقرار أربعاً، مثل الزنا، كما في صحيح مالك بن عطية الثقة، و فيه فلمّا كان في الرابعة قال (أمير المؤمنين) له: «يا هذا إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهنّ شئت إلى آخره». «2»

و إذا أُضيف إلى ذلك ما ورد في الزنا من أنّ كلّ إقرار شهادة «3» حيث قال

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب حدّ الزنا.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب حدّ اللواط.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 16 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 352

الإمام: اللّهمّ انّه قد ثبت عليه أربع شهادات (و المتبادر من الحديث أنّه بمنزلة الشهادة، مطلقاً، لا في خصوص مورد الزنا) يتمّ المطلوب مضافاً إلى ما عرفت من الأولوية. نعم المخالف أبو حنيفة حيث اكتفى برجلين، و الباقون من الفريقين على الأربعة و قال الشيخ: لا تثبت الشهادة باللواط إلّا بأربعة رجال إلى أن قال: و قال الشافعي: إن قلنا إنّه (اللواط) كالزنا لم يثبت إلّا بشهادة أربعة ذكور عدول و كذلك إن قلنا إنّه أغلظ إلى أن قال: و قال أبو حنيفة: يثبت جميع ذلك

بشهادة شاهدين دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «1»

و أمّا الثالث: أي السحق

فلو قلنا بكونه من مصاديق الفاحشة فتشمله الآية الأُولى المنسوخة حكماً لا طريقاً و إن قلنا باختصاصها بالزنا، فيمكن استظهار اعتبارها من تشبيهه بالزنا تارة و اللواط أُخرى ففي صحيح ابن أبي عمير حدّها حدّ الزاني. «2» و في مرسلة رواية مكارم الأخلاق عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إنّ السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال. 3

يلاحظ على الاستدلال بأنّ الثاني مرسل، و أمّا الأوّل فالظاهر أنّ وجه التشبيه هو الاشتراك في الحدّ، دون طريق الإثبات و لأجل ذلك تصبح المسألة بلا دليل إلّا أن يتمسّك بالانفاق، أو كونه موافقاً للاحتياط إذ ما دون الأربعة على خلافه و الحدود تدرأ بالشبهات.

ثبوت إتيان البهائم

لم يرد في إتيان البهائم نصّ في طريق ثبوته، قال الشيخ في الخلاف: فثبوته بشهادة شاهدين و قال الشافعي إن قلنا إنّه كاللواط أو كالزنا لا يثبت إلّا بأربعة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الحدود، المسألة 8.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب حدّ السحق و القيادة، الحديث 1 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 353

ذكور و الباقون على ثبوته بشهادة شاهدين «1» و الحقّ ثبوته بشاهدين لإطلاق دليل حجّية البيّنة و لا مخصص بالنسبة إليه و إن ورد في الزنا و اللواط. و قياسه على اللواط حجّة على أصحابه فقط على أنّه فيما إذا لم يكن إطلاق، نعم ذهب الشيخ في النهاية إلى اعتبار الأربعة قال: و يثبت الحكم بذلك بقيام البيّنة، و هي شهادة أربعة نفر عدول أو إقرار المرأة على نفسها أربع مرّات. «2» و بما أنّ النهاية من قبيل الإفتاء بالنصوص أو بمضمونها بتجريده عن الأسانيد

فلعل الشيخ عثر على دليل فتأمل و هو أيضاً خيرته في المبسوط قال: و أمّا الشهادة عليه فلا يقبل إلّا بأربعة رجال «3»، لكن الحقّ هو الاكتفاء بالبيّنة العادلة.

شهادة النساء في الفقه الإسلامي

اشارة

لا شكّ أنّ في الفقه الإسلامي فوارق بين أحكام الرجل و المرأة، نابعة عن اختلاف خلقتهما و الخصوصيات الموجودة في فطرتهما و من الفوارق، هو افتراقهما في باب الشهادة فهناك موارد، تقبل شهادة كليهما، و موارد تقبل شهادة الرجل دون المرأة، و هناك مورد أو موارد، الأمر على العكس فإليك تبيين تلك الموارد، على ضوء كلام المحقّق.

فهنا مقامان:
اشارة

المقام الأوّل: شهادتهنّ في حقوق اللّه.

المقام الثاني: شهادتهنّ في حقوق الآدمي.

[المقام الأوّل: شهادتهنّ في حقوق اللّه.]
اشارة

و إليك الكلام في الأوّل:

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الحدود، المسألة 8.

(2) الطوسي: النهاية: 706.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 354

شهادة النساء في الزنا
اشارة

هل تجوز شهادة النساء في الزنا و لو في بعض الصور فيه، أقوال:

1- ما ذهب إليه الشيخ، و ابن البرّاج، و ابن حمزة، و ابن إدريس و المحقّق و ابن سعيد و غيرهم إلى جواز شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الرجم، و أربع نساء مع رجلين في الجلد.

2- ما اختاره الصدوق و والده و أبو الصلاح الحلبي من ثبوت الحدّ، الأعم من الرجم و الجلد، بثلاثة رجال و امرأتين، و عدم ثبوت شي ء منهما في غير هذه الصورة، كرجلين و أربع نسوة. و يمكن استظهاره من عبارة ابن الجنيد، على ما نقله العلّامة في المختلف و سيوافيك نصّه.

3- ما ذهب إليه المفيد و سلّار من عدم جواز شهادتهنّ في الزنا مطلقاً في تمام الصور.

4- ما اختاره الشيخ في كتاب الشهادات من كتاب الخلاف من ثبوت الرجم في كلتا الصورتين، و الجلد بشهادة رجل و ست نسوة و هو قول شاذّ.

إذا عرفت الأقوال، فإليك دراستها، مع نقل كلمات القائلين.

القول الأوّل [جواز شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الرجم، و أربع نساء مع رجلين في الجلد.]

حاصله: إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان يثبت الأمران الرجم و الجلد، و إذا شهد رجلان و أربع نساء يثبت خصوص الجلد:

1- قال الشيخ: و أمّا ما يراعى فيه مع شهادة النساء، شهادةُ الرجال. فكالرجم فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان على رجل بالزنا قُبلتْ شهادتُهم، و وجب على الرجل الرجم إن كان محصناً، و إن شهد رجلان و أربع نسوة بذلك، قُبلتْ شهادتهنّ و لا يُرجم المشهود عليه بل يحدّ حدّ الزاني. و إن شهد رجل و ست

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 355

نساء أو أكثر من ذلك لم يجز قبول شهادتهم و جُلِدوا كلّهم حدّ الفرية. «1»

2-

قال ابن البرّاج: فإن شهد أربعة نفر ثلاثة رجال و امرأتان قُبلَتْ شهادتُهم في ذلك و وجب بشهادتهم الرجم، فإن شهد رجلان و أربع نساء لم يجب الرجم بهذه الشهادة، و يجب بها الحدّ الذي هو الجلد، فإن شهد رجل، و ستّ نساء أو أقلّ أو أكثر لم تقبل هذه الشهادة في الزنا و وجب على كلّ واحد منهم حدّ الفرية. «2»

3- و قال ابن حمزة: و الآخر في الزنا و السحق، فإن شهد ثلاثة رجال و امرأتان لزم بها الرجم على المحصن و إن شهد رجلان و أربع نسوة على المحصن لزم الجلد دون الرجم و مع اختيار هذا القول في فصل إعداد البيّنات «3» نسبه إلى القيل في كتاب الجنايات. 4 و قال: و إنّما يثبت بأحد شيئين بالبيّنة و بإقرار الفاعل على نفسه و البيّنة أربعة رجال من العدول و قيل: بثلاثة رجال و امرأتان، أو رجلان و أربع نسوة، و يلزم بشهادة رجلين و أربع نسوة، الجلد دون الرجم.

4- و هو خيرة ابن إدريس في السرائر 5 و المحقّق في الشرائع 6 و ابن سعيد في الجامع 7 إلى غيرهم. و يمكن استظهاره من عبارة ابن الجنيد حيث خصّ الرجم بثلاثة رجال و امرأتين 8 و من المعلوم أنّ ثبوت الرجم فيه يلازم ثبوت الجلد بوجه أولى، و لعلّ الاكتفاء به وحده، لأجل الإشارة إلى عدم الرجم في الصورة الثانية، و ثبوت الجلد فيها و قال سيّدنا الأُستاذ: يثبت الزنا بالبيّنة، و يعتبر أن لا تكون أقلّ من أربعة رجال أو ثلاثة رجال و امرأتين، و لا تقبل شهادات

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 332، باب شهادة النساء، و سيوافيك أنّه أفتى في

الخلاف على خلاف النهاية.

(2) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 4526.

(3) 3 و 4 ابن حمزة: الوسيلة، فصل إعداد البيّنات: 222، و كتاب الجنايات: 409. و لا يفوتنك أنّه عطف السحق على الزنا، و هو قول شاذّ.

(4) 5 ابن إدريس: السرائر: 2/ 137.

(5) 6 نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 136.

(6) 7 ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 542.

(7) 8 المختلف: كتاب الشهادات، 163.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 356

النساء متفردات و لا شهادة رجل و ست نساء فيه، و لا شهادة رجلين و أربع نساء في الرجم و يثبت بها الحدّ دون الرجم على الأقوى و لو شهد ما دون الأربعة و ما في حكمها لم يثبت الحدّ رجماً و لا جلداً بل حدّوا للفرية». «1»

ثمّ إنّ الروايات التي استدل بها على هذا القول على قسمين:

أ: ما يدور كلامها حول الرجم فتثبته في شهادة ثلاثة رجال مع امرأتين، لا في شهادة رجلين و أربع نساء من دون إشارة إلى الجلد في الصورتين.

ب: ما يثبت الرجم في شهادة ثلاثة رجال و امرأتين، و الجلد في شهادة رجلين و أربع نساء مع نفي الرجم فيه.

فمن القسم الأوّل:

1- صحيح عبد اللّه بن سنان قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «و لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، و لا تجوز في الرجم شهادة رجلين و أربع نسوة و تجوز في ذلك ثلاثة رجال و امرأتان». «2»

2- صحيح الحلبي قال سألته عن شهادة النساء في الرجم فقال: «إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان، و إذا كان رجلان و أربع نسوة لم تجز في الرجم». 3

3- صحيح أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام

قال: «إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان جاز في الرجم و إذا كان رجلان و أربع نسوة لم تجز». 4

4- صحيح زيد الشحام: «لا تجوز شهادة النساء في الرجم إلّا مع ثلاثة رجال و امرأتين فإن كان رجلان و أربع نسوة فلا تجوز في الرجم». 5

5- خبر زرارة عن أبي جعفر عن علي عليه السَّلام: «تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان و إذا كان أربع نسوة و رجلان فلا يجوز الرجم». 6

______________________________

(1) الإمام الخميني، التحرير: 2/ 461، كتاب الحدود، المسألة 6.

(2) 2- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 10، 3، 25، 32، 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 357

و من القسم الثاني صحيح الحلبي و لعلّه الوحيد في هذا المورد.

عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه سئل عن رجل محصن فجرَ بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال و امرأتان وجب عليه الرجم، و إن شهد عليه رجلان و أربع نسوة فلا تجوزُ شهادتهم، و لا يُرجَم و لكن يضرب حدّ الزاني. «1»

و أمّا خبر عبد الرحمن عن الصادق عليه السَّلام: تجوز شهادة النساء في الحدود، مع الرجال، فيحمل على هاتين الصورتين، و أمّا في غيرهما فلا، لدلالة ما سبق على الحصر.

فتلخّص ثبوت الحدّ بكلا شقيه في الصورة الأُولى و خصوص الجلد في الصورة الثانية.

و لا يخفى أنّ هذا القول ينافيه في هذه النظر أُمور:

1- الآيات الثلاث الدالة على أنّ طريق الثبوت، أربعة رجال.

2- ما دلّ على عدم ثبوت الرجم بثلاث رجال و امرأتين.

3- ما دلّ على عدم ثبوت الجلد برجلين و أربع نسوة.

4- ما دلّ على عدم ثبوت الحدّ بالمرأة مطلقاً.

و إليك

دراستها.

أمّا الأوّل: فهو مبني على وجود المفهوم للآيات و القول بالمفهوم فيها أشبه بالقول به في اللقب نعم لو لم يدلّ شي ء على التوسعة يقتصر على ما في الآية لأجل عدم الدليل على التوسعة و إلّا فما دلّ على التوسعة حاكم على دلالتها.

أمّا الثاني: فتدل عليه صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: إذا

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 358

شهد ثلاثة رجال و امرأتان لم يجز الرجم و لا تجوز شهادة النساء في القتل. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الرواية في مقابل ما تضافر من ثبوت الرجم في هذه الصورة شاذ لا تؤخذ بها، مضافاً إلى أنّ الظاهر من الخلاف أنّه موافق لفتوى العامة. قال في الخلاف: حقوق اللّه تعالى كلّها لا تثبت بشهادة النساء إلّا الشهادة بالزنا فإنّه روى أصحابنا أنّه يجب الرجم بشهادة رجلين و أربع نسوة، و ثلاث رجال و امرأتين و يجب الحد دون الرجم بشهادة رجل واحد و ست نسوة و خالفت جميع الفقهاء في ذلك و قالوا لا يثبت شي ء منها بشهادة النساء لا على الانفراد و لا على الجمع. «2» و معه يمكن حملها على التقية.

نعم في صدر كلام الشيخ قدس سره و ذيله ما لا يخلو من الشذوذ.

و أمّا المنافي الثالث، فهو القول الثاني الذي ندرسه بتفصيل كما ندرس المنافي الرابع بعده كذلك.

القول الثاني: عدم ثبوت شي ء برجلين و أربع نسوة

و هذا القول يخص الحدّ الأعم من الرجم و الجلد بصورة واحدة و هي شهادة ثلاثة رجال و امرأتين فقط و لا يُثبت في شهادة رجلين و أربع نساء شيئاً ذهب إليه الصدوقان.

قال علي بن

بابويه في رسالته: و تقبل في الحدود إذا شهد امرأتان و ثلاثة رجال. «3»

و قال الصدوق في المقنع: و لا بأس بشهادة النساء في الحدود إذا شهد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 28.

(2) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 2.

(3) علي بن بابويه: المختلف: 163، و فقه الرضا: 262.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 359

امرأتان و ثلاثة رجال و لا تقبل شهادتهن إذا كنّ أربعَ نسوة و رجلان «1» و قال أبو الصلاح: و لا تقبل شهادة النساء فيما يوجب الحدّ إلّا شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الزنا خاصة. «2» و نسبه الشهيد في المسالك إلى العلّامة في المختلف، و لكن صريح كلامه موافقته مع الشيخ في النهاية «3» استدل له بوجهين:

1- الأصل عدم الثبوت.

2- لو ثبت الزنا بشهادتهم (لأجل الحكم بالجلد) لثبت الرجم، و التالي باطل للأخبار الكثيرة الدالّة على عدم سماع شهادة رجلين و أربع نسوة في الرجم.

يلاحظ على الأوّل بأنّه مقطوع بالدليل الاجتهادي.

و يلاحظ على الثاني بأنّ الأثرين: الرجم و الجلد ليسا من الآثار التكوينيّة، لثبوت الزنا حتى لا يصح التفكيك بينهما إثباتاً بل للشارع التفكيك بين بعض الآثار، فالشديد (الرجم)، لا يثبت إلّا بطريق أكثر اطمئناناً و الضعيف يثبت بأقلّ منه طمأنينة.

و مع ذلك كلّه يمكن أن يحتج لهذا القول بروايات:

1- معتبر أبي بصير: «... تجوز شهادتها في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان و لا تجوز شهادة رجلين و أربع نسوة». «4» و الشاهد في قوله الأخير، حيث إنّ المنفي جواز شهادتها «في حدّ الزنا» بقرينة الفقرة الأُولى، فيعم الجلد و الرجم.

2- خبر إبراهيم الحارثي: «و

تجوز في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان

______________________________

(1) الصدوق، المقنع: 402.

(2) أبو الصلاح: الكافي: 436 و الاستدلال مبنيّ على اقتصاره بصورة واحدة، و مراده من الحدّ هو الأعم من الرجم و الجلد.

(3) المختلف، كتاب الشهادات: 163.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 360

و لا تجوز إذا كان رجلان و أربع نسوة، و لا تجوز شهادتهن في الرجم». «1» و كيفية الاستدلال واحدة و هي أنّ المنفي في الجملة الثانية، حدّ الزنا، الأعمّ من الرجم و الجلد.

3- صحيح محمّد بن الفضيل الأزدي عن أبي الحسن الرضا عليه السَّلام: «و تجوز شهادتهنّ في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان، و لا تجوز شهادة رجلين و أربع نسوة في الزنا». 2

فلو كان جواز الشهادة في الزنا و عدم جوازه كناية عن ثبوت الرجم و الجلد يكون مفاده هو ثبوتهما في الصورة الأُولى و عدمه في الثانية.

أقول: إنّ هذه الروايات، لا تخالف القول الأوّل في ثبوت الرجم و الجلد في الصورة الأُولى و إنّما تخالف ثبوت الجلد في الصورة الثانية و عدمه، و قد عرفت أنّ الدليل الوحيد لإثبات الجلد في الصورة الثانية هو صحيح الحلبي و 3 هو صريح في مضمونه، و أمّا هذه الروايات فليست صريحة في نفي الجلد فيها.

و ذلك لاحتمال أن يقال: إنّ محور البحث في الأُوليين هو ثبوت الرجم بشهادة المرأة و عدمه فالمثبت فيهما هو الرجم، و المنفي فيهما هو الرجم، و أمّا الجلد فخارج عن مدلولهما، فيكون المتبع في أمر الجلد هو صحيح الحلبي، و الذي يؤيد كون الرجم هو محور البحث هو

قوله في رواية الحارثي: «و لا تجوز شهادتهن في الرجم» الدال على أنّ محور البحث هو الرجم و على كلّ تقدير فهو ناظر إلى الصورة الثانية بالاتفاق، لثبوت الرجم في الأُولى عندنا و عند المستدل.

و احتمال أنّ المراد هو إثبات الجلد في الأولى، و نفيه في الثانية، ثمّ نفي الرجم في كليهما بشهادة هذا الذيل، لم يقل به أحد.

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 5 و 7.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 361

و مثلها الرواية الثالثة و الحاصل أنّ هذه الروايات ليست صريحة في نفي الجلد في الصورة الثانية، بخلاف صحيح الحلبي فإنّه صريح في ثبوت الجلد فيؤخذ به.

القول الثالث: عدم جواز شهادتهنّ مطلقاً

و هذا هو المنافي الرابع لقول الشيخ، ذهب إليه المفيد في مقنعته، و سلّار الديلمي في مراسمه و إليك نصهما.

قال المفيد: و لا تقبل في الزنا و اللواط و السحق شهادة أقلّ من أربعة رجال مسلمين. «1»

و قال سلّار: فأمّا أعداد غير القسامة فعلى ضربين: عدد، و هو أربعة لا يجوزها و لا يقصر عنها و هو شهادة الزنا و اللواط و السحق. «2»

و تشهد له إطلاقات قابلة للتقييد.

منها: صحيح جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قلنا أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده». «3»

منها: صحيح غياث بن إبراهيم «4» عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي عليه السَّلام: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، و لا في القود». «5»

منها: خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنّه كان يقول: «شهادة

النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود». 6

______________________________

(1) المفيد، المقنعة: 727.

(2) سلّار الديلمي: المراسم العلوية: 233.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(4) غياث بن إبراهيم الأسيدي (لا الأسدي) وثّقه النجاشي و يحتمل أن يكون زيدياً، و هو غير حفص ابن غياث العامي، و غير غياث بن كلوب فلاحظ.

(5) 5- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 29، 42.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 362

و الكلّ قابل للحمل على غير الزنا، مع ما في الأخير من عدم قبول شهادتهن في النكاح عن الإشكال و سيوافيك الكلام فيه.

ثمّ إنّ هنا قولًا رابعاً ذكره الشيخ في الخلاف و لم يقل به أحد و هو جواز شهادتهن في الرجم في كلتا الصورتين،

و خصوص الجلد في صورة واحدة و هي رجل و ست نساء. «1»

حكم اللواط و السحق

بقي الكلام في ثبوتهما بالنساء على النحو الماضي في الزنا و يمكن استظهار جواز شهادتهنّ من عبارة ابن بابويه الماضية فعبَّر بالحدود و قال: تقبل في الحدود إذا شهد امرأتان و ثلاثة رجال، مكان التعبير بالزنا بخلاف الصدوق فقد عبر بالزنا، و مرّ أنّ ابن حمزة عطف السحق على الزنا «2» كما أنّ ابن زهرة سوّى بينهما و بين الزنا و قال: لا تقبل في الزنا إلّا شهادة أربعة رجال أو ثلاثة و امرأتين و كذا حكم اللواط و السحق. «3» و يؤيده إطلاق خبر عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال، و ما مرّ من أنّ اللواط كالزنا «4» و أنّ السحق في النساء كاللواط في الرجال و أنّ حدّها حدّ الزاني. «5»

و مع ذلك كلّه فالاعتماد على هذه الأُمور مع تضافر الإطلاقات على عدم قبول شهادتهن في الحدود مشكل، و قد خرجنا عنها، في الشهادة على الزنا لأجل تضافر الروايات على الجواز في الصورتين و بما أنّ الحدود تدرأ بالشبهات

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 2.

(2) ابن حمزة، الوسيلة، فصل اعداد البيّنات: 222.

(3) ابن زهرة: الغنية: 436، ط مؤسسة الإمام الصادق عليه السَّلام.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب حدّ اللواط من ثبوته بالإقرار أربعاً كالزنا.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب حدّ السحق، الحديث 1 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 363

فالاقتصار على الزنا، و عدم ثبوتهما بشهادة النساء هو الأقوى، و لذلك قال العلامة في المختلف: و المعتمد ما

اختاره الشيخ في النهاية من الاقتصار في ذلك على الزنا خاصة. «1»

حكم سائر الحدود
اشارة

قد عرفت حكم الزنا و اللواط و السّحق من حيث الكمية و اعتبار الذكورة إنّما الكلام في سائر الحدود، كحدّ السرقة و شرب الخمر و الردّة فيقع الكلام في مقامين:

1- كفاية الاثنين من الرجال العدول و عدم اعتبار الزيادة.

2- عدم اعتبار شهادة النساء فيها.

أمّا المقام الأوّل [كفاية الاثنين من الرجال العدول و عدم اعتبار الزيادة.]

فيدلّ عليه إطلاق الكتاب مثل قوله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و قوله: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) و ليس المورد مخصِّصاً.

فإن قلت: إذا كان الموردُ غيرَ مخصص، فلما ذا لم نقل به فيما دلّ على اعتبار الأربعة من الآيات الثلاث فإنّ وزان هذه الآيات، وزان الطلاق و الدين، فلو صحّ إلغاء الخصوصية فليكن كذلك في ما ورد من الآيات في طريق ثبوت الزنا.

قلت: إنّ الزنا من أكبر المعاصي و أفحشها و مثله اللواط و السحق، فاعتبار الأربع في الثلاثة، لا يكون دليلًا على ثبوتها في غيرها لأنّ إلغاء الخصوصية إنّما يُمكن إذ لم يكن غير المذكور أضعف من حيث الملاك من المذكور في الآية و لأجل ذلك يصحّ إلغاء الخصوصية في ما دلّ على اعتبار الاثنين دون ما دلّ على اعتبار الأربع.

______________________________

(1) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات: 163.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 364

و يدل عليه من السنّة إطلاق ما دلّ على حجّية قول العدلين في الروايات. أضف إلى ذلك ورود الدليل على الثبوت بعدلين في مورد السرقة. «1»

أمّا المقام الثاني: أعني عدم جواز شهادة النساء فيها

فيمكن الاستدلال عليه بوجهين:

الأوّل: ما يُحصِر حجّية قول المرأة بموارد خاصة، كالديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه كمعتبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السَّلام كان يقول: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا حدود، إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه» فهي تدل بقرينة الاستثناء على عدم قبول شهادتهنّ في غير الموردين. «2»

الثاني: ما يدل على عدم جواز شهادتها في الحدود مطلقاً، خرج مورد الزنا على ما عرفت و بقي الباقي تحته:

منها: معتبر غياث

بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السَّلام قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود». «3»

منها: خبر لا تجوز شهادة النساء في الحدود و القود. 4

منها: معتبر السكوني الماضية حيث جاء فيها: «و لا نكاح و لا حدود» نعم يعارضه ما ورد عنهم عليهم السَّلام من جواز شهادتهنّ في النكاح، و لكنّه لا يصدّنا عن العمل بغير المعارض ممّا ورد في الحديث.

بقي الكلام في جواز شهادتهنّ في القتل، فقد تعارضت الأخبار، ففي صحيح جميل: «أ تجوز شهادة النساء في الحدود، فقال: في القتل وحده» و لكن في

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات 1، 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 42.

(3) 3- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 29، 30.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 365

صحيح ربعي تارة عن أبي عبد اللّه «1» و أُخرى عن محمّد بن مسلم 2 عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «لا تجوز شهادة النساء في القتل». و الظاهر كونهما رواية واحدة، سقطت الواسطة (محمّد بن مسلم) في الأوّل منهما. و يمكن رفع التعارض من حمل صحيح جميل على الدية، و الآخرين على القصاص بشهادة رواية معتبر غياث الماضية. 3 و خبر موسى بن إسماعيل. 4

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي 5 استدل على عدم جواز شهادتهنّ في الحدود بصحيح علاء عن أحدهما عليهما السَّلام قال: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال» و سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال: «نعم في العذرة و النفساء». 6 و مثلها صحيح حريز عن محمّد بن مسلم قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال:

نعم في العذرة و النفساء 7 نفساء. و الروايتان، رواية واحدة رواها محمّد بن مسلم عن أحدهما، و رواها عنه تارة، العلاء و أُخرى حريز، لأنّ العلاء من أصحاب الإمام الصادق عليه السَّلام لا الإمام الباقر عليه السَّلام فلا يصحّ أن يقول عن أحدهما، و الظاهر سقوط «محمّد بن مسلم» عن الرواية الأُولى، و أمّا مقدار الدلالة، فتدل على أنّ شهادتهنّ منفردات لا تجوز في الموردين، و أمّا عدم حجّية شهادتهنّ منضمات إلى الرجال فلا تدل عليه.

حكم سائر الحقوق للّه

إذا تبيّن عدم حجّية شهادتهنّ في الحدود، يبقى الكلام في جواز شهادتهنّ في غيرها من حقوق اللّه سواء كان أمراً مالياً كالزكاة و الخمس و الكفارة و النذر، أو غير مالي كالإسلام، و البلوغ و الولاية و العدّة و الجرح و التعديل و العفو عن

______________________________

(1) 1- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث، 27، 28، 29، 30.

(2) 5 تكملة المنهاج: 122.

(3) 6 و 7 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 18 و 19.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 366

القصاص. «1»

أمّا قبول شهادة العدلين فيه فهو مقتضى إطلاق أدلّة حجّية البيّنة، مضافاً إلى ما ورد في خبر مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان ...» و خبر عمرو بن خالد عن زيد عن آبائه سئل رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن الساحر فقال: «إذا جاء عدلان فيشهدان عليه فقد حلّ دمه». 2

إنّما الكلام في عدم حجّية شهادتهنّ أمّا منفردات، فلما مرّ من حصر حجّية شهادتهنّ منفردة في العذرة

و النفساء. 3 و إنّما الكلام في عدم جواز شهادتهنّ في هذا القسم من الحقوق فيكفي معتبر السكوني حيث قال: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا في حدود إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه 4. و المراد من الديون هو حقوق الآدمي، فلا يعمّ الزكاة و الخمس و نحوهما.

قال الشهيد الثاني: و أمّا حقوق اللّه المالية فليس عليها نصّ بخصوصها لكن لمّا كان الأصل في الشهادة شهادة الرجلين و كان مورد الشاهد و اليمين و الشاهد و المرأتين الدّيون و نحوها من حقوق الآدميّين يقتصر على مورده و بقي غيره على الأصل. 5

[المقام الثاني] حقوق الآدمي و شهادة النساء
اشارة

قد قسم المحقق حقوق الآدمي إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لا يثبت إلّا بشاهدين و عدّ منها موضوعات ستة:

______________________________

(1) 1 2 و الوسائل: الجزء 18، الباب 51 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

(2) 3 لاحظ الحديث 18 و 19 و 21 من الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 42.

(4) 5 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 459.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 367

1 الطلاق 2 الخلع 3 الوكالة 4 الوصية إليه 5 النسب 6 رؤية الأهلّة.

و أشار المحقّق إلى وجود الاختلاف في النكاح و العتق و القصاص و هي عنده من القسم الثاني.

الثاني: يثبت بشاهدين، و شاهد و امرأتين. و شاهد و يمين و عدّ منها ثلاثة عشر موضوعاً يجمعها عناوين أربعة: 1 الديون 2 الأموال 3 عقود المعاوضات 4 الجناية التي توجب الدية.

الثالث: ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمات و هي موضوعات أربعة: 1 الولادة 2 الاستهلال 3 عيوب النساء الباطنة

4 الرضاع.

الرابع: ما يثبت بشهادة المرأة الواحدة: و مورده أمران: 1 ربع ميراث المستهلّ 2 ربعُ ميراث الوصية.

ثمّ ختم كلامه بقوله: و كلّ موضع تقبل فيه شهادة النساء لا تقبل بأقلّ من أربع.

و اعلم أنّ الضابطة في شهادة النساء هو ما جاء في معتبرة السكوني: «إلّا الديون، و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه». «1» و في غير واحد من الروايات: «إلّا العذرة و المنفوس» 2 و على ذلك فالتجاوز عن هذا المقدار يحتاج إلى الدليل. فإليك دراسة الأقسام الأربعة:

***

القسم الأوّل: ما لا يثبت إلّا بشاهدين
اشارة

قد عدّ المحقّق منها، موضوعات ستة:

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 24، الحديث 42 و 19، 19، 21.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 368

1- الطلاق

و المشهور عدم قبول شهادتهنّ فيه و خالفهم اثنان:

1- ابن الجنيد فقال: و لا بأس عندنا بشهادتهن مع الرجال في الحدود و الأنساب و الطلاق. «1»

2- الشيخ في المبسوط و لكنّه لم يخالف في خصوص الطلاق و إنما خالف في الجميع إلّا القصاص. قال في بيان هذا القسم: أحدها لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين و هو ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و يطّلع عليه الرجال، كالنكاح، و الخلع، و الطلاق و الرجعة، و التوكيل، و الوصية إليه، و الوديعة، و الجناية الموجبة للقود و العتق، و النسب و الكتابة و قال بعضهم: يثبت جميع ذلك بشاهد و امرأتين و هو الأقوى إلّا القصاص. «2»

ثمّ إنّ كلام الشيخ في المقام يخالف ما أفاده في كتاب كفارة القتل قال هناك: و أمّا حقوق الآدميّين فإنّها تنقسم أيضاً ثلاثة أقسام: أحدها ما لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين، و لا يثبت بشاهد و امرأتين و لا بشاهد و يمين، و هو كلّ ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و تطلع عليه الرجال كالوكالة و الوصيّة لأنّه إثبات نظر و تصرّف، و كذلك الوديعة و النكاح و الخلع و الطّلاق و الجراح الّذي يوجب القصاص و العتق و النسب و نحو هذا. «3» و ستوافيك كلمات العلماء في عدم قبول شهادتهن في الطلاق في ضمن نقل أقوالهم عند الكلام في جواز شهادتهن على النكاح و القتل.

و الأخذ بقوله يستلزم رفض روايات متضافرة

في مورد الطلاق و قد رواها الشيخ الحرّ في الوسائل في الباب الرابع و العشرين فلاحظ. «4» مضافاً إلى قوله

______________________________

(1) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 160.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

(3) الطوسي: المبسوط: 7/ 248.

(4) فلاحظ الحديث: 2، 5، 7، 35، 50 و ....

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 369

سبحانه في مورد الطلاق: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و لو جازت شهادتهن، لنُبّه بها في الآية، و إطلاق الروايات يعمّ عدم قبول شهادتهن في حين الطلاق أو في مقام المخاصمة.

2- الخلع

إذا اختلف الزوجان في البينونة و عدمها و ادعى أحدهما تحقّقها بصورة الطلاق الخلعي فلا تجوز شهادتهنّ نصّ به الشيخ في الخلاف في عبارته الآتية عند البحث عن جواز شهادتهنّ في النكاح و عدمه كما نصّ على الجواز في المبسوط كما عرفت. و أكثر الأصحاب اقتصروا على لفظ الطلاق نعم قال ابن إدريس: و هو ثلاثة أقسام: لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين كالنكاح و الخلع و الطلاق «1» من غير فرق بين كون المدّعي هو الزوج أو الزوجة لأنّه نزاع في الطلاق و قد عرفت تضافر الروايات على عدم قبول شهادتهنّ فيه حتى و لو كان المدّعي هو الزوج، لأنّ المال الذي يدعيه الزوج أمر تابع، لا يجعل النزاع ماليّاً حتى تقبل شهادتها فيه.

و أمّا إذا اتّفقا على الطلاق و اختلفا في وصفه فقد فصّل كاشف اللثام بين كون المدّعي هو الزوج، لأنّ النزاع يصبح نزاعاً مالياً، بخلاف ما إذا كانت هي المدّعية فلا، لأنّها تدعيه لأجل إبطال جواز الرجوع. «2»

و لكن الظاهر مما ورد في جواز شهادتهن في الديون و الأموال كون مصبِّ الدعوى هو المال و

أمّا المقام فإنّ مصبَّها هو وصف الطلاق من كونه خلعياً أو رجعياً لا الأمر المالي، و إن كان يترتب عليه شي ء مالي.

3 و 4 الوكالة و الوصاية

إنّ ادعاء الوكالة و الوصاية ليس داخلًا في الضابطة التي سمعتها فليست

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 139.

(2) الفاضل الهندي: كشف اللثام: 2/ 189.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 370

الدعوى في دين أو أمر مالي أو فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه، و لا من قبيل العذرة و المنفوس. و المقصود من الوصاية هي الوصيّة العهديّة كأن يدعي أنّ الميّت جعله وصيّاً ليقوم بتجهيزه أو باستئجار شخص يحجّ عنه أو ينوب عنه في الصلاة أو غيرهما أمّا إذا تضمّنت وصيّة تمليكية فتدخل في القسم الثاني كما ستوافيك.

و يدل عليه معتبر عبد الرحمن قال سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن المرأة يحضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة، تجوز شهادتها؟ قال: «تجوز شهادة النساء في العذرة و المنفوس». «1» فإنّ العدول عن الجواب عما سُئل، إلى ما لم يُسأل دليل على عدم جواز شهادتهنّ في الإيصاء.

5 و 6 النسب و رؤية الأهلة

لا تقبل شهادتهنّ في النسب و رؤية الأهلّة لخروجهما عن المستثنى، و إن استلزم دعوى مالية كالإرث في النسب، و حلول آجال الديون في الثاني.

نعم من قال بأنّ الميزان في عدم القبول: «ما يطلع عليه الرجال و ما لا يكون مالًا و لا المقصود منه المال». «2» كان عليه القبول في مثل النسب لغاية ادعاء الإرث، و الهلال لأجل حلول آجال الديون. و لكن لم نعثر على تلك الضابطة و إن اشتهر بين الفقهاء لكونه منقوضاً بالنكاح و غيره و لذلك قال صاحب الجواهر: «لم أقف في النصوص على ما يفيده بل فيها ما ينافيه».

أضف إلى ذلك تضافر النصوص في عدم جواز شهادتهنّ في الهلال «3» و أمّا في خبر داود بن الحصين في

حديث طويل قال: «لا تجوز شهادة النساء في الفطر

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 21.

(2) الفاضل الهندي: كشف اللثام: 2/ 198.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 8، 10، 17، 18.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 371

إلّا شهادة رجلين عدلين و لا بأس في الصوم بشهادة النساء و لو امرأة واحدة». «1» فقد حمله الشيخ على أن يصوم الإنسان بشهادة النساء استظهاراً و احتياطاً دون أن يكون واجباً.

***

القسم الثاني: ما يثبت بأحد الطرق الأربعة
اشارة

ما يثبت بشاهدين، و شاهد و امرأتين، و شاهد و يمين، و امرأتين و يمين. فتكون الطرق أربعاً. نعم اقتصر المحقّق بالثلاثة الأُولى.

ثمّ إنّ الموضوع الذي نحن بصدد إثباته بهذه الطريقة لا يخلو عن ثلاثة: إمّا دين، أو حقّ، أو مال.
اشارة

فتكون الصور اثنتا عشرة و بما أنّ ثبوت الأُمور الثلاثة بشاهدين، موضع وفاق، كتاباً و سنة و فتوى، نركز البحث على حجّية الطرق الثلاثة الأخيرة في إثبات الموضوعات الّتي تعرفت عليها، و تكون الصور عندئذ تسعة و قبل البحث في المواضيع الثلاثة نقدّم، بعض كلمات فقهائنا في التعبير عن موضوع هذا القسم سعة و ضيقاً.

فقد اختلفت كلمات الأصحاب في تحديد موضوع هذا القسم و لعلّ الكلّ متفقون جوهراً و لبّاً و إن كانوا مختلفين تعبيراً و لفظاً و إليك الإشارة إلى تعابيرهم:

1- من عبّر بالدين فقط

1- قال ابن بابويه: و تقبل شهادة النساء في النكاح و الدين و في كلّ ما لا يُتهيّأ للرجال أن ينظروا إليه. «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 36.

(2) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 160.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 372

2 قال الصدوق: و لا بأس بشهادة النساء في النكاح و الدين و كلّ ما لا يتهيأ للرجال أن ينظروا إليه. «1»

3- و قال ابن الجنيد: شهادة النساء في الدين جائزة بالنصّ، و المرأتان مقام رجل و كلّ أمر لا يحضره الرجال و لا يطَّلِعونَ عليه فشهادة النساء فيه جائزة. «2»

4- و قال الشيخ: و تقبل شهادتهنّ في الديون مع الرجال و على الانفراد. فإن شهد رجل و امرأتان بدين قبلت شهادتهم، فإن شهد امرأتان قبلت شهادتهما و وجب على الذي تشهدان له، اليمين كما يجب عليه اليمين إذا شهد له رجل واحد. «3» فإذاً مراده من الانفراد، هو شهادة المرأتين مع يمين المدّعي و ستعرف وجود النص عليه، و ليس مراده من الانفراد، هو شهادة أربع نساء. و على هذا يحمل كلام السابقين

عليه، أعني: أبناء بابويه و الجنيد حيث لم يقيِّدوا جواز شهادتها برجل أو بيمين و مرجع الجميع واحد و نظيره في كلام ابن البرّاج و ابن إدريس في التالي.

5- قال ابن البرّاج: و تُقبل شهادتهنّ في الديون مع الرجال و على الانفراد بأن يشهد رجل و امرأتان على إنسان بدين لرجل فتقبل شهادتهم و إن شهدت امرأتان قبلت شهادتهما و كانت بشهادة رجل واحد، يجب معهما اليمين على المشهود له. «4»

6- و قال ابن إدريس: و تقبل شهادتهنّ في الديون مع الرجال بغير خلاف على ما نطق به القرآن و على الانفراد عند بعض أصحابنا فإن شهد رجل و امرأتان بدين قبلت شهادتهما، فإن شهد امرأتان قبلت شهادتهما و وجب على الذي تشهدان له، اليمين كما تجب اليمين إذا شهد له رجل واحد عند بعض أصحابنا

______________________________

(1) الصدوق: المقنع: 402.

(2) ابن المطهّر: المختلف: 160.

(3) الطوسي: النهاية: 333.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 559.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 373

على ما قدّمناه. «1»

2- من عبّر بالديون و الأموال

7- قال المفيد: و تقبل شهادة رجل و امرأتين في الديون و الأموال. «2»

8- و قال سلّار: و ما تقبل فيها شهادة النساء إذا انضممن إلى الرجال، فالديون و الأموال تقبل فيها شهادة رجل و امرأتين. «3»

9- قال العلّامة: و أمّا الديون و الأموال كالقرض و القراض و الغصب و عقود المعاوضات و الوصية له، و الجناية الموجبة للدية و الوقف على إشكال فتثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد و يمين. «4»

3- من عبّر بالمال أو المقصود منه المال

10- قال الشيخ: ما يثبت بشاهدين و شاهد و امرأتين و شاهد و يمين هو كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال، فالمال، القرض و الغصب و المقصود منه المال عقود المعاوضات: البيع و السلم و الصلح و الإجارات و القراض، و المساقاة و الرهن، و الوقف و الوصية له، و الجناية التي يوجب المال عمداً كانت أو خطأ كالجائفة. «5»

4- من عبّر بالمال

11 قال الشيخ: حكم عندنا بالشاهد و اليمين في الأموال، و عند الشافعي و مالك على ما سنبيّنه، و يحكم عندنا بشهادة امرأتين، مع يمين المدّعي و به قال مالك، و قال أبو حنيفة و الشافعي و غيرهما لا يحكم بشهادة المرأتين مع اليمين

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 138.

(2) المفيد: المقنعة: 727.

(3) سلّار: المراسم العلوية: 234.

(4) ابن المطهّر: الإرشاد: 2/ 159.

(5) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 374

. دليلنا، إجماع الفرقة و أخبارهم، و لأنّ المرأتين كالشاهد الواحد في الأموال، أ لا ترى لو أقام في المال شاهدين حكم له، و لو أقام شاهداً و امرأتين حكم له، ثبت أنّهما كالرجل الواحد ثمّ ثبت أنّه لو أقام شاهداً واحداً حلف معه، فكذلك إذا أقام امرأتين». «1»

حاصل ما أفاد: أنّه يحكم:

1- بالشاهد و اليمين.

2- بالمرأتين و اليمين.

و خالف أكثر الفقهاء في الثاني، فاستدل بأنّ المرأتين إذا كانتا منضمتين إلى الرجل، كانت شهادتهما نافذة، فهما كالرجل الواحد، هذا من جانب.

و من جانب آخر لو أقام شاهداً مع يمينه يحكم له، فكذلك ما هو منزل منزلته أي المرأتان مع اليمين.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره يتوقف على عموم في التنزيل و أنّ الشارع نزّل المرأتين، منزلة الشاهد مطلقاً،

سواء كانتا مع الشاهد أو مع اليمين و أنّى لنا إثبات هذا الأمر، و لعلّهما مثله إذا كانتا معه، لا مثله إذا كانتا مع اليمين فما ذكره أشبه بالقياس.

و على كلّ تقدير، لم يذكر شيئاً من شهادة رجل و امرأتين لأنّه ليس محلًا للخلاف و قد نصّ به الذكر الحكيم، فكيف يُذْكر في الكتاب المؤلّف لبيان الخلافيات، نعم كان عليه تحديد الموضوع سعة و ضيقاً.

2- 1 قال ابن حمزة: و تقبل شهادتهنّ مع الرجال، و مع اليمين إذا لم يكن رجال و هي في موضعين: في المال، و فيما كان وصلة إليه. «2»

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 7.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 222.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 375

هذه اثنتا عشرة كلمة نكتفي بها، و عليك بالتتبع في كلمات الباقين كالفاضل المقداد و ابن فهد، و ...

و لنأخذ كلّ واحد من الدين و الحقّ و المال بالبحث منفرداً فنقول:
[أما مورد الدين]
1- ثبوت الدين برجل و امرأتين

إنّ ثبوته بهما، صريح الكتاب العزيز قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى أن قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ) (البقرة/ 282).

و أمّا السنّة فنقتصر بنقل رواية واحدة و هي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح فقال: «تجوز إذا كان معهنّ رجل و كان علي عليه السَّلام يقول: لا أجيزها في الطلاق» قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: «نعم». «1»

2- ثبوت الدين بشاهد و يمين

أمّا ثبوت الدين بشاهد و يمين فهو من ضروريات فقهنا و إن خالفتنا العامة فقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت في صحّة القضاء بشاهد و يمين طالبِ الحق و أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قضى بهما ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «كان رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يجيز في الدين بشهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين». «2» و قد عقد صاحب الوسائل في كتاب القضاء في أبواب كيفية الحكم، باباً لذلك و جعل العنوانَ حقوق الناس المالية و قد استقصينا البحث فيه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 376

في كتاب القضاء فراجع. «1»

3- ثبوت الدين بامرأتين و يمين المدّعي

تضافرت الروايات، بثبوت الدين بامرأتين و يمين المدّعي و قد عقد الشيخ الحرّ باباً لذلك و جعل العنوان كالباب السابق «الدعوى المالية» و نكتفي في ذلك ما يلي:

1- روى منصور بن حازم عن موسى بن جعفر عليهما السَّلام: «إذا شهد لطالب الحقّ، امرأتان و يمينه فهو جائز». «2»

2- و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف باللّه أنّ حقّه لحق». 3

3- روى منصور بن حازم قال حدثني الثقة عن أبي الحسن عليه السَّلام قال: «إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز». 4 و يحتمل اتحادها مع الأُولى و الموضوع في الأُولى و الأخيرة هو الحقّ

و في الثاني هو الدين، لكن الذيل دالّ على انّ الموضوع للثبوت هو الحق و أنّ الدين إنّما يثبت بهما لكونه حقّاً حيث قال: يحلف اللّه أنّ حقّه لحق. و على كلّ تقدير فالدين من مصاديق الحقّ قطعاً مضافاً إلى التصريح بالدين في صحيح الحلبي.

*** إلى هنا تمّ الكلام في الطرق الثلاثة في مورد الدين

و إليك البحث عن الطرق الثلاثة في مورد الحق
اشارة

و نقول:

______________________________

(1) كتاب القضاء: 528.

(2) 2- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، 3، 4. و سيوافيك تصحيح سند الأُولى و الأخيرة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 377

4- ثبوت الحقّ برجل و امرأتين.

5- ثبوت الحقّ، برجل و يمين.

6- ثبوت الحقّ بامرأتين و يمين.

المراد من الحقّ، هو حقّ الناس، كحقّ الشفعة و الخيار، و الرهن و المرور.

و نركِّز على البحث في القسم الأوّل، لكونه محلًا للخلاف دون الأخيرين لورود الروايات فيهما.

و يدل على الإشهاد بالأوّل أُمور:

1- قوله سبحانه: (فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ)

قال سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ) (البقرة/ 282) و الآية و إن وردت في مورد الدين، لكن المورد غير مخصِّص و فهم العرف يساعد جواز شهادتهن مع الرجل، في الأُمور المالية، بشهادة أنّه سبحانه يقول في ذيل الآية: (وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ) و يأمر بالإشهاد في البيع و من الواضح أنّ المراد منه هو الإشهاد المتقدم الوارد في نفس الآية أعني: «شهادة رجلين أو رجل و امرأتين» فإذا جاز شهادتهما مع رجل في البيع، جاز في غيره، لأنّه يُستظهر منه أنّ الآية بصدد بيان الضابطة في الأُمور المالية سواء كان ديناً أو غيره أوّلًا، و عدم القول بالفصل ثانياً.

و ربّما يورد على الاستدلال بالآية، بأنّ معتبر «داود بن الحصين»، خصّ جواز شهادتهن مع رجل في الآية بمورد الدين حيث روى عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه قال: «و كان أمير المؤمنين يُجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين» فقلت: فأين ذكر اللّه تعالى قوله: (فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ)؟ فقال: «ذلك

في الدين، إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و رجل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 378

واحد و يمين المدّعي «1» إذا لم يكن امرأتان قضى بذلك رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و أمير المؤمنين عليه السَّلام بعده عندكم». «2»

يلاحظ عليه: أنّ المراد من تخصيصه بالدين في مقابل الطلاق الذي استدل الراوي على جواز شهادتهما مع رجل فيه بالآية فأجاب الإمام بأنّه في الدين، أي لا في الطلاق الذي هو محلّ الكلام أي الذي ليس بينه و بين الدين تسانخ و لا تشابه و لا يريد به نفي ثبوت الحقوق و الأموال بهما التي يتلقاهما العرف مع الدين من باب واحد، و الظاهر أنّ دلالة الآية كافية في ثبوت الحقوق مع رجل و امرأتين.

2- أولوية المقام من الإشهاد برجل و يمين

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت ثبوت الدعوى في حقوق الناس المالية بشاهد و يمين و هو من ضروريات الفقه الإمامي، و قد عبّر عنها فيها تارة بيمين صاحب الدين «3» و أُخرى بيمين صاحب الحق 4 و ثالثة بحقوق الناس 5 و رابعة بيمين المدّعي 6 على وجه الإطلاق، و أمّا في بعض الروايات من اختصاص الثبوت بالدين وحده. 7 فلا يراد منه أنّه لا يتجاوز عن الدين إلى الحقّ بل يريد إخراج مثل حقوق اللّه أو الهلال بقرينة رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس و أمّا ما كان من حقوق اللّه عزّ و جلّ أو رؤية الهلال فلا. 8

و أمّا سند الرواية الأخيرة فرواها الشيخ بسند غير نقي عن الحسن

بن محبوب عن العلاء عن محمّد بن مسلم إذ في طريقه «عبيد اللّه بن أحمد» و هو لم يوثق و

______________________________

(1) الحديث صريح في أنّ الإشهاد برجل و يمين المدّعي في طول الإشهاد برجل و امرأتين.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(3) 3- 8 الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، 2، 12، 3، 10، 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 379

لكن رواها الصدوق بسند صحيح عن الحسن بن محبوب، و هو و من بعده ثقات و الرواية صحيحة.

هذا من جانب، و من جانب آخر دلّت معتبرة داود بن الحصين على أنّ الإشهاد برجل و يمين المدّعي في طول الاحتجاج برجل و امرأتين «1» فإذا صحّ الإشهاد برجل و يمين يصحّ جواز الإشهاد برجل و امرأتين بوجه أولى.

و بهذا البيان تبيّن جواز الاحتجاج برجل و امرأتين، و برجل و يمين، الذي هو الطريق الثاني. أمّا الثاني بالنص و أمّا الأوّل فبالأولويّة.

3- أولوية المقام من الإشهاد بالمرأتين و اليمين

و هناك أولوية أُخرى و هي التي تعدّ دليلًا ثالثاً على جواز الإشهاد برجل و امرأتين و هي أنّه إذا جازت شهادة المرأتين مع يمين صاحب الحق، فشهادة الرجل مع المرأتين أولى بالجواز.

روى الصدوق بسنده عن منصور بن حازم أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السَّلام قال: «إذا شهد لطالب الحقّ، امرأتان و يمينه فهو جائز». «2»

رواه الكليني عن بعض أصحابنا عن محمّد بن عبد الحميد، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم قال: حدثني الثقة عن أبي الحسن عليه السَّلام قال: «إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز». 3

و طريق الصدوق إلى منصور بن حازم، صحيح

لو لا محمّد بن علي ماجيلويه، فإنّه لم يوثق، و لكن القرائن تشهد على وثاقته و ذلك من جهات:

1- وثقه العلّامة في الخلاصة و لأجل ذلك صحّح طريق الصدوق إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 380

إسماعيل بن رياح و هو فيه و كذلك طريقه إلى الحرث بن المغيرة، و الحسين بن زيد. «1»

2- أكثر الصدوق عنه الرواية بلا واسطة، و ترضّى عنه كلّما ذكره، لكونه من مشايخه.

3- ذكرنا في محلّه أنّ شيوخة الإجازة تغني عن التوثيق غالباً.

4- وثقه الميرزا الاسترآبادي في الوسيلة، و الفاضل الجزائري، حسب ما نقله المامقاني في التنقيح.

5- إنّ الصدوق صرح في ديباجة الفقيه، أنّ الكتب الّتي يروي الحديث عنها كتب مشهورة معتبرة و على هذا يكون ذكر السند إليها في المشيخة. لأجل إخراجها عن الإرسال إلى الإسناد، مع عدم الحاجة إليه.

و لأجل هذه القرائن، لا يصح العدول عنه إلى غيره فالرواية معتبرة تحتجّ بها و الإشكال بأنّ ابن حازم يروي الحديث عن نفس الإمام تارة و عن الثقة أُخرى غير ضائر لإمكان أنّه سمعه أوّلًا، عن الثقة فرواه، ثمّ عن نفس الإمام.

و النتيجة أنّه تجوز شهادتهنّ مع اليمين.

فإذا صحّ الإشهاد بالمرأتين و يمين صاحب الحقّ جاز شهادتهنّ مع الرجل، بوجه أولى، و ذلك لأنّ شهادة المرأتين مع يمين صاحب الحقّ في درجة متأخرة عن سائر الطرق بشهادة أنّ رواية داود بن الحصين، ذكر الطرق الثلاثة على ترتيب خاص و لم يذكرها «2» و مثله مرسلة يونس «3»، فإذا صحّ

الاحتجاج في ثبوت الحقّ، بالمرأتين و اليمين فالاحتجاج برجل و امرأتين أولى بالإثبات.

______________________________

(1) تنقيح المقال: 3/ 159.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 381

و بهذا البيان الضافي، ثبت جواز الشهادة في الطرق الثلاثة فلاحظ.

7- 9

ثبوت المال بالطرق الثلاثة
اشارة

كان الكلام في السابق مركّزاً على ثبوت الدين و الحقّ الآدمي بالطرق الثلاثة و قد نهض الدليل على ذلك، و الكلام في المقام مركّز على ثبوت المال بها، و الظاهر ثبوته بها بالطريق الأولى، لصحّة الاحتجاج بالرجل و المرأتين في البيع، الذي ظاهره أنّ النزاع في وجود العقد و عدمه، لكن مفاده و لبّه يرجع إلى أنّ المبيع للمشتري، و الثمن للبائع و عدمه. و يفهم منه عرفاً حجّيتهما فيما إذا ادعى كونه مالكاً لما في يد الآخر، و احتجّ بشاهد و امرأتين و معلوم أنّه ليست للبيع خصوصيّة في هذا المقام.

بل يمكن الاحتجاج هنا بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد، إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس». «1» فإنّ الظاهر من حقوق الناس هو مطلق الدعاوي المربوطة بالآدميّين التي أظهرها الأُمور المالية التي منها الدعوى في العين.

و قد عرفت في ما سبق أنّ صحّة الاحتجاج برجل و يمين، يلازم صحّة الاحتجاج برجل و امرأتين، لكون الثاني أقوى حجّية، فالصحيحة كما أنّها حجّة في موردها فهي تدل على صحّة الاحتجاج بما هو أقوى في موردها أعني الاحتجاج برجل و امرأتين.

و بذلك يعلم صحّة الاحتجاج، بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج

حيث دلّت على حضور علي مع خصمه «عبد اللّه بن قُفَّل» في محكمة شريح و كان النزاع في درع طلحة و كانت بيد الخصم، و كان علي عليه السَّلام يدعي أنّه من بيت المال و ممّا قاله عليّ لشريح، أنّه كان يمكنه أن يقضي في المقام بشهادة واحد و يمين. 2 و

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 12، 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 382

كيفية الاستدلال بالحديثين واحدة.

بقي الكلام في ثبوت المال بالطريق الثالث أي المرأتين و يمين المدّعي فإن قلنا بأنّ الإمعان في مجموع روايات الباب يعطي حجّية شهادة المرأتين في الأُمور المالية مطلقاً، أو قلنا إنّ الحقّ في رواية منصور بن حازم الواردة في شهادة المرأتين مع يمين صاحب الحقّ، كناية عنها، أو قلنا بأنّ العرف، يلغي الخصوصية بين الحقّ و العين فيثبت المال بهما، و إلّا فلا. و الحقّ، أنّ القرائن المتوفّرة تدل، على أنّ الإسلام سلب عن شهادتها الحجّية في حقوق اللّه، إلّا ما خرج و أضفى لها الحجّية فيما يرجع إلى حقوق الناس بالمعنى الأعمّ من الدين، و الحقّ و العين.

ثبوت الوقف بشهادة المرأة

و ممّا ذكرنا تظهر الحال في الوقف، فإنّه حقوق لآدمي تطلب منه المنفعة سواء كان وقفاً عاماً أو خاصاً و إليك بعض الكلمات:

1- قال الشيخ: و قال بعضهم يثبت جميع ذلك (مشيراً إلى الوقف و غيره) بشاهد و امرأتين و هو الأقوى إلّا القصاص. «1»

2- و قال: لا يثبت الوقف بشهادة واحد مع يمين المدّعي، و للشافعي فيه قولان: بناء على أنّ الوقف إلى من ينتقل فإذا قال: ينتقل إلى اللّه تعالى فلا يثبت إلّا

بشاهدين، و إذا قال ينتقل إلى الموقوف عليه فيثبت بشاهد و يمين، و قال أبو العباس: يثبت بشاهد و يمين قولًا واحداً دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت الوقف به، و ما قالوه ليس عليه دليل و الأخبار التي رويناها في القضاء بالشاهد مع اليمين مختصّة بالأموال و الوقف ليس بمال للموقوف عليه بل له الانتفاع به فقط دون رقبته. «2» فإذا لم يثبت كونه مالًا، فلا يحتج بالمرأتين، مع الشاهد أو مع اليمين كما لا يحتج كما ذكره بالشاهد و اليمين.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

(2) الطوسي: الخلاف، 3، كتاب الشهادة، المسألة 25.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 383

3 قال العلّامة: و أمّا الديون و الأموال كالقرض، و القراض و الوقف على إشكال فتثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد و يمين. «1»

4- و قال سيّدنا الأُستاذ: «و في قبول شهادتهن في الوقف وجه لا يخلو عن إشكال و لعلّ وجه الإشكال عدم انتقال الموقوفة إلى الموقوف عليهم، و بقاؤه على ملك الواقف أو انتقاله إلى ملكه سبحانه، كما هو أحد الأقوال في كلام الشيخ في الخلاف».

يلاحظ عليه: أنّ النزاع ليس في الرقبة و إنّما النزاع في منافعها المالية التي تعدّ من حقوق الناس و هذا يكفي في الثبوت، على أنّ الحقّ انّ الوقف يخرج من ملك الواقف و يدخل في ملك الموقوف عليه ملكاً، غير صالح للإخراج.

***

القسم الثالث: ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمات

و هذا القسم لا يختص بصنف بل يعمّ كلّ شاهد ذكراً كان أو أُنثى، و الأُنثى منفردة كانت أو منضمّة، و ضابطه كلّ ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالباً. قال الشيخ في المبسوط: و الثالث ما يثبت بشاهدين، و شاهد و

امرأتين و أربع نسوة، و هو الولادة، و الرضاع، و الاستهلال، و العيوب تحت الثياب و أصحابنا رووا أنّه لا تُقبل شهادة النساء في الرضاع أصلًا و ليس هاهنا ما يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد إلّا هذه. «2»

و قال أيضاً في الخلاف: تقبل شهادة النساء على الانفراد في الولادة و الاستهلال، و العيوب تحت الثياب، كالرتق، و القرن و البرص، بلا خلاف و تقبل عندنا شهادتهنّ في الاستهلال و لا تقبل في الرضاع أصلًا، و قال الشافعي:

______________________________

(1) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 159.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 384

تُقبَل شهادتهنّ في الرضاع أيضاً، و الاستهلال و قال أبو حنيفة: لا تقبل شهادتهنّ على الانفراد فيهما بل تقبل شهادة رجل و امرأتين دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضاً ما اعتبرناه مجمع على قبول شهادتهنّ فيه، و ما قال الشافعي ليس عليه دليل و أيضاً الأصل أنّ الإرضاع، و إثبات ذلك يحتاج إلى دليل و ليس في الشرع ما يدلّ على أنّ بشهادتهنّ يثبت ذلك. «1»

و قال ابن البرّاج: أمّا الذي يجوز قبول شهادتهنّ فيه و لا يجوز أن يكون معهنّ أحد من الرجال فهو جميع ما لا يجوز للرجال النظر إليه مثل العُذرة و الأُمور الباطنة في النساء، و شهادة القابلة وحدها في استهلال الصبي في ربع ميراثه، و شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية، و شهادة امرأتين في نصف ميراث المستهل و نصف الوصية، و على هذا الحساب. «2» إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في المقام بين ما ينصّ على الضابطة، و ما يبين حكم موضوع خاص، فمن الأولى:

1- معتبر أبي

بصير: قال سألته عن شهادة النساء فقال: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه». «3»

2- خبر إبراهيم الحارثي: قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و يشهدوا عليه». 4

3- و معتبر محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السَّلام، قال: «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهن رجل». 5

4- موثقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «تجوز شهادة النساء في العذرة و كلّ عيب لا يراه الرجل». 6

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 9.

(2) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 559.

(3) 3- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 4، 5، 7، 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 385

5 صحيح عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه». «1» إلى غير ذلك من الأحاديث الحاملة للضابطة.

و أمّا الثانية أي التنصيص على الموارد، فقد تضافرت الروايات على جواز شهادتهنّ في المنفوس و العذرة، و بما أنّ المراد من الشهادة على المنفوس هو الشهادة على المولود، و أنّه ولد حيّاً أو ميتاً استهلّ أو لا، كما أنّ من الشهادة على العُذرة كون المرأة بَكراً أو لا، فقد بلغ عدد الروايات فيهما اثنين و عشرين لكن بتعابير مختلفة.

فتارة تنص على شهادة القابلة. «2»

و أُخرى على شهادة النساء في المنفوس و العذرة أو خصوص الأخيرة. «3»

و ثالثة في شهادتها في استهلال المولود، و بالتالي صحّة وراثته. «4»

و

مرجع الجميع إلى شهادة المرأة في أُمور الولادة، التي لا تحضرها إلّا النساء غالباً و تلحق به العذرة التي لا يقف عليها شرعاً إلّا النساء.

و سيوافيك تفصيل الأمر في تنفيذ شهادة القابلة و المرأة الواحدة و المقصود في المقام بيان أصل نفوذ شهادة المرأة.

بقي الكلام في أُمور:
اشارة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 10، و لاحظ أيضاً الحديث 12، 42، 50.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 2، 6، 10، 23، و غيرها

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 2، 8، 9، 13، 14، 18، 19، 21، 44، 46، 49.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6، 38، 41، 48.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 386

1- هل تتعين شهادتهن في هذه الموارد؟

مقتضى إطلاق حجّية قول الشاهد، حجّية شهادته حتّى في هاتيك الموارد إذا لم يوجب الحضورُ الخروجَ عن العدالة، كما في حالة الضرورة، أو كان النظر جائزاً كما في الزوج، أو كان سمع الصوت، و لم يكن ملازماً للنظر إلى الأمر المحرّم إلى غير ذلك من الموارد التي يمكن تصوير مشاركة الشاهد العادل مع النساء في هذه الموارد.

و ما في بعض الروايات من التقييد بلفظ وحدهنّ كما في صحيح ابن سنان قال: تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه و تجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس. «1» فلا يعني إلّا إضفاء الحجّية على شهادتهنّ في هذه الحالة أيضاً و إن لم يكن معهن رجال، و لا يعني سلب حجّيتها إذا كنّ منضمات إلى الرجال و لعلّ كلام ابن البرّاج الماضي حيث قال: «و لا يجوز أن يكون معهنّ أحد من الرجال» ناظر إلى بيان الموضوع و أنّ من شأنه أن لا يحضره الرجال لا أنّه إذا حضروا و لم يكن منافياً للعدالة، لا تجوز شهادتهم.

و الحاصل أنّ الروايات ليست بصدد كون شهادتهنّ متعيّنة في هذه الموارد و أنّه ليست لشهادة غيرهنّ قيمة.

و أمّا ردّ الإمام علي عليه السَّلام شهادة الرجال على الزنا، عند التعارض مع شهادة النساء على كون المرمية بالزنا بكراً «2» فلا يرمي إلى نفي كون شهادتهم في المورد في عرض شهادة النساء بل لمّا ادعت المرأة كونها بكراً كما في بعض الروايات، صار الموضوع مقروناً بالشبهة فأمر الإمام بالفحص.

2- شهادتهن في الرضاع

قد تعرفت في نقل الكلمات على اختلافهم في جواز شهادتهنّ في الرضاع

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 10.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 13، 44.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 387

قال الشيخ في المبسوط بعد ما ذكر قبول شهادة أربع نسوة في الولادة و الاستهلال و العيوب تحت الثياب: و أصحابنا رووا أنّه لا تقبل شهادة النساء في الرضاع أصلًا. «1»

2- و قال في كتاب الرضاع من الخلاف: لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال و قال أبو حنيفة و ابن أبي ليلى: لا تقبل شهادتهنّ منفردات إلّا في الولادة، و قال الشافعي: شهادتهنّ على الانفراد تقبل في أربعة مواضع: الولادة، الاستهلال، و الرضاع و العيوب. «2»

3- قال المفيد: و تقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين فيما لا يراه الرجال كالعذرة ... و الرضاع. «3»

4- و قال سلار: و أمّا ما تؤخذ فيه شهادة النساء فكلّ ما لا يراه الرجال كالعذرة و عيوب النساء ... و الرضاع و تقبل شهادة امرأة واحدة إذا كانت مأمونة. «4» و سيوافيك الكلام في قبول المرأتين أو المرأة الواحدة فانتظر.

5- قال ابن حمزة: شهادة أربع نساء. ذلك في ستّة مواضع: الرضاع و الولادة و العُذرة و الحيض و النفاس و عيوب النساء التي تكون

تحت الثياب مثل البرص و الرتق و القرن. «5»

6- و قال المحقّق: و في قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف أقربه الجواز. «6»

7- و قال العلّامة: و أمّا الولادة و الاستهلال و عيوب النساء الباطنة و الرضاع على إشكال فتقبل شهادتهنّ و إن انفردن. «7»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 174.

(2) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الرضاع، المسألة 19.

(3) المفيد: المقنعة: 727.

(4) سلّار، المراسم العلوية: 234.

(5) ابن حمزة: الوسيلة: 222.

(6) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 137.

(7) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 159.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 388

وجه القبول واضح لاندارج الرضاع في الضابطة السابقة لأنّه من الأُمور التي لا يطلع عليه إلّا النساء أو لا يجوز للرجال النظر إليه.

احتج للقول الآخر بأمرين:

1- الأصل، أي أصالة عدم جواز شهادتهنّ لكنّه مقطوع بما دلّ على جواز شهادتهنّ في كلّ مورد يدخل تحت الضابطة.

2- مرسل ابن بكير في امرأة أرضعت غلاماً و جارية قال: «يعلم ذلك غيرها؟» قلت: لا قال: فقال: «لا تصدق إن لم يكن غيرها». «1» و الأولى أن يحتجّ به على جواز شهادتهنّ، لدلالته بالمفهوم على صحّة الاحتجاج بها إذا كانت معها غيرها.

3- شهادة امرأة واحدة في ربع الميراث و الوصية

تقبل شهادة المرأة الواحدة بلا يمين في ربع ميراث المستهل، و في ربع الوصية، و الاثنتين في النصف، و الثلاثة، في ثلاثة أرباع و الأربعة في تمام المال.

قال الشيخ في الخلاف: فإن كانت شهادتهنّ في الاستهلال، أو في الوصيّة لبعض الناس قُبلَت شهادة امرأة في ربع الميراث، و ربع الوصية، و شهادة امرأتين في نصف الوصية و نصف الميراث، و شهادة ثلاث في ثلاثة أرباع الوصية و ثلاثة أرباع الميراث، و شهادة أربع في جميع الوصية و جميع ميراث

المستهل، و قال الشافعي: لا يقبل في جميع ذلك إلّا شهادة أربع منهنّ، و لا يثبت الحكم بالأقل من أربع على كلّ حال.

و به قال عطاء، و قال عثمان البتي: يثبت بثلاث نسوة، و قال مالك و الثوري: تثبت بعدد و هو اثنتان فيهنّ. «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 14، الباب 12 من أبواب ما يحرم بالرضاع، الحديث 3.

(2) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 389

و قال ابن إدريس: و تقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت بشرائط العدالة في استهلال الصبي في ربع ميراثه بغير يمين، و تقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية، و شهادة امرأتين في نصف ميراث المستهل و نصف الوصية، ثمّ على هذا الحساب، و ذلك لا يجوز إلّا عند عدم الرجال و على المسألتين إجماع أصحابنا فلأجل ذلك قلنا بذلك. «1»

أمّا تنفيذ شهادة المرأة الواحدة في الاستهلال فقد أوعزنا محال رواياتها فيما مضى فلاحظ، و يكفي في المقام صحيح عمر بن يزيد و فيه: «شهدت المرأة التي قبلتها أنّه استهلّ و صاح حين وقع إلى الأرض، ثمّ مات، قال على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام». «2»

نعم لا يختص تنفيذ الربع بالقابلة و لفظ القابلة من قبيل القيود الواردة مورد الغالب، و إلّا فلو لم تشهد القابلة لغفلتها أو لكونها صماء و شهدت مرأة أُخرى عادلة، تنفَّذ شهادتها، و يشهد لذلك نفوذ شهادة الثانية و الثالثة في بقية الأرباع و إن لم يكن قوابل. هذا كله حول الشهادة على الاستهلال، المثبت للميراث. و أمّا الشهادة على الوصية.

ففي صحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «قضى أمير

المؤمنين عليه السَّلام في وصيّة لم يشهدها إلّا امرأة، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية». «3» و في صحيح ربعي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شهادة امرأة حضرت رجلًا يوصي فقال: «يجوز في ربع ما أوصى بحساب شهادتها». «4»

نعم يعارضه خبر أحمد بن هلال العبرتائي (267180) المذموم المطرود 5

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 138.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6 و لاحظ أيضاً 38، 41، 48.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 389

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 15.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 16، 34.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 390

و صحيح محمّد بن إسماعيل بن ربيع قال: سألت عن امرأة ادّعى بعض أهلها أنّها أوصت عند موتها من ثلثها، بعتق رقيق لها أ يعتق ذلك و ليس على ذلك شاهد إلّا النساء؟ قال: «لا تجوز شهادة النساء». «1» و حملها الشيخ على التقية. و يحتمل عدم كون الشهادة جامعة للشرائط.

مسائل ثلاث
الأُولى: ليست الشهادة شرطاً في العقود

الشهادة ليست شرطاً في صحّة شي ء من العقود و الإيقاعات إلّا الطلاق و الظهار لقوله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (الطلاق/ 2) و أمّا بيان حكم الإشهاد في الرجعة و النكاح و البيع و الدين و دفع أموال اليتامى، فموكول إلى محلّها.

الثانية: حكم القاضي تابع للشهادة

التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعيّة مسألة معروفة و القائلون بالتصويب فيها يقولون إنّ حكم اللّه سبحانه فيما لم يرد فيه نصّ في الكتاب و السنّة تابع لرأي المجتهد و تشخيصه ما هو المطابق للمعايير الخاصة و اختاره جماعة من العامة و ذهب أصحابنا إلى التخطئة و على كلّ تقدير فلو كان التصويب قولًا في الأحكام، فليس قولًا في الموضوعات، فهي لا تتغير عمّا هو عليه، بحكم الحاكم أو شهادة الشاهد، فلو كانت العين ملكاً لزيد فلا يكون ملكاً واقعاً لعمرو، و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 40.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 391

إن شهد شهود و حكم على وفقه القضاة، غاية الأمر يكون الحكم نافذاً ظاهراً.

قال الشيخ: إذا ادُّعي على رجل عند حاكم، و أقام المدّعي بما يدعيه شاهدين فحكم الحاكم له بشهادتهما كان حكمه تبعاً لشهادتهما، فإن كانا صادقين، كان حكمه صحيحاً في الظاهر و الباطن سواء كان في عقد، أو في رفع عقد، أو فسخ عقد، أو كان مالًا عندنا و عند جماعة. و فيه خلاف «1» و لأجل ذلك يقول المحقّق: حكم الحاكم يتبع للشهادة فإن كان محقة نفذ الحكم ظاهراً و باطناً و إلّا نفذ ظاهراً. «2» و على ضوء ذلك، فلو شهد العدلان،

و حكم الحاكم لرجل يعلم هو بعدم استحقاقه، لا يحلّ له التصرّف و إنّما يحلّ التصرف إذا علم بالاستحقاق أو احتمل، كما إذا شهد له شاهدا عدل له بشي ء بأنّه ورثه من أبيه، و هو لا يعلم و لكن يحتمل صدقهما، فيحلّ له الأخذ بشهادتهما و حكم القاضي إذا احتاج إلى الحكم.

و الدليل على ذلك مضافاً إلى كونه من ضروريات الفقه صحيح هشام عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحَن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار». «3»

و قوله: «ألحَن» من لحن بمعنى فطن و فهم، و المراد أعرف و أفهم بحجّته من غيره فلو كان واقفاً على بطلان حجّته، فلا يفيده حكمي على وفقها لأنّي مأمور بالظاهر دون الباطن.

و إنّما يكفي احتمال صدق الشاهد، إذا كانت الشهادة سبباً تامّاً لصدور الحكم، أمّا إذا توقف على يمين المدّعي أيضاً كما إذا كان هناك ادّعاء على الميت أو الملحق به، أو كان الشاهد واحداً فلا تحلّ له اليمين إلّا مع العلم بالواقع، فلا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 174.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 137.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 392

يفيده حكم الحاكم لو حلف مع عدم علمه، لما عرفت من أنّ حكمه تابع للشهادة و توابعه و منها اليمين و لا يحقّ له اليمين إلّا مع العلم و قد مرّ الكلام في هذا في مبحث القضاء و إنّما أعاد

الكلام هنا لأجل بيان حكم الشاهد.

الثالثة: في حكم تحمّل الشهادة و أدائها
اشارة

المشهور أنّ تحمّل الشهادة فرض في الجملة و إليك نزراً من كلماتهم:

1- قال المفيد: و ليس لأحد أن يُدعى إلى شي ء ليشهد به أو عليه فيمتنع من الإجابة إلى ذلك إلّا أن يكون حضوره يضرّ بالدين أو بأحد المسلمين ضرراً لا يستحقه في الحكم فله الامتناع من الحضور. «1»

2- قال ابن الجنيد: و لا اختار للشاهد أن يمتنع من الشهادة إذا دُعي إليها و لم يحضر بالمكان من يقوم بها سواه فإن حضر، وسعه أن يتجاحد، فإذا شهد، لم يكن له أن يتأخّر إن دُعي إلى إقامتها إلّا أن يعلم بها حدث. «2»

3- قال الشيخ: أمّا التحمّل فإنّه فرض في الجملة فمن دُعي إلى تحمّلها على نكاح أو بيع أو غيرهما من دين أو عقد لزمه التحمّل لقوله تعالى: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) «3»، و لم يُفرّق (بين التحمل و الأداء) و لقوله تعالى: (وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ) 4 إلى أن قال: فإذا ثبت أنّ التحمّل فرض في الجملة فإنّه من فروض الكفايات، إذا قام به قوم سقط عن الباقين كالجهاد و الصلاة على الجنائز و ردّ السّلام و قد يتعيّن التحمّل و هو إذا دُعي لتحمّلها على عقد نكاح أو غيره أو على دين و ليس هناك غيره فحينئذ يتعيّن التحمّل عليه 5.

4- قال في النهاية: لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة إذا دُعي إليها

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 728.

(2) المختلف، كتاب الشهادات: 170.

(3) 3 و 4 البقرة: 282.

(4) 5 الطوسي: المبسوط: 8/ 186.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 393

ليشهد إذا كان من أهلها، إلّا أن يكون

حضوره مضرّاً بشي ء في أمر الدين أو بأحد من المسلمين، و إذا حضر فلا يجوز له أن يشهد إلّا على من يعرفه، فإن أُشهد على من لا يعرفه فليشهد بتعريف من يثق إليه من رجلين مسلمين و إذا أقام الشهادة، أقامها كذلك. «1»

5- قال سلّار: و لا يجوز أن يمتنع من تحمّل الشهادة إلّا أن يضرّ بالدين أو بأحد من المؤمنين. «2»

6- قال ابن البرّاج: لا يجوز لأحد الامتناع من الشهادة، إذا دُعي إليها، إذا كان من أهل الشهادة و العدالة إلّا أن يكون في حضوره لذلك و شهادته ضرر لشي ء يتعلّق بالدين أو فيه مضرّة لأحد المؤمنين. «3»

7- و قال المحقّق: إذا دعي من له أهلية التحمّل، وجب عليه و قيل لا يجب، و الأوّل مروي و الوجوب على الكفاية، و لا يتعيّن إلّا مع عدم غيره ممن يقوم بالتحمّل. «4»

8- قال العلّامة: و الإقامة بالشهادة واجبة على الكفاية، إلّا مع الضرر غير المستحقّ و كذا التحمل. «5»

9- قال الشهيد الثاني: و المروي وجوبه أيضاً على الكفاية كالأداء ثمّ استدل بعموم قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) (الشامل بعمومه الأمرين أو المختص بالتحمّل) و الأخبار الكثيرة و قال: لأنّه من الأُمور الضرورية التي لا ينفك الإنسان عنها لوقوع الحاجة في المعاملات و المناكحات فوجب في حكمه ايجابُ ذلك لتحسم مادة النزاع المترتب على تركه غالباً. «6»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 328.

(2) سلّار: المراسم العلوية: 235.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 560.

(4) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 137.

(5) ابن المطهّر: الإرشاد: 2/ 168.

(6) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 462.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 394

10- قال الأردبيلي: و أمّا التحمّل

فالمشهور وجوبه أيضاً. «1»

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة.

11- قال ابن قدامة: و تحمّل الشهادة و أداؤها فرض على الكفاية لقوله اللّه تعالى: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) «2» و قال تعالى: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) 3 و إنّما خصّ القلب بالإثم لأنّه موضع العلم بها، و لأنّ الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات. 4

12- خالف ابن إدريس الرأيَ العام للفقهاء و قال: و الذي يقوى في نفسي أنّه لا يجب التحمّل، و للإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعى إليها ليتحملها و لا دليل على وجوب ذلك عليه و ما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد فأمّا الاستشهاد بالآية (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) و الاستدلال بها على وجوب التحمّل فهو ضعيف جدّاً لأنّه تعالى سمّاهم شهداء و نهاهم عن الإباء إذا دُعوا إليها و إنّما يسمى شاهداً بعد تحمّلها فالآية بالأداء أشبه و تفسير الشهداء بالأوْل و المشارفة، مجاز لا يصار إليه. 5

استدل على الوجوب بوجوه:

1- قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) (البقرة/ 282)، إمّا بحملها على خصوص التحمّل لصحيح هشام بن سالم 6 أو بعمومها للتحمّل و الأداء.

و أورد على الاستدلال: بأنّ الآية واردة في آداب المعاملة، و أكثر ما ورد فيها آداب مستحبة نظير: (وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) و (لٰا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ) و قوله: (وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ)، فإنّ الإشهاد فيه مستحب،

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 517.

(2) 2 و 3 البقرة: 282 و 283.

(3) 4 ابن قدامة، المغني، المتن و الشرح: 12/ 3.

(4) 5 ابن إدريس: السرائر: 2/ 126.

(5) 6

الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 395

كأصل الكتابة.

يلاحظ عليه: أنّ بعض ما ورد و إن كان من الأُمور المستحبة لكن البعض الآخر من الأُمور الواجبة أو المحظورة نظير: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ) فإنّ أصل الكتابة و إن كان مستحباً، لكن إذا كتب كانت رعاية العدل واجبة و قوله: (وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) و قوله: (وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ)، و قوله: (وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) و على هذا لا يكون الاشتمال على الأُمور المستحبة دليلًا على الاستحباب، و على هذا فظاهر النهي، هو الحرمة.

2- الروايات الواردة على قسمين:

أ: ما يفسر الآية بأنّها راجعة إلى التحمّل و هو أكثرها «1» و عندئذ يرجع لبُّها إلى الاستدلال به.

ب: ما يتعلّق بنفس الموضوع، أعني:

1- معتبر داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «لا يأب الشاهد أن يجيب حين يدعى قبل الكتاب». «2» و الرواية معتبرة و وجود سهل بن زياد في السند غير ضائر.

2- خبر داود بن جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «إذا دُعِيتَ إلى الشهادة فأجب». «3»

و يؤيد ذلك ما مرّ في كلام الشهيد في المسالك، أضف إليه بأنّ إيجاب الإشهاد في الطلاق و الظهار، يناسب إيجاب التحمّل.

استدل من قال باستحبابه بوجهين:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادة، الحديث 2، 4، 5، 7، 10.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث 6.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 396

1 ورود لفظ لا ينبغي، في كثير من الروايات. «1» الظاهر في الاستحباب.

2- مرسل محمّد بن حمزة عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قلت له أو قلنا له، إنّ شريكاً يردّ شهادتنا قال: فقال: لا تُذِّلوا أنفسكم و قال الصدوق في تفسير الحديث: ليس يريد بذلك النهيَ عن إقامتها لأنّ إقامة الشهادة واجب و إنّما يعنى تحمّلها يقول لا تتحملوا الشهادة فتذلّوا أنفسكم بإقامتها عند من يردّها. «2»

يلاحظ على الأوّل: أنّه لم يثبت، ظهور لفظة «و لا ينبغي» في الكراهة، في عصر صدور الحديث و أصالة عدم النقل، لا يثبت الظهور العرفي الذي هو حجّة إلّا أن يقال بحجّية لوازمها تعبداً، و قال الأردبيلي: فإنّه كثيراً ما يرد بمعنى التحريم. «3»

و أمّا الثاني: فإنّ عدم وجوب تحملها لأجل عدم ترتب فائدة عليها، لانّ القضاء كان بيد حكّام الجور، و كانوا يرفضون شهادة الشيعة بحجّة أنّهم رَفضَة و في مثله، لا يجب التحمّل و أين هو ممّا يعلم أنّه تُقبل به و لا تُردّ؟!

و بالجملة، العدول عن الحكم المشهور بين الفريقين إلى غيره، بهذين الوجهين مشكل جدّاً و أنّي أتعجب، عن جنوح صاحب الجواهر إلى خلاف ما هو المشهور بين الفقهاء مع أنّ مشربه في الفقه، هو اقتفاء أثر المشهور و رأيه، و المحقّق الأردبيلي، مع ماله المسلك المعروف في الفقه لم يخالف الرأي العام في المقام. هذا كلّه حول أصل الوجوب و أمّا كونه كفائياً فلانطباق ملاكه عليه، إذ ليس هنا للمولى أغراض متعددة قائمة بكلّ شخص، بل غرض واحد يحصل بقيام اثنين منهم عليه، و عندئذ يكون وجوب مثله كفائياً فالميزان لكونه عينياً أو كفائياً، تعدد الغرض حسبَ تعدد الموضوع، و

وحدته مع تعدده، و الأوّل ملاك

______________________________

(1) لاحظ الحديث 2، 5، 7، 9، 10 من الباب 1 من أبواب الشهادات.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 53 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 519.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 397

العينية و الثاني ملاك الكفائية، هذا كلّه حول التحمّل.

الكلام حول الأداء

و أمّا الأداء، فلم يختلف في وجوبه اثنان، لقوله سبحانه: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة/ 283) و قال سبحانه: (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ) (البقرة/ 140) بناء على أنّ المراد من قوله: (مِنَ اللّٰهِ) أي من عباد اللّه، كما هو أحد الوجوه في تفسير الآية و قد عقد الشيخ الحرّ باباً لوجوب أداء الشهادة و روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السَّلام في حديث النصّ على الرضا أنّه قال: «و إن سُئلت عن الشهادة فأدّها فإنّ اللّه يقول: (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا)». «1»

و أمّا قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) فهو بظاهره راجع إلى الأداء لأنّ الموضوع لتحريم الإباء عن الحضور، هو الشاهد و هو فرع تلبّسه بالشهادة قبل الدعوة فيكون راجعاً بظاهره إلى مقام الأداء لكن الإمعان في مجموع الآية الّتي هي أطول آية في القرآن يعرب عن أنّ المقصود هو التحمل لا الأداء، و ذلك لأنّه سبحانه حينما يأمر بكتابة الدين أوّلًا و الاستشهاد عليه برجلين أو رجل و امرأتين ثانياً، ينهى المؤمنين عن الإباء عند الدعوة، ثمّ يرجع فيأمر بكتابة الجليل و الحقير، و أنّه لا بأس بعدم الكتابة فيما يديرونها بينهم من معاملة حاضرة، أي نقداً يداً

بيد لا نسيئة، فعلى هذا فالنهي عن الإباء، أثناء البحث عن آداب الدين و المعاملة، يعرب عن كونه راجعاً إلى حين المعاملة لا بعدها. و لذلك ورد عنهم في غير واحد من الروايات أنّ قوله: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ)، راجع إلى قبل الشهادة، و قوله: (وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) إلى بعد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب الشهادات، الحديث 5. و الآية 58 من سورة النساء.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 398

الشهادة.

و أمّا وجوبه مطلقاً أو إذا ما تحمّلها باستدعاء من ذي الحقّ، فقد مرّ الكلام في صدر كتاب الشهادة كما علم ممّا سبق كون وجوبه كفائياً لوحدة الغرض، الحاصل بأداء اثنين من الشهداء، و ربّما يتعيّن إذا مات الآخرون أو غابوا و امتنعوا من الأداء شأن كلّ واجب كفائي، نعم وجوب التحمّل و الأداء مقيّد بعدم ترتّب ضرر ديني أو دنيوي غير مستحقّ عليهما، كما إذا كان الشاهد مديناً على المشهود عليه فيسامحه في الطلب، و لو شهد تحمّلًا أو أداء يطالب دينه المعجّل فليس مثل هذا عذراً لأنّه ضرر مستحقّو ليس بمستحقّ.

و لو توقف التحمّل أو الأداء على صرف مال، فلا يجب إلّا إذا بذل المشهود له، و مع ذلك كلّه لم يطلب منه وقتاً كثيراً لا يبذل عادة في هذه الأُمور. و بعبارة أُخرى كان الطلب أمراً متعارفاً عندهم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 399

المقصد الرابع في الشهادة على الشهادة

اشارة

إنّ عنوان البحث غنيّ عن التعريف، و الشهادة الثانية شهادة فرعية كما أنّ الأُولى أصلية و لا دور للفرع إلّا سماعها عن الأصل، و هي جائزة نافذة كتاباً و سنّة و إجماعاً.

أمّا الأوّل

فلقوله سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) و لم يفصل و ظهوره في الشهادة الأُولى بدئي يزول بالتأمل و مثله قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و أمّا السنّة فإنّ الأسئلة و الأجوبة، الواردة حول الموضوع تعرب عن كون الحكم (جواز الشهادة على الشهادة) كان أمراً مسلّماً، و كان الكلام في الخصوصيات و سوف يوافيك بعض النصوص، و أمّا الإجماع فهو واضح لمن سبر الكلمات، فنذكر منها النزر اليسير:

1- قال المفيد: و لا يجوز لأحد أن يشهد على شهادة غيره إلّا أن يكون عدلًا مرضياً و إذا شهد فليذكر شهادته على غيره و لا يقول: «اشهد على فلان بكذا» من غير أن يبين كيف شهد، و على أيّ وجه كانت الشهادة. «1»

2- قال الشيخ: الشهادة على الشهادة جائزة لقوله تعالى: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) و لم يفصل. «2»

3- و قال أبو الصلاح: و لا تجوز الشهادة على شهادة من ليس بعدل في

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 828.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 231.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 400

الحقيقة، و لا حكم لشهادة الواحد على شهادة الواحد، و يحكم بشهادة الاثنين على شهادة الواحد و يقوم شهادتهما مقام شهادته. «1»

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة حيث إنّ البحث في الجميع مركّز على الخصوصيات دون الأصل و إليك أحكامها و النظر في أُمور أربعة:

1- المحلّ، 2 العدد، 3 في كيفية التحمّل، 4 في شرط الحكم بها.

و إليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: المحلّ

يثبت بالشهادة على الشهادة، كلّ شي ء إلّا الحدود، سواء كانت للّه محضاً كحدّ الزنا و اللواط و السحق أو مشتركة كحدّ السرقة و القذف.

قال الشيخ: الحقّ

إمّا أن يكون للّه أو للآدميين، فإن كان لآدمي ثبت بالشهادة على الشهادة سواء كان الحقّ ممّا لا يثبت إلّا بشاهدين كالنكاح و الخلع و الطلاق و الرجعة و القذف و النسب، و القصاص و الكتابة أو مما يثبت بشاهدين، أو شاهد و امرأتين أو شاهد و يمين، و هو ما كان مالًا أو المقصود منه المال أو كان ممّا يثبت بالنساء وحدهنّ، و هو ممّا لا يطّلع عليه الرجال كالولادة و الرضاع عندهم، و العيوب تحت الثياب و الاستهلال. قال بعضهم: لا يثبت بالشهادة على الشهادة.

و إن كان حقّاً للّه و هو حدّ الزنا و اللواط و القطع في السرقة و شرب الخمر، قال قوم: لا يثبت بالشهادة على الشهادة و هو مذهبنا و قال بعضهم يثبت. «2»

لا خلاف بيننا في عدم ثبوت الحدّ المختصّ باللّه، بهذا النوع من الشهادة و إنّما الاختلاف في الحدّ المشترك بينه سبحانه و بين الآدمي كالقذف و السرقة و

______________________________

(1) الحلبي: الكافي: 438.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 231.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 401

لأجل ذلك يقول المحقّق: و في حدّ السرقة و القذف خلاف. «1» و مثله العلّامة في الإرشاد. «2»

و قال الأردبيلي: و في حدّ القذف و السرقة خلاف، كأنّه للشك في كونه من حقوق اللّه المحضة، أم للآدمي فيه مدخل. الظاهر هو الأخير و لهذا يسقط بإسقاطه. «3» و نسب القول بثبوتهما بها إلى الشيخ في المبسوط و ابن حمزة في الوسيلة، و قد عرفت كلام الشيخ حيث صرّح بعدم ثبوت حدّ السرقة بها، و لم أعثر عليه في الوسيلة نعم قال الشهيد الثاني: إنّ الأخذ بالعموم (عموم دليل حجّية الشهادة على

الشهادة) أجود لعدم دليل صالح للتخصيص فيها و هو اختيار الشهيد في الشرح.

و المخصص عبارة عن خبرين معتبرين أحدهما لطلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ. «4» و ثانيهما موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السَّلام قال: «قال علي عليه السَّلام: لا تجوز شهادة على شهادة في حد». 5 و الضعف منجبر بالعمل، و يؤيده درء الحد بالشبهة، لكن الاستثناء دليل على ثبوت كلّ شي ء، حتّى حقوق اللّه من غير الحدّ، كالزكاة و أوقاف المساجد، و الجهات العامة و الأهلة. و قد عبر المحقّق عن المستثنى منه بحقوق الناس، و هو لا يشمل حقوق اللّه غير الحدّ، كما لا يشمل مثل الأهلة و لمّا كان ظاهر كلام المحقّق خروج بعض الحقوق للّه استدركه الشهيد الثاني و قال: قد يتوهم خروج ما كان حقّاً للّه تعالى و ليس حقاً للآدمي و إن لم يكن حدّاً و هذا ليس بمراد بل الضابطة ما ذكرناه.

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 138.

(2) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 164.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 476.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 45 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2 و طلحة بن زيد و إن لم يوثق لكن الشيخ قال في الفهرست كتابه معتمد، و غياث بن إبراهيم التميمي الأسدي وثّقه النجاشي فما في الجواهر في التعبير بالخبرين لا يخلو من مسامحة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 402

و على ذلك، ربّما يثبت بعض الآثار دون البعض إذا قامت على كراهة المزنيّ بها فيثبت المهر، دون الحدّ، أو

على إيقاب الغلام، فتحرم أم الموطوء و أُخته، و بنته دون الحد و هكذا. و التفكيك بين اللوازم ليس بمشكل، لأنّ التلازم إذا كان تكوينياً، يمتنع التفكيك و أمّا إذا كان بالجعل و الاعتبار فلا مانع منه و لأجل ذلك، لو توضّأ بأحد الإنائين المشتبهين، يحكم بطهارة البدن و بقاء الحدث، مع أنّه لو كان الماء طاهراً يلزم رفع الحدث أيضاً و إلّا تلزم نجاسة الأعضاء. و لكنّه سهل لأنّ الملازمة اعتبارية.

و يلحق بالحدّ، التعزيرُ فلو قامت على أمر لو ثبت لوجب التعزير فلا يثبت إلحاقاً بالحدّ. و فيه تأمّل لأنّ مقتضى العموم ثبوته و الخارج هو الحدّ، و إطلاقه على التعزير مجاز لا يصار إليه إلّا بالدليل و الدرء مختص بالحدّ.

الثاني: العدد

إنّ المشهود به في الشهادة على الشهادة، هو شهادة الأصل، فالمشهور أنّه لا بدّ من إثباته بشاهدين عدلين، و ذلك لأنّ الأصل في الشهادة، هو شهادة عدلين أو ما يقوم مقامه من العدل الواحد و الامرأتين.

نعم تختصّ شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل شهادتهن فيه لا مطلقاً و إلّا تلزم زيادة الفرع على الأصل.

قال الشيخ: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة إلّا في الديون و الأملاك و العقود فأمّا الحدود فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة و قال قوم: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة بحال في جميع الأشياء و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: إن كان الحقّ مما يثبت بشهادة النساء أو لهنّ مدخل فيه، قبلت شهادتهنّ على الشهادة و إن كان ممّا لا مدخل لهنّ فيه لم يقبل. دليلنا إجماع الفرقة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 403

و أخبارهم. «1»

و قال السيّد

الأُستاذ: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ منفردات أو منضمّات، فهل تقبل شهادتهن كذلك فيه؟ قولان، أشبههما المنع. «2»

و يمكن الاستدلال على المنع بالأُمور التالية:

1- الضابطة: الأصل في الشهادة، شهادة الرجل، دون غيره، يُعلم ذلك من تحديد شهادة المرأة دون غيرها، و كثرة السؤال عن شهادتها في موارد خاصة، كلّ ذلك يعبِّر عن أنّ الضابطة، هو شهادة الرجل.

يلاحظ عليه: أنّه إذا كانت شهادة المرأة حجّة في حقوق الناس فلا مانع من قبولها في الشهادة على الشهادة إذا كانت في طريقها، إلّا أن يقال إنّ حجّيتها مختصّة بما إذا كان الحقّ هو المشهود به بالمباشرة دون الشهادة على الحقّ.

2- معتبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنّه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل. «3»

3- موثق غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السَّلام أنّ عليّاً عليه السَّلام كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل. 4

يلاحظ عليه: أنّ الروايتين بصدد بيان شرطية التعدد، لا شرطية الرجولية.

4- مرسلة الصدوق التي لا تقصر عن مسندها بقوله: (و قال الصادق): «إذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل، و هي نصف شهادة، و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد». 5

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات: 66.

(2) الإمام الخميني قدس سره: التحرير: 2، كتاب الشهادات: 2/ 406.

(3) 3- 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 44 من أبواب الشهادات، الحديث 2 و 4 و 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 404

يلاحظ

عليه: مع أنّه ليس فيها حصر، إنّ الرواية بصدد بيان أنّ شهادة رجل على رجل لا يثبت شهادته إلّا إذا ضمّت إليها شهادة رجل آخر، حتى يثبت شهادة الأصل أي الرجل الواحد، و ليست بصدد شرطية الذكورة فالرواية فاقدة للدلالة.

و على أيّ تقدير، يثبت الأصل بالطرق التالية:

1- أن يشهد فرعان على شهادة أحد الأصلين، و فرعان آخران على شهادة الأصل الآخر فيكون الفرع أربعة.

2- أن يشهد فرعان على شهادة كلّ من الأصلين، فيكون الفرع اثنين.

3- أن يشهد أحد الأصلين مع الفرع، على شهادة أحد الأصلين إذ كونه شاهدَ أصل لا ينافي كونه مع ذلك شاهد فرع.

4- إذا كان المشهود به أربعة كشهود الزنا، أو كان أحد الأصلين رجلًا، و الآخر امرأتين فيما تقبل، أو أربع نسوة فيما تقبل شهادتهنّ، ففي الجميع تجوز شهادة رجلين.

إلى غير ذلك من الصور، و الدليل على جواز شهادتهما، هو إطلاق حجّية شهادة العدلين، أمّا المعتبران فيصحّ الاحتجاج بإطلاقهما في بعض أي فيما إذا كان المشهود شهادة الرجل كما في الصور الثلاث الأُولى، لا فيما إذا كان المشهود، هو شهادة المرأتين كما في بعض أقسام الصورة الرابعة.

نعم حكى الخلاف عن الشافعي. قال الشيخ: إذا شهد شاهدان على شهادة رجل، ثمّ شهدا هما على شهادة الآخر، فإنّه تثبت شهادة الأوّل بلا خلاف، و عندنا تثبت شهادة الثاني أيضاً، و به قال أبو حنيفة و أصحابه و الثوري و مالك، و ربيعة، و أحد قولي الشافعي الصحيح عندهم. و القول الثاني أنّه لا يثبت حتى يشهد آخران على شهادة الآخر، و هو اختيار المزني. دليلنا الأخبار التي وردت بأنّ شهادة الأصل لا تثبت إلّا بشاهدين، و الشاهدان قد ثبتا في كلّ

نظام القضاء

و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 405

واحد من الشاهدين. «1» و مقصوده شمول إطلاق الروايات لهذا المورد.

نعم ربّما يشكل على الصورة الثانية بأنّه يلزم أن يكون الأصل فرعاً و يدفع بأنّ الحيثيتين مختلفتان فهو من جهة أصل، و من جهة أُخرى فرع.

ثمّ إنّ نشر الحرمة و المهر من آثار الزنا فيشترط في الأصل شهادة أربعة رجال و أمّا الفرع ففيه وجهان من أنّه نائب عن الأصل فيشترط فيه الأربعة، و من أنّه لا يثبت به إلّا نفس الشهادة فيكفي فيه اثنان و بعبارة أُخرى يثبت بها شهادة الأربعة على الزنا، لا نفس الزنا حتى يعتبر فيه ما يعتبر فيه.

الثالث: التحمل

المراد كيفية تحمّل الشهادة على الشهادة حتى يصير شاهد الفرع متحمّلًا بشهادة شاهد الأصل و ذكروا لها صوراً أربع: و إليك نصّ الشيخ:

أحدها: الاسترعاء، و هو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم، فاشهد على شهادتي فهذا هو الاسترعاء.

الثاني: أن يَسمع شاهد الفرع شهادة شاهدَ الأصل يشهد بالحقّ عند الحاكم فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم، صار متحمّلًا لشهادته.

الثالث: أن يشهد الأصل بالحقّ و يعزّيه إلى سبب وجوبه، فيقول أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان أو دين أو إتلاف و نحو هذا، فإذا عزّاه إلى سبب وجوبه، صار متحمّلًا للشهادة.

الرابع: إذا لم يكن هناك استرعاء و لا سمعه يشهد به عند الحاكم، و لا عزّاه

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 70.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 406

إلى سبب وجوبه مثل أن سمعه

يقول: أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم.

ثمّ إنّ الشيخ يردّ تلك الشهادة في الصورة الرابعة و يقول إنّه لا يصير بهذا متحمّلًا للشهادة على شهادته لأنّ قوله: «اشهد بذلك» ينقسم إلى الشهادة بالحقّ و يحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، و هو أن يسمع الناس يقولون لفلان على فلان كذا و كذا و حينئذ يقف التحمل بهذا الاحتمال. نعم إذا استرعاه أو شهد به عند الحاكم أو عزّاه إلى سبب وجوبه زال الإشكال. «1»

و حاصل كلامه وجود الفرق بين الثالثة و الرابعة بأنّه إذا ذكر السبب مثلًا من كونه ثمناً لثوب أو عقار يكون شهادة عرفاً فتندرج في الشهادة على الشهادة و أمّا إذا لم يذكر السبب فلا يقبل لاعتياد التسامح بأمثال ذلك في غير مجلس الحاكم و لعلّه وعده أن يعطيه شيئاً فعدّه ديناً و شهد به.

و قال المحقّق: و في الفرق إشكال لأنّه يحتمل في الصورة الثالثة أن يكون السبب عند الشاهد مما لا يثبت به عند الحاكم.

و الأولى القبول مطلقاً، لأنّ أصالة الصحّة في شهادة الأصل، و عدالته، يصدّنا عن إبداء هذه الاحتمالات و الأولى الحكم بالشهادة على الشهادة إذا تحملها على أحد الوجوه الأربعة ما لم يعلم الخلاف.

و أمّا التعبير عن كيفية التحمل، فيجب أن يكون تعبيره عنها وفق الواقع.

ففي صورة الاسترعاء يقول: أشهدني فلان على شهادته.

و في صورة سماعه عند الحاكم يقول: أشهد أنّ فلاناً شهد عند الحاكم بكذا.

و في صورة سماعه لا عند الحاكم يقول: إنّ فلاناً شهد على فلان لفلان بكذا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 232231، بتصرف يسير لإيضاح المقصود.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 407

لسبب

كذا.

و في الرابعة يقول نفس ما يقول في الصورة الثالثة بلا ذكر السبب.

الرابع: في شرط الحكم بها

اشارة

ذكر الأصحاب شروطاً في صحّة الحكم بالشهادة على الشهادة نذكر منها ما يلي:

الشرط الأوّل: عدم التمكّن من حضور الأصل
اشارة

ذهب بعض الأصحاب إلى أنّ من شرائط الحكم بالشهادة على الشهادة عدم التمكّن من حضور الأصل.

1- قال الشيخ: الظاهر من المذهب أنّه لا تقبل شهادة الفرع مع تمكّن حضور شاهد الأصل، و إنّما يجوز ذلك مع تعذّره إمّا بالموت أو بالمرض المانع من الحضور أو الغيبة و به قال الفقهاء إلّا أنّهم اختلفوا في حدّ الغيبة فقال أبو حنيفة: ما تُقصّر فيه الصلاة و هو ثلاثة أيّام، و قال أبو يوسف: هو ما لا يمكنه أن يحضر معه و يقيم الشهادة و يعود فيبيت في منزله، و قال الشافعي: الاعتبار بالمشقة، فإن كان عليه مشقّة في الحضور حكم بشهادة الفرع، و إن لم تكن مشقّة لم يحكم، و المشقة قريب ممّا قاله أبو يوسف، و في أصحابنا من قال يجوز أن يحكم بذلك مع الإمكان. «1»

2- و قال في المبسوط: لا يُقضى بشهادة الفرع حتى يتعذّر على الأصل إقامتها، فأمّا إن كان شاهدُ الأصل موجوداً قادراً على أداء شهادة نفسه، فالحاكم لا يقضي بشاهد الفرع إلى أن قال: فأمّا إن تعذّرت شهادة الأصل بأن مات

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 65.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 408

الأصل سُمِع من الفرع و قُضي بشهادته و إن مرض الأصل فكذلك أيضاً لأنّ على الأصل مشقة في الحضور. «1»

3- و قال ابن الجنيد: و لا بأس بإقامتها و إن كان المشهود على شهادته حاضرَ البلد أو غائباً إذا كانت له علّة تمنعه من الحضور للقيام بها. و قال العلّامة بعد نقل كلامه هذا: و هو يشعر باشتراط عذر

الأصل. «2»

4- و قال ابن البرّاج: و تجوز الشهادة على شهادة و إن كان الشاهد الأوّل حاضراً غير غائب إذا منعه مانع من إقامته الشهادة من مرض أو غيره. «3»

5- و قال ابن حمزة: و لا تُسمَع الشهادة من الفرع مع حضور الأصل، فإذا غاب الأصل أو كان في حكم الغائب جاز، و هو إذا كان مريضاً أو ممنوعاً أو تعذر عليه الحضور. «4»

6- و قال ابن إدريس: و لا بأس بالشهادة على الشهادة و إن كان الشاهد الأوّل حاضراً غير غائب إذا منعه من إقامة الشهادة مانع من مرض أو نحوه. «5»

7- و قال المحقّق: و لا تقبل شهادة الفرع إلّا عند تعذّر حضور شاهد الأصل و يتحقق العذر بالمرض و ما ماثله و بالغيبة و لا تقدير لها و ضابطه مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره. «6»

8- و قال العلّامة: و لا تُسمع شهادة الفرع إلّا عند تعذر شاهد الأصل إمّا لمرض أو غيبة و الضابطة المشقة. «7»

9- و قال الكيدري: و تثبت شهادة الأصل بشهادة عدلين و تقوم مقامها

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8، كتاب الشهادات: 232.

(2) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات: 171.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 561.

(4) ابن حمزة: الوسيلة: 223.

(5) ابن إدريس: السرائر: 2/ 13.

(6) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 124.

(7) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 165.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 409

إذا تعذر حضور الأصل لموت أو مرض أو سفر. «1»

10 و قال السيّد الأُستاذ: الأقوى عدم قبول شهادة الفرع إلّا لعذر يمنع حضور شاهد الأصل لإقامتها لمرض أو مشقة يسقط بهما وجوب حضوره أو لغيبة كان الحضور معها حرجاً و مشقة و من المنع،

الحبس المانع عن الحضور. «2»

ثمّ إنّه يظهر من كتاب الخلاف وجود الخلاف بين الأصحاب حيث قال: و من أصحابنا من يقول يجوز أن يحكم بذلك مع الإمكان، و حاصل ما يمكن أن يستدل للقول بالجواز، أمران مستفادان من كتاب الخلاف.

1- إنّ الأصل قبول الشهادة على الشهادة و تخصيصها بوقت دون وقت أو على وجه دون وجه يحتاج إلى دليل.

2- روى أصحابنا أنّه إذا اجتمع شاهد الأصل و شاهد الفرع و اختلفا فإنّه تقبل شهادة أعدلهما حتى أنّ في أصحابنا من قال: تقبل شهادة الفرع و تسقط شهادة الأصل لأنّه يصير الأصل مدّعى عليه، و الفرع بيّنة المدّعي للشهادة على الأصل.

و لم يذكر الشيخ اسم القائل بالجواز، و نقل في الجواهر عن الدروس أنّه نسبه إلى الإسكافي فإن أُريد منه ابن الجنيد فقد عرفت أنّه موافق للمشهور، و نسبه المحقق الأردبيلي إلى والد الصدوق «3» و ليس فيما نقله العلّامة عنه في المختلف «4» ما يدل على ذلك سوى عنوان المسألة الآتية من إنكار الأصل شهادة الفرع، و قد عنونه غيره أيضاً كما سيوافيك و ممن نفى الاشتراط، الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام حيث قال: الأقوى عدم الاشتراط. «5»

ثمّ إنّه استدل للقول المشهور بما رواه الشيخ بسند صحيح عن ذبيان بن

______________________________

(1) الكيدري: إصباح الشيعة: 531.

(2) الإمام الخميني قدس سره: التحرير: 2/ 406.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 481.

(4) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات، 171.

(5) الفاضل الاصبهاني، كشف اللثام: 2/ 205.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 410

حكيم الأزدي المهمل في الرجال و لكن ليس بقليل الرواية عن موسى بن اكيل النميري الثقة، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام في

الشهادة على شهادة الرجل و هو بالحضرة في البلد قال: «نعم و لو كان خُلف سارية «1» يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه عن أن يحضره و يُقيمها فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادته». «2»

و أورد المحقق الأردبيلي على الاستدلال: بأنّ الرواية غير صحيحة، و الشهرة ليست بحجّة، مع وجود المخالف مثل علي بن بابويه، فإنّه يقبل الفرع مع إمكان الأصل و هو مقتضى عموم أدلّة قبول الشهادة أصلًا و فرعاً و المخصص يحتاج إلى الدليل فتأمل. «3»

أقول: مقتضى القاعدة هو الحجّية سواء كان الأصل حاضراً أو غائباً و ذلك لإطلاق دليل حجّية البيّنة و إطلاق الخبرين المعتبرين أي طلحة بن زيد، و غياث بن إبراهيم و التخصيص يحتاج إلى دليل.

و لكن رواية محمّد بن مسلم صالحة للاحتجاج إذ ليس في سندها من هو محكوم بالضعف، و إنّما الموجود من هو محكوم بالإهمال في الرجال من حيث التوثيق و عدمه و لكن القرائن تدل على الوثوق به أو بروايته و ذلك لرواية المشايخ عنه كمحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب في المقام و في غير واحد من أبواب الفقه كباب الوكالات، و آداب الحكّام، و البيّنات و فضل المساجد، و باب تلقين المحتضر، و رواية أحمد بن الحسن بن فضال عن أبيه عنه، و رواية أحمد ابن الحسين بن عبد الملك الأزدي عنه، إلى غيرهم من المشايخ.

قال المحقّق الخوئي: ذكره النجاشي في ترجمة أحمد بن يحيى بن حكيم و

______________________________

(1) السارية مؤنث الساري: الجماعة من القوم تسري بالليل.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 44 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 481.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 2، ص: 411

ظاهر كلامه أنّ ذبيان كان من المعاريف المشهورين. نعم ذكر ابن الغضائري أنّ أمره مختلط و قد وقع بعنوان ذبيان بن حكيم في أسناد الروايات تبلغ ستة عشر مورداً ثمّ ذكر مواضع رواياته. «1»

هذا من جانب و من جانب آخر، أنّ المشهور عمل بهذه الرواية و أفتى على وفقها، و احتمال انّ الافتاء على وفقها لأجل كونها موافقة للاحتياط كما ترى، لانّ الاحتياط ربّما يكون في جانب المخالف كما إذا احتمل انّه إذا لم يقبل الفرع حاليّاً ربّما، لا يتمكن المدّعى في المستقبل لا من الأصل و لا من الفرع، فصيانة الحقوق توجب القبول في بدء الأمر من دون تفحص عن إمكان حضور الأصل و عدمه.

و أمّا الاستدلال على عدم الاشتراط بما ورد في الفتاوى و الروايات من أنّه إذا اختلف الأصل و الفرع، فيؤخذ بقول الأعدل منهما «2» فسيوافيك الكلام فيه في التالي.

لو شهد الفرعُ، فأنكر الأصلُ

لو شهد شاهدُ الفرع على شهادة الأصل، لكن أنكر الأصلُ شهادتَه فمقتضى القاعدة بعد الاعتراف بأنّه لا يحتجُّ بالفرع إلّا مع عدم حضور الأصل هو أنّه لو حضر قبل الحكم و أنكر، لغتِ شهادة الفرع لعدم تحقّق الشرط بحضوره حتى لو قيل إنّ الحضور غير ضائر لكنّه مع الإنكار ضائر قطعاً، و إن حضر بعده لا عبرة بالإنكار، بعد صدور الحكم، لأنّ الحكم لا ينقض إلّا بالعلم بالفساد، و لا علم به، لاحتمال صدق الفرع، أو نسيان الأصل أو غيرهما من الأعذار.

هذا هو مقتضى القاعدة لكن الأصحاب ذهبوا إلى أنّه تقبل شهادة أعدلهما و هم بين مطلق، و مقيّدها بما بعد الحكم و إلّا فلو كان قبله، سمع من الأصل

______________________________

(1) السيّد الخوئي، معجم رجال الحديث: 7/ 149.

(2)

الوسائل: الجزء 18، الباب 46 من أبواب الشهادات، الحديث 31.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 412

لا من الفرع.

و إليك من أطلق:

1- قال الصدوق: و إذا حضرا فشهد أحدهما على شهادة الآخر، و أنكر صاحبُه أن يكونَ أشهده على شهادته فإنّه يقبل قول أعدلهما.

و في رسالة والده نفس النصّ بزيادة قوله: فإن استويا في العدالة بطلت. «1»

2- قال الشيخ في النهاية: و من شهد على شهادة آخر و أنكر ذلك، الشاهدُ الأوّل قبلت شهادة أعدلهما فإن كانت عدالتُهما سواءً طرحت شهادة الشاهد الثاني. «2»

3- و قال القاضي: و إذا شهد إنسان على شهادة آخر و أنكر الشهادة، الشاهدُ الأوّل، قبلت شهادة أعدلهما فإن تساووا في العدالة طرحتْ شهادة الثاني. «3»

و الحجّة لهم صحيحة عبد اللّه بن سنان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال: إنّي لم أشهده، قال: «تجوز شهادة أعدلهما، و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته». «4» و رواه أبان بن عثمان عن عبد الرحمن المذكور أيضاً لكن بحذف الذيل أعني: «و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادة أعدلهما». 5 و على هذا فهما رواية واحدة و إنّما تختلفان في الراوي عن «عبد الرحمن».

و رواه يونس عن عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق بلا واسطة، و يحتمل

______________________________

(1) الصدوق: المقنع: 399.

(2) الطوسي: النهاية: 329 و المراد من الثاني في عبارته هو الفرع.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 201.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 46 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 413

سقوط الواسطة (عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه)، كما يحتمل سماع ابن سنان عن الإمام مباشرة أيضاً. «1»

غير أنّ الإفتاء بظاهره ينافي ما سبق من شرطية عدم حضور الأصل لجواز شهادة الفرع.

و لهذه الملاحظة نجد من الأصحاب من يُقيّدها بما بعدَ الحكم، و أنّ الحضور قبل الحكم يبطل شهادة الفرع نعم لو شهد و لم يكن الأصل حاضراً و حكم الحاكم ثمّ جاء الأصل و أنكر، فيؤخذ بقول الأعدل، و إلّا فيطرحْ شهادة الفرع و قد حمل الرواية على هذه الصورة لفيف منهم:

ابن حمزة في الوسيلة قال: و إذا شهد الفرع ثمّ حضر الأصل، لم يخل من وجهين إمّا حكم الحاكم بشهادة الفرع أو لم يحكم، فإن حكم و صدّقه الأصل، و كان عدلًا نفذ حكمه، و إن كذبه و تساويا في العدالة نقض الحكم و إن تفاوتا أخذ بقول أعدلهما و إن لم يحكم بقوله، سمع من الأصل و حكم به. «2»

و منهم العلّامة في المختلف قال: تحمل الرواية على ما إذا أنكر بعد الحكم فإنّه لا يقدح في الحكم حينئذ بشهادة أعدلهما اعتباراً بقوة الظن أمّا قبل الحكم فإنّ شهادة الفرع تبطل قطعاً. «3» و بذلك جمع بين القول بشرطية عدم الحضور، في الاحتجاج بالفرع، و القول بالأخذ بأعدلهما من الفرع و الأصل، و ذلك بحمل ما دلّ على الاشتراط على ما قبل الحكم، و حمل ما دلّ على الأخذ بالأعدل كما في صحيحة عبد الرحمن، على صورة صدور الحكم.

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّه جمع بلا شاهد أنّه لو صدر الحكمُ حينما كانت شهادة الفرع جامعة للشرط، فلا ينقض الحكم بتكذيب الأصل لأنّ نقض

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 46 من أبواب الشهادات،

الحديث 3.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 234.

(3) ابن المطهّر: المختلف: 171، كتاب الشهادات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 414

الحكم منحصر بصورة العلم بالفساد، و لا علم و قد صرح المحقّق أيضاً بأنّه لو حكم بشهادة الفرع ثمّ حضر الأصل لم تقدح مخالفته.

ثمّ إنّ المحقّق حمل الرواية على ما قبل الحكم، لكن فسر الرواية بما إذا قال الأصل «لا أعلم» لا إذا كذّب الفرع.

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّ صريح الصحيحة هو التكذيب لا عدم العلم حيث ورد فيها أنّ الأصل قال: «لما شهده» أنّ الإشكال الذي أشار إليه نفس المحقّق قبل هذا التأويل و قال: «و هو يشكل بما أنّ الشرط في قبول الفرع عدم حضور الأصل» باق بحاله.

و هناك وجه ثالث أشار إليه صاحب الجواهر و هو حمل ما دلّ على عدم التمكّن من الحضور على ما قبل الشهادة، فلو تمكن من الحضور قبل الشهادة، لما صحّت شهادة الفرع و لكن لو شهد جامعاً للشرائط بأن كان الأصل خارجاً عن البلد، ثمّ حضر فلا يضرّ لأنّ القدر المتيقن من رواية محمّد بن مسلم الدالة على عدم التمكن من الأصل، هو عدم حضوره قبل الشهادة، و إلّا فلو تعسّر الحضور و شهد فبما أنّ الشهادة جامعة للشرط فلا يضرّه الحضور بعدها و بهذا فسرت رواية محمّد بن مسلم.

و أمّا صحيحة عبد الرحمن، فتحمل على ما إذا حضر بعد الشهادة التي كانت جامعة للشرط، و أنكر قبل صدور الحكم، ففي هذه الظروف يؤخذ بأعدلهما و إن كانا متساويين لا يؤخذ بقول الفرع.

نعم لو حضر و كذب بعد صدور الحكم، فالحكم لا ينقض و لا تسع قول الأصل.

و إلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر

و يقول: و أمّا معارضة ما دلّ على اشتراط عدم حضور الأصل فعلى فرض كون الرجحان ينبغي الاقتصار فيه على مقدار المعارضة لا أزيد و هو ما إذا كان قبل إقامة الشهادة و أمّا بعدها فليس في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 415

تلك الأدلة ما يقتضي اشتراطها أيضاً بعدم حضور الأصل بل ظاهر دليل الشرطية القبول حينئذ فيبقى الخبران حينئذ سالمين عن التعارض فيعمل بمضمونهما. «1»

حضور الأصل بعد الحكم بالفرع

لو حضر شاهد الأصل بعد الحكم لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا لأنّه حكم صدر على وفق الموازين فلا ينقض بلا خلاف إنّما الكلام إذا حضر قبل الحكم. و بعد الشهادة قال المحقّق: «سقط اعتبار الفرع و بقي الحكم لشاهد الأصل» و لكن الصحيح على ما ذكرنا أن يقال: إن حضر و خالفا، يؤخذ بأعدلهما حسب ما ورد في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، و إن حضر و لم تظهر منه المخالفة و لا الموافقة، يحكم بشهادة الفرع لأنّها شهدت و كانت جامعة للشرط و هو عدم التمكن من الأصل قبل الشهادة، و حضوره ثانياً لا يخرجها عمّا هي عليها إلّا مع المخالفة و المفروض عدمها.

تغيّر حال الأصل بفسق أو كفر

إذا خرج الأصل عن الصلاحية بفسق أو كفر أو عداوة للمشهود عليه ممّا تعدّ من موانع قبول الشهادة قال المحقق: لم يحكم بالفرع لأنّ الحكم مستند إلى شهادة الأصل.

و في إطلاق كلامه نظر يعلم من بيان صور المسألة:

1- لو طرأ مانع بعد تحمّل الفرع، و أدائه الشهادة عند الحاكم و حكمه على وفقها.

2- لو طرأ بعد تحمّل الفرع و بعد أدائها عند الحاكم، لكن قبل حكمه.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 204.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 416

3 لو طرأ بعد تحمّل الفرع و قبل أدائها عند الحاكم.

4- لو طرأ قبل تحمّل الفرع بمعنى أنّه أشهده و هو فاسق.

لا شك في أنّه لا يضرّه في الصورة الأُولى، كما لا شكّ أنّه تطرح شهادة الفرع في الصورة الأخيرة لأنّ شهادة الأصل في هذه الحالة مردودة، فكيف شهادة الفرع على شهادته.

إنّما الكلام في الصورتين المتوسطين فالقول بطرح الفرع مستنداً إلى أنّ الحكم مستند إلى شهادة

الأصل الفاسق غير تامّ.

و ذلك لأنّ الموضوع لقبول الشهادة كون الشاهد حين الشهادة جامعاً للشرائط، بأن يكون عاقلًا، بالغاً، عادلًا و المفروض أنّ الأصل كان حين الأداء عادلًا سواءً بقي على العدالة إلى وقت أداء الفرع لدى الحاكم، كما في الصورة الثانية و إن زالت قبل الحكم، أو لم يبق عليها، بل كان عادلًا حين الإشهاد، و تحمّل الفرع، لكن زالت العدالة قبل أدائها لدى الحاكم كما في الصورة الثالثة.

و الذي يؤيد ما ذكرناه أنّهم اقتصروا في عدالة الراوي في باب حجيّة خبر الواحد على كونه كذلك حين الإخبار و إن تغيّر وصفه بعده فلو تحمّل عادل خبر عادل، ثمّ طرأ الفسق على المخبر الأوّل، لم يضر و لأجل ذلك يعمل الأصحاب بروايات علي بن أبي حمزة البطائني و سائر الواقفة إذا حدَّثوا حين الاستقامة.

و الحاصل أنّ طروء الطارئ يفسد شهادته الفعلية، لا شهادته السابقة و بذلك يظهر ضعف دليل المحقّق، و ذلك لأنّ الحكم و إن كان مستنداً إلى شهادة الأصل لكن إلى شهادته حال الاستقامة لا إلى شهادته الفعلية و الشهادة الأولى لم تخرج عن الحجّية فهي بوصف كونها سابقة، حجّة حتى اليوم و الفرع يعتمد على شهادته في تلك الحال لا على حالته اليومية.

و ما ربّما يقال من أنّ شهادة الفرع فرع شهادة الأصل و لا شك أنّها ليست

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 417

بمقبولة في ذلك غير تامّ أيضاً. «1»

و ذلك لأنّ شهادته الفعلية ليست بحجّة و أمّا شهادته السابقة في حال الاستقامة حجّة مرّ الدهور و الأيام.

و منه يظهر ضعف الدليل الآخر و هو أنّ الحكم بشهادة الأصل و الفرع، فيلزم إثبات الحكم بشهادة

الفاسق و الكافر.

يلاحظ عليه: أنّ الحكم مستند إلى شهادة العدول، أمّا الفرع فواضح و أمّا الأصل، فالمفروض كونه عادلًا في ظرف الأداء و نحن نحكم اعتماداً على أدائه و هو عادل.

و الذي يوضح ذلك هو أنّه لو طرأ الجنون و الإغماء بعد الإشهاد، فهو غير ضائر فأيّ فرق بين طروء الفسق و الجنون بعد كون الجميع من الموانع.

الشرط الثاني: تسمية الأصل

إنّ القضاء بالشهادة فرع إحراز عدالة الشاهد أصلًا و فرعاً، و لا يحرز إلّا بالتسمية، و لا يكفي كونهم عدولًا لدى شاهد الفرعِ، لأنّ الحاكم قد يعرفهم بالجرح لو سُمُّوا، و لأنّهم قد يكونون عدولًا عند قوم، و فسّاقاً عند آخرين.

و على ذلك يكفي مجرّد تسميتهم و تعريفهم، سواء قارنت بالتزكية أم لا، و لا يكفي مجرّد التزكية بلا تسميتهم لما عرفت و إلّا انسدَّ باب الجرح على الخصم. و الحاصل أنّ الواجب مجرّد التسمية، حتى يتيسر للحاكم، الفحص عن الجرح و التعديل.

و لكن المحكي عن أبي يوسف و الثوري أنّ مجرّد التسمية بلا تزكية ضائر لإيهامه أنّه ما ترك التزكية إلّا لريبة.

______________________________

(1) حكاه الأردبيلي في مجمع الفائدة: 12/ 488.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 418

يلاحظ عليه: أنّ ترك التزكية أعمّ من الريبة لأنّه يمكن أن يكون لأجل عدم العلم بعدالتهما.

قال الشيخ: إذ سَمّيا شاهدَ الأصل و لم يُعدِّلا، سمعهما الحاكم و بحث عن عدالة الأصل فإن وجده عدلًا حكم به و إلّا توقف فيه و به قال الشافعي.

و قال أبو يوسف و الثوري: لا تُسمع هذه الشهادة، لأنّهما لم يتركا تزكية الأصل إلّا لريبة و ردّ عليهما الشيخ بقوله: إنّهما إنّما يشهدان بما يعلمان، و قد يعلمان شهادة الأصل و إن

لم يعلما كونهما عدلين، فلا يجوز لهما أن يشهدا بذلك و على الحاكم أن يبحث عن عدالة الأصل، و ليس لا يتركان ذلك إلّا لريبة بل لما قلناه. «1»

ثمّ إنّ المحقّق ذكر فرعين أحدهما: حجّية شهادة النساء على النساء فيما تقبل فيه شهادة النساء منفردات كالعيوب الباطنة و الاستهلال و الوصيّة و تردد فيه ثمّ قال: «أشبهه المنع» و قد قدّمنا الكلام في شهادتهنّ، من غير فرق بين ما يقبل منضمات أو منفردات، و قلنا: إنّ الأقرب هو القبول. و ثانيهما: انّه تثبت بالشهادة على الشهادة، اللواط و الزنا، أو وطء البهيمة، و يترتب عليها كلّ الآثار إلّا الحدّ و التعزير و قد تقدّم الكلام فيها أيضاً.

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 68.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 419

المقصد الخامس في اللواحق

ذكر المحقّق أنّ اللواحق على قسمين:

اشارة

الأوّل: في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد.

الثاني: في الطوارئ و المقصود الأُمور التي تعرض على الشهادة بعد أدائها من موت أو فسق أو كفر أو تزكية أو غير ذلك.

فإليك الكلام في القسم الأوّل [أي في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد.]
اشارة

و يترتّب عليه مسائل:

المسألة الأُولى توارد الشاهدين على الشي ء الواحد شرط في القبول

، و ذلك لأنّ المشهود به لا يثبت إلّا بتمام العدد، فلو لم يتواردا على شي ء واحد، بل شهد كلّ على شي ء، غير ما شهد به الآخر، لما قامت البيّنة على شي ء واحد، نعم لا تشترط وحدة التعبير، بل تكفي وحدة المضمون و إن اختلفا في اللفظ مثلًا إذا قال أحدهما: غصبه، و قال الآخر: انتزعه منه قهراً و ظلماً، كفى.

خرج ما لو اختلفا في المعنى، كما إذا قال أحدهما: أشهد أنّ زيداً باع داره من عمرو، و قال الآخر: أشهد أنّه أقرّ ببيع داره من عمرو، فلا يثبت الموضوع بالبيّنة، لعدم تواردهما على موضوع واحد حتى تقوم البيّنة عليه. نعم إذا لم يتواردا على موضوع واحد فهو على قسمين:

1- لا يتواردان على موضوع واحد، و لا يكون بينهما تعارض كما في المثال

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 420

السابق، من الشهادة على بيع الدار، و الشهادة على إقراره بالبيع، فبما أنّهما لا يتواردان على موضوع واحد، لا يثبت الموضوع بالشاهدين و بما أنّهما غير متعارضين، يثبت الموضوع بشاهد و يمين و هذا أثر عدم التعارض.

2- لا يتواردان على موضوع واحد و في الوقت نفسه يتعارضان في المضمون.

و الحاصل أنّه إذا لم يتواردا على موضوع واحد، فلو كانا مع ذلك متعارضين فلا يحتج بهما مطلقاً، لا بعنوان البيّنة و لا بضم اليمين إلى واحد منهما و أمّا إذا لم يتواردا و مع ذلك لم يكونا متعارضين، فلا يحتج بهما بعنوان البيّنة و لكن يحتج بكل واحد بضم اليمين إلى واحد.

فإن قلت: المفروض هو التكاذب بين الشاهدين لبيّنة واحدة لا التكاذب بين البيّنتين فبما أنّ الشاهد الواحد،

ليس بموضوع للأثر، و إنّما يترتّب الأثر عليه إذا ضُمَّ إليه شاهد آخر أو يمين المدّعي، فعندئذ يكون تكاذبُ الشاهدين من قبيل تكاذب اللاحجّة، مع اللاحجة فلا أثر لهذا التكاذب حتى يسقطان نعم إذا تكاذبت البيّنتان، يكون من قبيل تكاذب الحجّة مع الحجّة.

قلت: كفى في ترتب الأثر، أنّه يجب تصديقه إذا ضُمّ إليه الآخر، أو اليمين، و هذا المقدار من الأثر الشأني أو التعليقي يكفي في التعبد، ثبوتاً و سقوطاً.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره صاحب الجواهر من أنّ التكاذب المقتضي للتعارض الذي يُفزع فيه للترجيح و غيره إنّما يكون بين البيّنتين لا بين الشاهدين. «1»

و ذلك لأنّ الشاهد الواحد و إن لم يكن تمام الحجّة التامة، لكنّها جزء الحجّة و يكفي ذلك في صحّة التعبد ثبوتاً و سقوطاً.

أضف إلى ذلك أنّه لا إطلاق في الأخبار الواردة في الاحتجاج بشاهد و

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 212.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 421

يمين حتّى يعمّ صورة التعارض.

إلى هنا تبين أنّه إذا لم يتوارد الشاهدان على موضوع واحد، فهو على قسمين إمّا غير متعارضين أو متعارضين فالأوّل يحتج بأحدهما بضمّ اليمين دون الثاني.

نعم للشاهدين الاتّفاق على ذكر المسبب عند القاضي في المثال السابق من دون ذكر اسم السبب، فيكون من باب توارد الشهادتين على موضوع واحد.

المسألة الثانية

كان البحث فيما سبق مركزاً على شهادتين لم تتواردا على موضوع واحد و لكن الشهادتين بين متعارضتين و غير متعارضتين و قد عرفت حكمهما.

و أمّا البحث في هذه المسألة فعلى أحد أمرين:

1- إمّا غير متواردتين على موضوع واحد.

2- و إمّا متواردتان على موضوع واحد و لكن بينهما التعارض من جهة أُخرى كالزمان.

و اعلم أنّ

المتعارضتين مطلقاً لا يحتجّ بهما مطلقاً من غير فرق بين المسألتين.

قال المحقّق: لو شهد أحدهما أنّه سرق نصاباً غدوة، و شهد الآخر أنّه سرق عشية.

أقول: ذكر المحقق للمسألة صورتين:

أ: لو كان المشهود عشية، غير المشهود غدوة، بمعنى أنّ زيداً شهد أنّ فلاناً سرق غدوة نصاباً موجباً لقطع اليد (كربع الدينار) و شهد عمرو أنّ ذلك الفلان سرق عشية نصاباً آخر، فيكون المال المسروق شيئين، فهذا من قبيل عدم التوارد على موضوع واحد من غير تعارض.

ب: تلك الصورة و لكن شهد الشاهد الثاني أنّه سرق ذلك النصاب بعينه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 422

عشية فيكون المال المسروق أمراً واحداً، و هذا من قبيل الشهادة على مورد واحد لكن مع التعارض للاختلاف في الزمان.

أمّا الأوّل: فلا يحكم بهما لأنّ المشهود به فعلان و لم تتوارد الشهادتان على مورد واحد فلم يتم العدد لكن يصحّ القضاء بإحداهما لو انضمت يمين المدّعي إليها إذ لا تعارض بين الشهادتين.

و أمّا الثاني: فلا يحتج بهما لأنّهما أنفسهما و إن تواردتا على أمر واحد، و لكن تعارضتا في الوقت، و لا بضم يمين المدّعي لأنّ الاحتجاج بشاهد و يمين إنّما يصحّ إذا كانت شهادة الشاهد حجّة في نفسها و ليس المقام كذلك، لسقوطها عن الحجّية للتعارض.

و الحاصل أنّ تغاير المشهود به (تغاير الفعلين) يضرّ الاحتجاج بالشاهدين لعدم تمامية العدد في كلّ واحد و لا يضرّ الاحتجاج بكلّ واحد إذا ضُمَّت إليه اليمين و لكن تواردهما على موضوع واحد متعارضين يضرّ بالاحتجاج بهما و بضم يمين إلى واحد منهما لأجل التعارض.

و بذلك تعلم صحّة ما ذكره الشهيد في المسالك من أنّ قول المحقّق لا يستدل لتحقّق التعارض

أو لتغاير الفعلين من قبيل اللف و النشر غير المرتب، فالثاني راجع إلى الصورة الأُولى المذكورة في بند «أ» و الأوّل راجع إلى الصورة الثانية المذكورة في بند «ب» من كلامنا فلاحظ.

المسألة الثالثة قد عرفت أنّه لو كانت نتيجة شهادة الشاهدين تغاير المشهود به فلا يحتج بهما للتغاير
اشارة

، و لكن يحتج بكلّ واحد مع يمين المدّعي، و لو كانت نتيجة شهادتهما، وحدة الفعلين، مع التعارض فيسقطان رأساً، لا يحتج بهما و لا بواحد منهما مع ضمّ اليمين و على ذلك، تقف على ما هو الحقّ فيما ذكره المحقّق في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 423

المسألة الثالثة و إليك نصّه:

1- لو قال أحدهما: سرق ديناراً، و قال الآخر: درهماً أو قال أحدهما: سرق ثوباً أبيض، و قال الآخر: أسود.

قال المحقّق: ففي كلّ واحد منهما، يجوز أن يحكم مع أحدهما بيمين المدّعي لكن يثبت له الغرم و لا يثبت القطع. «1»

و على ضوء ما ذكرنا يصحّ ما ذكره في صورة تعدد العين (تعدد الفعلين من غير تعارض) بأن يشهد كلّ على غير ما يشهد بها الآخر، كأن يشهد أحدهما بالدينار، و الآخر على سرقة أُخرى غير الدينار كالدرهم، ففي مثل ذلك لا يحتج بهما لعدم اجتماع العدد بالنسبة إلى كلّ فعل، و لكن يحتج بكلّ واحد إذا ضمّت إليه يمين المدّعي، و الثابت هو الغرم لا القطع للشبهة كما ذكره المحقّق لعدم اليمين في الحد، و أمّا إذا كان المشهود به عيناً واحداً (وحدة الفعل) كما إذا اتّفقا على سرقة ثوب معيّن لكن شهد أحدهما بكونه أبيض و الآخر على أنّه أسود فلا يحتج بواحد مطلقاً مع ضمّ الآخر، و لا مع ضمّ اليمين، كما عرفت.

و الحاصل أنّ الشهادة على فعلين، يضرّ بالاحتجاج بهما، و لا

يضرّ بالاحتجاج بواحد مع يمين المدّعي بخلاف الشهادة على فعل واحد و التضاد فيما يتعلّق به كاللون، فهو موجب للسقوط مطلقاً، لا بالشاهدين و لا بضمّ اليمين.

و أمّا تعارض البيّنتين ففيه أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط من القول بالقرعة في تمييز ما يحتج من البيّنتين قال:

إذا كان مكان كلّ شاهد، شاهدان، شهد اثنان أنّه سرق كبشاً غدوة و شهد آخران أنّه سرق ذلك الكبش عشية تعارضت البيّنتان و سقطتا و عندنا تستعمل

______________________________

(1) نجم الدين: الشرائع، كتاب الشهادات: 4/ 141.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 424

القرعة «1» و علّله صاحب الجواهر بأنّه يجب الحكم بواحد منهما و لا يعلم ذلك إلّا بالقرعة. «2»

يلاحظ عليه: أنّ القرعة في البيّنة فيما إذا تعدّد المدّعي و كان لكلّ بيّنة لا ما إذا قامت بيّنتان لصالح إنسان واحد.

و قال المحقّق: و لو تعارض في ذلك بيّنتان على عين واحدة سقط القطع للشبهة و لم يسقطه الغرم. و لو كان تعارض البيّنتين لا على عين واحدة، ثبت الثوبان و الدرهمان.

و حاصله: التفصيل بين ما إذا اختلفا في الزمان مع الاتّفاق على العين المسروقة، و ما إذا اختلفا في العين المسروقة ففي الأوّل كما إذا شهد عدلان على أنّ زيداً سرق الثوب الفلاني صباحاً، و شهد عدلان آخران على أنّه سرق ذلك الثوب عشية، فإذا اتّفق الشهود على وحدة السرقة سقط القطع للشبهة و لم يسقط الغرم، و في الثاني كما إذا شهد عدلان بأنّه سرق الثوب الأسود، و شهد آخران على أنّه شهد الثوب الأبيض، أو شهدت إحدى البيّنتين بأنّه سرق الدرهم و الأُخرى على درهم آخر يثبت كلا الثوبين، أو كلا الدرهمين

إذ لا تعارض بينهما و يثبت القطع أيضاً.

يلاحظ على الصورة الأُولى

أوّلًا: أنّه لا يثبت بالبيّنة المعارضة، القطع، و لا الغرم، لأنّ ترتيب الأثر فرع شمول دليل الحجّية لصورة المعارضة. و دلالتهما على أصل السرقة دلالة التزامية، فلا تكون حجّة بعد سقوط الدلالة المطابقيّة.

و ثانياً: ما الفرق بين هذه الصورة و ما ذكره في المسألة الثانية في تعارض

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 242.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 213 بتصرف في العبارة للتوضيح.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 425

الشاهد مع الشاهد الآخر حيث قال بأنّه لا يحكم لو شهد الآخر أنّه سرق ذلك بعينه عشية و علّله بتحقّق التعارض.

و أمّا الصورة الثانية:

فكما يثبت الغرم أي ضمان الثوبين أو الدرهمين يثبت القطع لعدم التعارض، و عدم نفي واحدة منهما، الأُخرى.

و يلحق بالصورة الأُولى ما إذا طرأ عليه التعارض بالعرض كما إذا اعترف المدّعي بأنّه لم يسرق ماله مرتين بل مرّة واحدة فتدخل البيّنتان تحت البيّنتين المتعارضين، فلا يحتج بهما لا في الغرم و لا في القطع.

المسألة الرابعة و فيها فروع ثمانية:
الفرع الأوّل: لو شهد أحدهما أنّه باعه هذا الثوب غدوة بدينار، و شهد له الآخر، أنّه باعه ذلك الثوب بعينه في ذلك الوقت بدينارين.

قال المحقّق: لم يثبتا لتحقّق التعارض. و كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين.

توضيحه: إنّه لا يثبت الديناران لعدم تمامية العدد بالنسبة إليه. و أمّا الدينار فلإثباته طريقان:

1- قيام البيّنة على الجامع فإنّ دلالة إحدى البيّنتين على الدينار الواحد بالمطابقة و دلالة البيّنة الأُخرى عليه بالالتزام لوجود الدينار الواحد في ضمن الدينارين.

يلاحظ عليه: أنّه لم تتوارد الشهادة على الشي ء الواحد، لأنّ الأوّل يشهد على الأقل، و ينفى الأكثر على خلاف الثاني، فكيف يمكن أن يقال إنّهما تواردتا على شي ء واحد، و الأخذ بالدلالة الالتزامية مع رفض المطابقية غير صحيح في عرف

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 426

العقلاء.

2- ضمّ اليمين على الشاهد الواحد، فإن ضُمَّ إلى من شهد بالدينار الواحد، يثبت الدينار، و إن ضمّ إلى من شهد بالدينارين، يثبتان.

يلاحظ عليه: ما سبق و هو أنّ الشاهد الواحد حجّة بنحو جزء العلّة لكنّه سقط عن الحجّية لأجل الابتلاء بالمعارض فلا يفيد ضم اليمين إليه و لأجل ذلك أفتى السيّد الأُستاذ بالسقوط و قال: لو شهد أحدهما أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال بدينار، و شهد آخر أنّه باعه أوّل الزوال بدينارين، لم يثبت و سقطتا و قيل «1» كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين، و فيه ضعف. «2»

الفرع الثاني: تلك الصورة و لكن شهد له مع كلّ واحد شاهد آخر.

قال المحقّق: يثبت الديناران إن ادّعاهما و لغت البيّنة الأُخرى.

أقول: لا تخلو الحال إمّا أن يكون لكلّ من الثمنين مدع كما لو ادعى البائع أنّه باع بدينارين و ادعى المشتري أنّه اشتراه بدينار، أو لا يكون ففي الصورة الأُولى تتعارض البيّنتان، و تصل النوبة إلى إعمال القرعة في إخراج ما هو الحق و لعلّ الشيخ يريد تلك الصورة و يقول بالقرعة

حيث قال: و إن كانت بحالها و كان مقابل كلّ شاهد، شاهدان شهد اثنان أنّه باعه بألف، و شهد آخران أنّه باعه بعينه في ذلك الوقت بألفين تعارضتا و سقطتا عندهم و عندنا استعملت القرعة لأنّه لا يصحّ أن يعقد عقدان في زمان واحد. «3»

و أمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا أنكر الخصم المدّعي أصل الشراء، فيمكن القول بثبوت الدينارين اللّذين ادعاهما البائع، حيث تلغى البيّنة الأُولى.

______________________________

(1) القائل هو المحقّق في الشرائع كما عرفت.

(2) تحرير الوسيلة: 2، كتاب الشهادات، 407.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 242.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 427

و بعبارة أُخرى: ليس للقاضي القضاء ببيّنة الدينار الواحد، لأنّ المتخاصمين اتّفقا على بطلانها أمّا البائع فلأنّه يدعي البيع بدينارين و أمّا المشتري، فلأنّه ينكر أصل البيع، و لأجل ذلك تلغى بيّنة الدينار الواحد، فيكون بيّنة الدينارين بلا معارض.

و أمّا عدم الرجوع إلى القرعة فلأجل أنّه إنّما يرجع إليها إذا كان لكلّ من الثمنين مدع، و المفروض خلافه نعم هو المفروض في الصورة الأُولى.

فتبيّن أنّه يجب التفصيل بين ما إذا كان لكلّ من الثمنين مدع، فيرجع إلى القرعة و ما لم يكن كذلك، فالمرجع بيّنة المدّعي و هو الديناران.

و مع ذلك نرى أنّ السيّد الأُستاذ قدس سره لم يفصّل بين الصورتين و قال: و لو شهد له مع كلّ واحد، شاهد آخر، قيل يثبت الديناران و الأشبه سقوطهما. «1»

وجهه: أنّ بيّنة الدينار الواحد، و إن لم يترتّب عليها الأثر فعلًا و لكنّه لا يخرجها عن تحت أدلّة حجّية البيّنة، فيكون المقام من قبيل تعارض الحجّة مع الحجّة فيسقط و لعلّه الأشبه.

و احتمال ثبوت الألف لاتّفاقهما عليه، قد عرفت ضعفه فيما إذا

كان لكلّ شاهد، واحد من الشهود.

الفرع الثالث: لو شهد واحد بالإقرار بألف، و الآخر بألفين في زمان واحد.

قال المحقّق: يثبت الألف بهما، و الآخر بانضمام اليمين.

يريد المحقّق التفريق بين الفرع الأوّل و هذا الفرع الثالث حيث إنّه قال في الفرع الأوّل بأنّه لو شهد أحدهما أنّه باعه هذا الثوب غدوة بدينار و شهد الآخر أنّه باعه ذلك الثوب بعينه في ذلك الوقت بدينارين لم يثبتا لتحقّق التعارض و لكنّه يقول في هذا الفرع بأنّه لو شهد واحد بالإقرار بألف و الآخر بألفين فإنّه يثبت

______________________________

(1) الإمام الخميني: تحرير الوسيلة: 2/ 407.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 428

الألف بهما و الآخر بانضمام اليمين و ذلك لعدم التعارض بين المشهود بهما فإنّ الشاهد بدينار لا ينفي الزائد. و على ذلك فالفرع الأوّل من قبيل الشهادة على المتباينين، و الثاني من قبيل الشهادة على الأقل و الأكثر.

و لعلّ وجه الفرق بين الفرعين، هو وجود القرينة الدالة على أنّ الشاهد على بيع الثوب بألف، ينفي بيعه بألفين لا أنّه ساكت عن الزيادة، و هكذا الشاهد على البيع بألفين، و هذا بخلاف المقام، فيجوز أن لا يكون الشاهد سمع إلّا ديناراً، أو لم يقطع إلّا به و تردد في الزائد، أو رأى أن لا يشهد إلّا به مصلحة يراها.

الفرع الرابع: تلك الصورة و لكن شهد بكلّ واحد، من الإقرارين شاهدان.

قال المحقّق: يثبت الألف بشهادة الجميع، و الألف الآخر بشهادة اثنين. و الوجه هو ما عرفت في الشاهد الواحد و أنّ المورد ليس من قبيل الشهادة على المتباينين بل من باب الأقل و الأكثر فلو كان في كلّ طرف بيّنة، يثبت الأقل بكلتا البيّنتين، و الأكثر ببيّنة ثانية.

الفرع الخامس: لو شهد أنّه سرق ثوباً قيمته درهم، و شهد آخر أنّه سرقه و قيمته درهمان

، قال المحقّق: مثل ما قال في الفرع الثالث، ثبت الدرهم بشهادتهما و الآخر بالشاهد و اليمين.

الفرع السادس: تلك الصورة و لكن شهد بكلّ صورة شاهدان ثبت الدرهم بشهادة الجميع، و الآخر بشهادة الشاهدين بهما.

و على ذلك فالفروع الأربعة الأخيرة كلّها من قبيل الشهادة على الأقل و الأكثر، يثبت المتفق عليه بالشاهدين أو بالبيّنتين، و غير المتفق عليه يثبت في الشاهد بضم اليمين، و في البينة بالثانية منهما.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 429

الفرع السابع: لو شهد أحدهما بالقذف غدوة، و الآخر عشية، أو بالقتل كذلك.

قال المحقّق: لم يحكم بشهادتهما لأنّها شهادة على فعلين.

وجهه واضح، لأنّ كلًا من الشاهدين يشهد على غير ما يشهد عليه الآخر، و بما أنّه لم يتم العدد لا في القذف و لا في القتل، فلا يحكم مع احتمال الكذب في كلّ واحد.

الفرع الثامن: لو شهد أحدهما بإقراره (بمال لزيد) بالعربية، و الآخر بالعجمية.

قال المحقّق: قُبل لأنّه إخبار عن شي ء واحد.

يلاحظ عليه: أنّ المحكي و إن كان واحداً و لكن الإقرار عند شاهد بالعربية، غير إقراره عند آخر بالعجمية و كلّ شاهد يشهد على إقراره بلسان خاص و لا يشهد على المحكي و هو كونه مديوناً لعمرو مثلًا و على هذا يجب أحد أمرين إمّا ضم يمين إلى أحد الشاهدين، أو ضمّ شاهد ثالث إلى أحد الشاهدين فتأمّل.

القسم الثاني: في الطوارئ
اشارة

و هي مسائل

المراد الأُمور التي تعرض على الشهادة بعد أدائها من موت أو فسق أو كفر أو تزكية أو غير ذلك و فيه مسائل:

الأُولى: لو شهدا و لم يَحكم بهما، فماتا

قال المحقّق: حكم بهما و كذا لو شهدا ثمّ زُكِّيا بعد الموت.

و مثله ما إذا شهدا و لم يحكم بهما و مات أحدهما أو جُنّا أو أُغمي عليهما أو أحدهما.

و الدليل إطلاق أدلّة حجّية البيّنة و معه لا حاجة إلى استصحاب الصحّة و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 430

سيوافيك أنّ الموضوع كون الشهادة جامعة للشرائط حال أداءها و لا يجب بقاؤها عليها إلى حال الحكم.

الثانية: لو شهدا، ثمّ فسقا قبل الحكم

قال المحقّق: حكم بهما لأنّ المعتبر بالعدالة عند الإقامة.

1- قال الشيخ: إذا شهد عدلان عند الحاكم بحقّ ثمّ فسقا قبل أن يحكم بشهادتهما، حَكَمَ بشهادتهما و لم يرده و به قال أبو ثور و المزني، و قال باقي الفقهاء لا يحكم بشهادتهما. دليلنا أنّ الاعتبار بالعدالة حين الشهادة، لا حينَ الحكم، فإذا كانا عدلين حين الشهادة وجب الحكم بشهادتهما، و أيضاً إذا شهدا و هما عدلان وجب الحكم بشهادتهما فمن قال إذا فسقا بطل هذا الوجوب، فعليه الدلالة. «1»

2- قال في المبسوط: إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحقّ، و كانا عدلين حين الشهادة ثمّ فسقا لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يفسقا قبل الحكم بشهادتهما، أو بعد الحكم بشهادتهما فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بتلك الشهادة و قال قوم يحكم بشهادتهما و هو الأقوى عندي. «2»

3- و قال العلّامة: و لو فسقا بعد الإقامة قبل الحكم حكم بها إلّا في حقوقه تعالى. «3»

4- و لكنّه في المختلف ذهب إلى عدم جوازه و قال: و الأقرب عندي عدم الحكم. «4»

و المسألة مبنيّة على أنّ الملاك في الجواز هل هو العدالة حين الأداء، أو

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 73.

(2) الطوسي:

المبسوط: 8/ 244.

(3) ابن المطهّر: الإرشاد: 2/ 168.

(4) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 176.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 431

العدالة حين الحكم و الظاهر هو الأوّل لأنّ اعتبارها لغاية أنّها تصون الراوي عن التعمد على الكذب، فيكفي كونه كذلك حين الأداء، و لا يؤثّر عدالته حين الحكم في ذلك.

قال المحقّق الأردبيلي: إنّ الغرض من العدالة، ديانة الشاهد وقتَ شهادته، و إذا كانت في ذلك الوقت موجودة لا يضرّ زوالها بعده بالفسق و إن كان قبل الحكم، مثل الموت و الجنون و النوم و الاغماء فيما يشترط فيه البصر و غير ذلك.

ثمّ إنّ المحقّق مع أنّه قال بجواز الحكم هنا معلّلًا بأنّ المعتبر وجود العدالة حين الأداء ذكر في باب الشهادة على الشهادة، انّه إذا طرأ الفسق على الأصل، لم يحكم بالفرع لأنّ الحكم مستند إلى شهادة الأصل «1» مع أنّ مقتضى دليله هنا، عدم مانعية طروء الفسق على الأصل، إذا كان عادلًا حين الأداء و كان الفرع عادلًا أيضاً حينه.

استدل العلّامة في المختلف على مختاره بوجوه ضعيفة جدّاً و نقلها المحقّق الأردبيلي بنقد و تضعيف قال:

1- إنّهما فاسقان حين الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما.

2- إنّ تطرق الفسق يُضعفُ ظن العدالة.

3- إنّ طروء الفسق عليهما نظير ما إذا رجعا، أو صارا وارثين حين الحكم، لموت المشهود له قبل الحكم. «2»

و الجميع كما ترى فالأوّل منه مصادرة، لأنّ الكلام في إضرار الفسق حين الحكم و عدمه و قد أُخِذ المدّعى دليلًا على المطلوب.

و الظنّ على الخلاف ليس بحجّة بعد شمول الإطلاق نعم لو صار مبدأً للشبهة يُدرأ به الحدّ، دون غيره و الرجوع عن الشهادة إبطال و تكذيب للشهادة و

______________________________

(1) نجم

الدين الحلي: الشرائع: 4/ 140.

(2) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 176.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 432

أين هو من الفسق الذي لا يمتُّ إلى الإبطال بصلة و أمّا عدم الحكم بموت المشهود له و صيرورة الشهود وارثين حين الحكم فسيوافيك عدم صحّته.

و العجب من صاحب الجواهر حيث ذهب إلى عدم جواز الحكم في المقام محاوِلًا إبداء الفرق بين موت الشاهد و إغمائه، حيث لا يمنعان عن الحكم، و طروء الفسق حيث يمنع قائلًا بأنّ الأوّلين كالميت ليس له شهادة، بخلاف من طرأ عليه الفسق فيعمّه إطلاق روايات ردّ شهادة الفاسق و إلّا لزم جواز الحكم بها قبل الإقامة لو فرض أنّه حملها لغيره عدلًا ثمّ فسق، ثمّ بعد ذلك أقامها الفرع و هو معلوم الفساد و ليس ذلك إلّا لاعتبار جامعية العدالة و نحوها للشهادة حال الحكم و لا يكفي الحال السابق. «1»

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد بقوله: «لا شهادة للمجنون و المغمى عليه» أنّه لا شهادة لهما في حال الحكم، فمن طرأ عليه الفسق أيضاً كذلك فهو صحيح إذ ليس له شهادة أيضاً حينه و إن أراد عدمها في ظرفها الذي أقاموها فيه و هو واضح البطلان لأنّ لكلّ شاهد، شهادةً في ظرفها و الشي ء لا ينقلب عمّا هو عليه و على ضوء ذلك، فإنّ التفريق بين الأصناف المذكورة، غير تام.

و أمّا ادعاء إطلاق المستفيض بردّ شهادة الفاسق فالمراد حسب مناسبة الحكم و الموضوع هو الفاسق حين الأداء، لا الحكم.

و ما أيّد به كلامه أخيراً، ليس إلّا إعادة لكلام المحقّق في الشهادة على الشهادة، حيث منع الحكم بشهادة الفرع إذا طرأ الفسق على الأصل و قد عرفت عدم تماميته.

نعم

لا يحكم به في حقوقه سبحانه بل مطلق الحدود لطروء الشبهة الموجب لدرء الحد، من غير فرق بين المختص للّه و المزيج بحقّ الآدمي كحدّ القذف و

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 219.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 433

القصاص.

قال المحقّق: أمّا لو كان حقّاً محضاً للّه تعالى كحدّ الزنا و اللواط و شرب المسكر لم يحكم لأنّه نوع شبهة و في الحكم بحدّ القذف و القصاص تردّد أشبهه الحكم لتعلّق حقّ الآدمي به. «1» و لكن الظاهر عدم الحكم لدخول الجميع تحت الحدود الذي ورد فيه الدرء لأجل الشبهة روى الصدوق مرسلًا قال، قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ادرأ الحدود بالشبهات و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حدّ». «2»

و الذي يجب أن يركز البحث عليه، هو تفسير الشبهة التي بها يردّ بها الحدّ فإن أُريد مجرّد احتمال الخلاف يلزم درء الحدود غالباً، و لا يبقى إلّا القليل و هو خلاف ما يهدفه الشارع من تشريع الحدود الذي يعبر عنه بقوله: «حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة و أيّامها». «3»

أضف إلى ذلك أنّه لو كان مجرّد الاحتمال دارئاً للحد، لما أمر الإمام في حقّ من شرب الخمر و ادعى أنّه كان مشركاً و أسلم و نشأ بين قوم يشربون الخمر ببعث من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار (ليسأل عن) من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه. «4»

كلّ ذلك يعرب عن كون المراد من الشبهة، ما يعتمد عليه العقلاء في حياتهم، و على ضوء ذلك فلا يسقط الحد، إلهيّاً كانت أو آدميّاً، إذا كانت الشبهة غير خارجة

عن حدّ الاحتمال إلّا إذا كان قوياً قابلًا للاعتناء.

الثالثة: لو شهدا لمن يرثانه (كالأب) فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 142.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 434

قال المحقّق: لم يحكم لهما بشهادتهما.

قال الشيخ: فإن كانت بحالهما فلم يحكم بشهادتهما حتى مات المشهود له، فورثاه لم يحكم بشهادتهما لأنّه لو حكم، حكم لهما بالمال بشهادتهما و لا يجوز أن يحكم للشاهد بشهادته. «1»

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّه إذا كان الميزان في صحّة القضاء بالشهادة، كونها جامعة للشرائط حال الأداء فلا وجه لعدم القضاء.

و ثانياً: أنّ الحاكم يحكم بكون المال للمشهود له، لا للشاهد و إذا انتقل إليه، ينتقل منه إلى الشاهد، كما إذا كان الشاهدُ غيرَ الوارث و مات المشهود، قبل الحكم، و الدليل على أنّه يحكم على المال بأنّه للمورِّث لا للوارث أنّه لو كان هناك دين أو وصية مجوّزة يقدّم على الشاهدين و لا شي ء لهما.

و ثالثا: أنّ الإفتاء بعدم الحكم فيما إذا حَكم يُصرف في الدين و الوصية الشرعية، أو فيما إذا كان لهما في الميراث شريك كالأُخت، مشكل جدّاً فحرمانها بحجّة أنّ الشاهد صار من الوارث كما ترى.

نعم القول بالتبعيض بدفع حصّة الشريك دونهما لا يتحمّله دليل حجّية الشهادة، لأنّها شهادة واحدة لا تتبعض، و الصحيح وجوب الحكم، و الاتفاق على امتناع الحكم كما في المسالك غير مُفيد لأنّه إجماع معلوم دليله، الخاضع للمناقشة.

الرابعة: في رجوع الشاهد عن الشهادة
اشارة

لو رجع الشاهد عن الشهادة فله صور:

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 244.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 435

1- أن يرجع عنها

قبل الحكم.

2- أن يرجع عنها بعد الحكم و بعد الاستيفاء بمعنى تنفيذ الحكم و بعد تلف المحكوم به الذي هو المال.

3- لو رجعا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و التنفيذ و كان المحكوم به هو الحدّ الّذي يعدُّ حقّاً للّه كحدّ الزاني، أو للآدمي كحدّ القاذف، أو المشترك كحدّ السرقة.

4- لو رجعا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و كان المحكوم به هو الحقوق للآدمي.

5- لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء لكن العين قائمة.

أمّا الصورة الأُولى [أي أن يرجع عنها قبل الحكم.]

، فلا يحكم بالاتّفاق قال الشيخ: إذا شهد شاهدان بحقّ، عُرِف عدالتهما ثمّ رجعا عن الشهادة قبل الحكم بهما، لم يُحْكَم و به قال الجماعة إلّا أبا ثور فإنّه قال يُحكم بشهادتهما دليلنا إنّهما إذا رجعا لم يكن لهما شهادة فلا يجوز الحكم كما لو اجتهد الحاكم ثمّ تغير اجتهاده قبل الحكم فإنّه لا يحكم. «1»

و يدل عليه مرسل جميل «2» الذي لا يقصر عن الصحيح و سيوافيك نصّه في الصورة الثانية.

أضف إلى ذلك انّه أشبه بالبيّنة المتعارضة.

و أمّا ما رواه السكوني عن عليّ أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «من شهد عندنا ثمّ غيّر أخذناه بالأوّل و طرحنا الأخير». «3»

فمن المحتمل أن يكون ناظراً إلى الإقرار. للضمير الموجود في «أخذناه» فيكون المراد أنّه لا إنكار بعد الإقرار و أمّا ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 74.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 436

قال: «كان أمير المؤمنين عليه السَّلام لا يأخذ بأوّل الكلام

دون آخره». «1» فهو بصدد بيان أنّ العبرة في الحكم، بمجموع كلام المتكلم حيث يصلح الذيل قرينة على الصدر، نعم رواه في التهذيب المطبوع بأنّه كان يأخذ بأوّل الكلام دون آخره. «2» و الظاهر سقوط «لا» عن المطبوع.

ثمّ إنّ طرح الشهادة فيما إذا ادعيا الخطأ و الاشتباه واضح، عقلًا و نقلًا فإنّه لا يوجب فسقاً فيكون تخطئتهم حجّة على القاضي إنّما الكلام إذا اعترفوا بأنّهم تعمّدوا للكذب فإنّ رفع اليد عن الشهادة عندئذ لأجل أنّهم صاروا محكومين بالفسق بكلامهم الثاني إمّا لكذبهم بالشهادة الأُولى واقعاً، أو بالشهادة الثانية، و ليس هذا النوع من العلم الإجمالي بأقل من سائر الموارد و بذلك يتسرّب الشك إلى العدالة حين الأداء و أنّهم هل كانوا عدولًا أو لا، فيكون المقام من باب الشك الساري.

ثمّ إنّهم لو ادّعوا الخطأ و الغلط، لا يحكم بشهادتهما الثانية في نفس المورد لصحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السَّلام في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق، فقطع يده حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق، و ليس الذي قطعتَ يده إنّما شبّهنا ذلك بهذا فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية و لم يُجز شهادتهما على الآخر». «3» و مقتضى القاعدة و إن كان الأخذ بشهادتهما الثانية لأنّها شهادة عدلين لكن التوقف لأجل حصول الشبهة التي يُدرأ بها الحدّ، لزوال الاعتماد عليهما.

الصورة الثانية: و لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء و تلف المحكوم به.

قال المحقّق: لم يُنقَض الحكم و كان الضمان على الشهود.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) الطوسي: التهذيب: 6/ 282.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 2، ص: 437

قال الشيخ: إذا شهد شاهدان بحقّ و عرف عدالتهما و حكمَ الحاكم فاستوفى الحقّ ثمّ رجعا عن الشهادة لم يُنقَضْ حكمه و به قال جميع الفقهاء و قال سعيد بن المسيب و الأوزاعي ينقضه دليلنا أنّ الذي حكم به، مقطوع به بالشرع و رجوعهم يحتمل الصدق و الكذب فلا يُنقَض به ما قد قطِعَ عليه. «1»

أمّا عدم النقض، فلعدم العلم بالفساد، و قد مرّ أنّ حكم القاضي لا يُردُّ ما لم يعلم بطلانه و أمّا الضمان فلكون السبب أقوى من المباشر، مضافاً إلى مرسل جميل بن دراج الذي أُشير إليه في الصورة الأُولى عمّن أخبره عن أحدهما عليهما السَّلام قال: «الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضى على الرجل، ضمنُوا ما شهدوا به، و غُرِّموا، و إن لم يكن قُضي، طرحت شهادتهم و لم يغرَّموا الشهود شيئاً». «2»

و الإمعان فيه يعطى أنّ الميزان في الأخذ و الطرح هو كون الرجوع بعد الحكم أو قبله، و أمّا الاستيفاء و التنفيذ، أو بقاء المال و تلفه التي صارت سبباً لانقسام المسألة إلى الصور المتعددة فليس بملاك في الأخذ و الطرح و لأجل ذلك يكون الصحيح دليلًا في بعض الصور الآتية.

و يدل عليه أيضاً صحيح جميل عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهد الزور قال: «إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «3»، و في صحيح آخر في شاهد الزور إن كان قائماً و إلّا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل 4 و موردهما و إن كان شاهد الزور الذي تعمّد الكذب، و لكن وجه ضمانه ليس إلّا لأجل

كونه السبب للتلف بشهادة أنّه لو كذب و لكن لم ينجرّ إلى التلف لما كان ضامناً حيث ينقض الحكم لأجل العلم بالفساد و يرد المال إلى صاحبه و هذا يعطي أنّ الملاك هو كون الشهادة سبباً

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 75.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 2، 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 438

للتلف سواء تعمّد الكذب أو لا، فتشمل صورة الرجوع، و إن أبيت إلّا عن اختصاصهما بشاهد الزور، ففي مرسل جميل غنى و كفاية.

الصورة الثالثة: و لو رجعوا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و كان المحكوم به حدّاً.

قال المحقّق: فإن كان حدّاً للّه نُقض الحكم للشبهة الموجب للسقوط، و كذا لو كان للآدمي كحدّ القذف، أو مشتركا كحدّ السرقة.

قال الشيخ: و إن رجعوا بعد الحكم و قبل القبض، نظرت، فإن كان الحقّ حدّ اللّه كالزنا و السرقة و شربِ الخمر، لم يحكم بها لأنّها حدود تدرأ بالشبهات، و رجوعهم شبهة و إن كان حقّاً لآدمي يسقط بالشبهة كالقصاص و حدّ القذف، لم يستوف لمثل ذلك. «1»

و قال العلّامة: و إن رجع بعد القضاء و قبل الاستيفاء نُقض الحكم سواء كان حدّاً للّه تعالى أو لآدمي. وجه السقوط دخول الجميع تحت الحدّ الذي يُدرأ بالشبهة و أيّ شبهة أقوى من الرجوع و يمكن استظهار السقوط من صحيح محمّد بن قيس حيث ورد فيها أنّ الإمام قضى بقطع يد رجل جاء به رجلان و قالا إنّ هذا سرق درعاً، فجعل المشهود عليه يناشد عليّاً عليه السَّلام فلما رأى الإمام مناشدته دعا الشاهدين و قال: اتقيا و لا تقطعوا يد الرجل ظلماً ... «2»

فإنّ إنذار الإمام لهما، دليل على أنّهما لو رجعا عن الشهادة، لسقط الحدّ، و إلّا لم يكن أيّ فائدة في الإنذار.

و يؤيد ذلك ما مرّ منّا في كتاب القضاء من أنّ صدور الحكم و عدمه في حدود اللّه سواء، فإنّه لا تأثير لحكم القاضي فيها و إنما عليه العمل بالبيّنة فإذا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 246.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من مقدّمات الحدود، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 439

قامت على ما يوجب الحدّ و كانت جامعة للشرائط يجري الحدّ من دون حاجة إلى الحكم و ذلك لأنّ القضاء أمر راجع إلى فصل الخصومة بين المتحاكمين و هو فرع وجود المدّعي و المنكر، ثمّ الشاهد و القاضي، و الثلاثة الأخيرة و إن كانت موجودة في مورد الحدود و لكن لا مدّعي فيها. حتى و لو رمى رجل أحداً بما يوجب الحدّ ثمّ أتى بالشهداء فليس هو مدّعياً بالحقيقة لأنّه يدعي أمراً لا صلة له به، و إنّما يصحّ الادعاء إذا كان للمدّعى صلة للمدّعى به و على ذلك يلحق هذه الصورة، بالصورة الأُولى التي تقدم فيها، أنّه لا يحكم.

و هل يسقط الحدّ فقط و يبقى التوابع فيحرم أُخت الغلام الموطوء و أُمّه و بنته، و أكل البهيمة الموطوءة المأكولة، و يجب بيعها في بلد آخر و كذا الحكم في المحكوم بالردة إذا رجع الشهود قبل قتله، فهل يسقط قتله للشبهة و تبقى قسمة ماله و اعتداد زوجته أو لا؟

ربّما يقال بالأوّل لأنّ مقتضى صدور الحكم عن ميزان شرعي، هو ثبوت الموضوع أعني: ما يوجب الحدّ (الزنا)، فإذا دل الدليل على سقوط الحدّ يبقى سائر الآثار تحت الدليل.

يلاحظ عليه

أوّلًا: أنّ نفي الحد الذي من أظهر آثار الموضوع كالزنا، يلازم في نظر العرف نفي الموضوع كسلب الشجاعة عن حيوان، المساوق لعدم كونه أسداً و مع ذلك كيف يمكن الحكم ببقاء سائر الآثار مع انتفاء الموضوع في نظر العرف أي الزنا و اللواط و إن شئت قلت إنّ التبعيض في العمل بالآثار و إن كان أمراً ممكناً و لكنّه يتوقف على تعبد صريح.

و ثانياً: إنّك قد عرفت أنّ صدور الحكم في مورد الحدود، من قبيل لزوم ما لا يلزم، فلا أثر له و اللازم على القاضي إجراء الحدود، إذا ثبت الموضوع بالبيّنة أو الإقرار و على ذلك فلا فرق بين هذه الصورة أعني إذا رجع بعد الحكم و قبل الاستيفاء، و الصورة الأُولى أعني إذا رجعا قبل الحكم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 440

الصورة الرابعة: لو رجعا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و لكن كان المشهود به حقوق الناس.

قال المحقّق: و في نقض الحكم في ما عدا ذلك من الحقوق تردد.

المراد كلّ ما كان خارجاً عن الحدود، كالعقوبات كالقتل على قول و الجرح، و العقود و الإيقاعات كالبيع و النكاح و الطلاق و الأعيان الخارجية قبل التسليم كما هو المفروض في هذه الصورة و إلّا فلو كانت العين مسلّمة إلى الطرف فتدخل في الصورة الخامسة الآتية و أمّا تردّد المحقّق فللوجهين التاليين:

1- إنّ القضاء قد نفذ فيه و ليس هو ممّا يسقط بالشبهة حتى يتأثّر بالرجوع.

2- إنّ الحكم لم يستقرّ بعد، و الظن قد اختلّ بالرجوع.

و هناك احتمال ثالث و هو إلحاق العقوبات كالقتل و الجرح بالحدود، و العقود و الإيقاعات بالمال لسهولة خطرها و ترجيحاً لجانب الآدمي، و إلحاق النكاح بالحدود لعظم خطرها و عدم استدراك فائت البضع. «1»

و الأقوى هو الأوّل و

الدليل عليه مضافاً إلى ما عرفت، هو مرسل جميل، حيث جعل الميزان هو الرجوع قبل القضاء و بعده، فتطرح شهادتهم في الأوّل و لم يغرّموا، و يمضي الحكمُ في الثاني مع ضمانهم حيث قال: في الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضى على الرجل: ضمنوا ما شهدوا و غُرِّموا. «2» و إطلاقه يعمّ قبل التنفيذ و بعده و ما رواه هو أيضاً عن أبي عبد اللّه في شهادة الزور: إن كان قائماً، و إلّا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل. «3» فصدره راجع إلى شاهد الزور الذي علم من الخارج كذبُ الشهود، لا الراجع عن شهادته سواء ادعى الخطأ أو

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 466.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 2 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 441

ادّعى تعمد الكذب الذي نحتمل كذبه في تكذيبه.

الصورة الخامسة: لو رجعوا بعد الحكم و تسليم المال للمحكوم له و لكن العين قائمة.

و هذه الصورة نفس الصورة الثانية و يختلفان في تلف المال فيها دون المقام.

فقال المحقّق: الأصح أنّه لا يُنقض و لا تستعاد العين. و هو مختار الشيخ في المبسوط حيث قال: و أمّا إن رجعوا بعد الحكم و بعد الاستيفاء أيضاً لم ينقض حكمه بلا خلاف إلّا سعيد بن المسيب و الأوزاعي فإنّهما قالا: ينقض و الأوّل أصحّ. «1» و خالف في النهاية حيث قال: و إن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم غُرّما ما شهدا به، إذا لم يكن الشي ء قائماً بعينه، فإن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه و لم يلزما شيئاً. «2»

و قال ابن إدريس: و من شهدا على رجل، ثمّ رجعا قبل

أن يحكم الحاكم طُرحت شهادتُهما و لم يُلزَما شيئاً، بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم، و إن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم، غُرّما ما شهدا به سواء كان الشي ء قائماً بعينه أم لم يكن كذلك، ثمّ نقل فتوى الشيخ عن النهاية و أورد عليه أنّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّه إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم، لا يلتفت إلى رجوعهما فيما حكم، و لا يُنقض حكمه، لأنّ حكمَه مقطوع من جهة الشرع على صحّته، و رجوعهما يحتمل الصدق و الكذب فلا يُرجَع عن أمر مقطوع على صحّته بأمر مشكوك فيه محتمل. «3»

و لعل الشيخ في النهاية اعتمد على ما رواه جميل في شاهد الزور الذي علم كذبه في شهادته و أين هو من الراجع الذي يصف شهادته بالخطإ و الاشتباه أو

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 246.

(2) الطوسي: النهاية: 336.

(3) ابن إدريس: السرائر: 2/ 148147.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 442

بالتعمد بالكذب الذي يمكن كذبه في هذا التكذيب؟!

و المعتمد مضافاً إلى ما ذكره ابن إدريس هو مرسل جميل الذي يُفرِّق بين كون الرجوع قبل الحكم و بعده، كما مرّ.

فتخلص من هذا البحث أيضاً أنّ المسألة في غير الحدود ذاتُ صورتين لأنّ الرجوع إن كان قبل الحكم، طُرحت شهادتهما و إلّا فلا يُنقض الحكم، سواء كان قبل الاستيفاء أو بعده و على فرض الاستيفاء سواء كان الرجوع قبل التلف أو بعده و أمّا الحدود فينقض الحكم فيها حتى بعد الحكم.

المسألة الخامسة: فيما إذا كان المشهود به قتلًا أو جرحاً
اشارة

كانت المسألة السابقة تدور حول رجوع الشاهد و كان المشهود به مالًا و أمّا إذا كان المشهود به قتلًا أو جرحاً و قد رجع الشهود بعد الحكم و الاستيفاء فللمسألة ثلاثة صور:

أ:

أن يقول الجميع تعمّدنا الكذب.

ب: أن يقول الجميع أوهمنا.

ج: أن يقول بعضهم تعمّدنا و البعض الآخر أُوهمنا.

و قبل الدخول في بيان الصور و أحكامها نذكر أمرين:

1- إنّ حكم الشهود في المقام، حكم المشاركين في القتل بوجه المباشرة، فإنّ الشهود في المقام و إن لم يكن لهم دور فيه مباشرة، إلّا أنّه لمّا كان السبب فيه أقوى من المباشر عُومل معهم معاملة المباشر و صاروا محكومين بحكم المباشرين في القتل.

2- الضابطة الكلية في المقام هي أنّ الشهادة إن أوجبت قتلًا سواء كان ذلك بسبب الزنا، أو بسبب القصاص، أو الردّة فالبيّنة المتعمدة تقتل إن اختار

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 443

الولي القتل، و الخاطئة تحكم بدفع الدية، و لو كان بعض منها متعمداً و البعض الآخر خاطئاً فلكلّ حكمه فعلى المقرّ بالعمد القصاص، و على المقرّ بالخطإ نصيبه من الدية.

إذا علمت ذلك فلندرس أحكام الصور الثلاث:

أمّا الصورة الأُولى: فإذا قال الجميع تعمّدنا

كان لولي الدّم أن يختار أحد الأُمور:

1- قتل الجميع و ردّ ما فَضُل عن دية المقتول ظلماً إلى وارثهم.

2- قتل واحد منهم و يردّ الباقون تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول قصاصاً.

3- قتل أكثر من واحد، و يردّ الوليّ ما فضل عن دية صاحبهم و أكمل الباقون من الشهود ما يعوز بعد وضع نصيب المقتولين.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 443

مثلًا لو شهد أربعة على الزنا بالإحصان، و رُجِمَ المشهود عليه، ثمّ قالوا تعمّدنا الكذب، فقتل باختيار وليّ الدم الاثنان منهم و حُكِمَ على

الباقين بالدية، فالواجب على كلّ من الباقين ربع الدية، فعليهما جميعاً نصف الدية، و بما أنّ وليّ الدم قتل مكان الواحد، الاثنين فعليه الدية الكاملة فيكون المجموع ستة أرباع، يُقسم بين ورثة المقتولين، بالمناصفة.

و أمّا الصورة الثانية: فكما إذا قالا أخطأنا

، فعليهم الدية في أموالهم لأنّه شبه عمد لقصدهم الفعل المؤدّي إلى القتل و إن لم يقصدوا نفس القتل و لم يكن الفعل منجراً إلى القتل غالباً. و ليس خطأ محضاً حتى تكون الدية على العاقلة، مضافاً إلى أنّ ظاهر النصوص ككون الدية في أموالهم كمعتبر السكوني «1» أو عليه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 444

كمعتبر مسمع. «1»

و أمّا الصورة الثالثة: فكما إذا اختلفوا بين قائل بالتعمد و قائل بالخطإ

، فعلى المقرّ بالعمد القصاص، و على المقرّ بالخطأ نصيبه من الدية.

ثمّ إنّ وليّ الدم مخيّر بين قتل المقرّين بالعمد أجمع و ردّ الفاضل عن دية صاحبه و قتل البعض و ردّ الباقين قدر جنايتهم، حسب ما قرر في كتاب القصاص في حكم المشتركين في القتل عمداً و خطأ و المقصود بالمشاركة هناك و إن كان هو المشاركة بالمباشرة، لكن التسبيب لما كان أقوى من المباشر في المقام يعامل معه معاملة المشاركة كما مرّ هذا حسب القاعدة.

و قد ورد في خصوص المقام مضافاً إلى مقتضى القاعدة نصوص:

منها صحيح ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ثمّ رجع أحدهم بعد ما قُتل الرجل. قال: «إن قال الراجع أُوهمتُ، ضرب الحدّ و أُغرم الدية و إن قال تعمّدت، قتل» «2» إلى غير ذلك ممّا يوضح ما ذكرناه مثل صحيح ابن قيس «3» و معتبر السكوني. 4

و بما ذكر يعلم أنّه لو قال أحدهما أو أحدهم فيما إذا كان المشهود به زنا، تعمدتُ و لم يصدقه الآخر، لم يمض إقراره إلّا على نفسه فحسب لعدم مؤاخذة أحد بإقرار غيره.

و لو شهدا بما يوجب الجلد، فجلد

فمات صدفة، ثمّ قال أحدهم تعمدت الكذب يحكم بدفع الدية حسب شهادته، و الدية عليه لا على العاقلة لأنّه شبه العمد، لأنّه قصد السبب، لا المسبب أي الموت و لم يكن السبب منتهياً إلى الموت

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب الشهادات، الحديث 1. و لعلّ المراد من الحدّ، التعزير و يحتمل أن يراد حدّ القذف لعدم تمامية النصاب المعتبر فيه.

(3) 3- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 445

غالباً كما إذا كان المجلود سالماً و ليس الجلد، في مثله سبباً للموت لكن اتّفق.

نعم خالف الشيخ و جعل إقراره بتعمده للكذب، نافذاً في حقّ سائر الشهود الّذين بقوا على شهادتهم حيث قال في الزنا المحصن إذا رجع أحد الشهود و قال تعمدت: قتل و أدّى إلى ورثته الباقون ثلاثة أرباع الدية «1» و لعلّه اعتمد على ظاهر خبر إبراهيم بن نعيم الأزدي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا فلما قُتل رجع أحدهم عن شهادته قال: «يقتل الراجع و يؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية». «2» و يُحمل على صورة اعتراف الباقين بالخطإ، على أنّ إبراهيم الأزدي لم يعنون في كتب الرجال و إنّما المعنون هو إبراهيم ابن نعيم العبدي المعروف بأبي الصباح الكناني الثقة. نعم ذكر السيّد الخوئي في معجمه مواضع رواياته في الكتب الأربعة من دون أن يذكر شيئاً في حقّه من نفسه أو من جانب الغير.

المسألة السادسة: في شاهد الزور

المراد من شاهد الزور، من علم كذب شهادته بدليل خارج لا بإقراره

إذ يكون عندئذ رجوعاً، و لا بالبيّنة، لأنّه يدخل في تعارض البيّنات و لا ينقض الحكم بالبيّنة المعارضة المتأخرة و على كلّ تقدير أنّ المشهود عليه عندئذ إمّا أن يكون مالًا، أو قتلًا.

فعلى الأوّل، الأمر سهل ينقض الحكم للعلم بفساده و يستعاد المال. و لو تلف غُرِّم الشهود و يدل عليه الصحيحان «3» لمحمّد بن مسلم، و جميل بن درّاج.

و على الثاني لا موضوع للنقض فيثبت عليهم القصاص و كان حكمهم

______________________________

(1) النهاية: 335.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 446

حكم الشهود إذا رجعوا بل هنا أولى لأنّ شاهد الزور أسوأ حالًا ممّن شهد و رجع فإذا ثبت الحكم في الثاني ففي الأوّل بوجه أولى.

نعم لو باشر الوليّ القصاص و اعترف بالتزوير و أنّه كان عالماً بكذب شهادتهم، يقتص من الوليّ لأنّ المباشر في المقام أقوى من السبب بخلاف ما لو اعترف الولي بالخطإ، فكان عليه الدية، و القصاص على الشهود لكون السبب عندئذ أقوى من المباشر.

و لو اعترف الجميع بالتزوير ففيه وجهان:

1- إنّ القصاص عليه لأنّه المباشر، و الشهود كالممسك مع القاتل فإنّ القصاص على القاتل و على الشهود، التعزير و التشهير و النفير.

2- القصاص على الجميع لأنّه معهم كالشريك.

المسألة السابعة: إذا شهدا بالطلاق ثمّ رجعا

إذا شهدا بالطلاق ثمّ رجعا، فله صورتان:

الأُولى: أن تكون شهادتهما بالطلاق بعد دخول الزوج بها.

الثانية: أن تكون شهادتهما بالطلاق قبل دخول الزوج بها.

و مفروض الكلام في المقام ما إذا لم تتزوّج بعد الاعتداد.

قال الشيخ: و أمّا إن شهدا بالطلاق ثمّ رجعا، لم يخل من أحد أمرين إمّا أن

يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول فعليهما مهر مثلها عند قوم و قال آخرون لا ضمان عليهما و هو الأقوى عندي لأنّ الأصل براءة ذمّتهما و إذا شهدا بالطلاق قبل الدخول ثمّ رجعا فإنّ الحكم لا ينقض و عليهما الضمان عند قوم و كم يضمنان؟ قال قوم: كمال المهر، مهر المثل و قال آخرون: نصف المهر و هو الأقوى و من قال بهذا، منهم من قال نصف مهر المثل، و منهم من قال

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 447

نصف المسمّى و هو الأقوى عندنا. «1»

و الظاهر من الشيخ و من كلام المحقّق، عدم نقض الحكم في الصورتين و إن صرح الشيخ به في الصورة الأُولى، لصدور الحكم وفق الميزان الشرعي و لم يعلم فساده برجوعهما. و لذلك ركّز الكلام على ضمان الشاهد للزوج الشرعي و فصّل بين الدخول و عدمه.

فعلى الأُولى، لا يضمن الشاهدان شيئاً، لأنّ المهر كلّه وجب بالدخول سواء طلّق أم لا، فشهادتهما على الطلاق، لم تؤثر في لزوم المهر عليه. نعم صارت سبباً لحرمان الزوج من الانتفاع بالبضع و لكن منافعها لا تضمن و إلّا فلو قتلها الغير أو حبسها يلزم ضمانه منافع البضع للزوج.

و على الثانية، ضمنا نصف المهر المسمّى لأنّهما لا يضمنان إلّا ما دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة و هو النصف «2».

يلاحظ عليه: بأنّه لو صحّ ما ذكره في الصورة الأُولى يلزم عدم ضمانهما أيضاً شيئاً، لأنّ نصف المهر ثبت على الزوج بنفس العقد، و لم تؤثر الشهادة و الطلاق في ثبوت المهر عليه. و ذلك لأنّ الطلاق قبل الدخول موجب للتنصيف أي سقوط النصف الثاني و بقاء النصف الأوّل

على ذمّته. قال سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ) (البقرة/ 237). فالنصف كان ثابتاً عليه من أوّل الأمر، فلم تؤثر الشهادة في ثبوته عليه.

نعم إنّ هنا صورة أُخرى ذكرها الشيخ في النهاية و لم يتعرض لها المحقّق و ورود النصّ فيها و إليك البيان:

قال الشيخ: و إن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدت و تزوّجت،

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 247، و لاحظ الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 77 و 78 و اقتصرنا بعبارة الأوّل لكونها أخصر.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 448

و دُخِل بها ثمّ رجعا، وجب عليهما الحدّ و ضمنا المهر للرجل الثاني و تُرْجَع المرأةُ إلى الأوّل بعد الاستبراء بعدة من الثاني «1» و يقرب منه تعبير القاضي في المهذّب. «2»

و قد جاء في كلام الشيخ رجوع الشاهدين أوّلًا، و وجوب الحدّ على الشاهدين ثانياً، و لعلّ المراد منه التعزير و يحتمل أن يكون مستند فتواه الحديثين التاليين:

1- صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام في رجلين شهدا على رجل غائب عن امرأته أنّه طلّقها، فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثمّ إنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يُطلّقها و أكذب نفسه أحدُ الشاهدين. فقال: «لا سبيل للأخير عليها، و يؤخذ الصداق من الذي شهد و رجع فيردّ على الأخير و يفرّق بينهما و تعتدّ من الأخير و لا يقربها الأوّل حتى تنقضي عدّتها». «3»

و الحديث خال من ضرب الشاهدين، و لو كان طلاقها بحكم الحاكم فمعنى الردّ إلى الأوّل أنّه ينقض

الحكم مع أنّ المعروف أنّ الحكم لا ينقض برجوع الشاهد لعدم العلم بالفساد.

2- صحيح إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهدين شهدا على امرأة بأنّ زوجها طلّقها، فتزوّجت، ثمّ جاء زوجها فأنكر الطلاق. قال «يُضرَبانِ الحدّ، و يُضمّنان الصداقَ للزوج ثمّ تعتد ثمّ ترجع إلى زوجها الأوّل». 4

و الحديث و إن كان مشتملًا على ضرب الشاهدين لكنّه خال عن تكذيب نفسهما و أمّا الضرب فيمكن أن يكون دليلًا على التكذيب فتكون دليلًا على المسألة كما يمكن أن يكون دليلًا على كشف الحاكم عن كون الشهادة، شهادة زور. فلا تكون دليلًا عليها لأنّ النقض بعد انكشاف حال الشاهد أمر قطعي، بخلاف

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 336.

(2) ابن البرّاج، المهذّب: 2/ 563.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب الشهادات، الحديث 3، 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 449

المقام أي الرجوع فإنّ فساد القضاء في الأوّل قطعي دون الثاني فلو قيل بالنقض في الأوّل فلا يكون دليلًا عليه في الثاني.

و في سنده «إبراهيم بن هاشم» الذي هو عندنا فوق الثقة و إن كان الأصحاب يعبرون عن أحاديثه بالحسن، لكنّه منهم من باب الجمود على عدم ورود لفظ الثقة في ترجمته، مع أنّه ورد فيها ما هو فوقها. و أمّا إبراهيم بن عبد الحميد فهو ثقة و من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السَّلام.

و على كلّ تقدير لا غبار في سند الروايتين إنّما الكلام في انطباقهما على مقتضى القواعد لأنّ هناك تساؤلات، اثنان منها يختصان بالرواية الثانية و الآخران يعمّان كلتا الروايتين و إليك البيان:

1- لما ذا يضرب الشاهدان الحدّ؟! حسب الرواية الثانية، مع أنّ إنكار

الزوج لا يوجب تبيّن كذب الشهود و لعلّ الزوج هو الكاذب.

و الجواب أنّه يحتمل أن يكون الضرب، لشهادته الكاذبة حيث أكذب نفسه كما في الرواية الأُولى و هي قرينة على التصرف في الثانية.

2- سلّمنا أصل الضرب لكن لما ذا يضرب الحدّ كما في الرواية الثانية مع أنّ من تسبّب للزنا لا يحدّ حدّ الزاني؟!

و الجواب أنّه من المحتمل أن يكون المراد منه التعزير و قد استعمل لفظ الحدّ فيه في الروايات بكثير.

3- لا وجه لضمان الشاهدين المهر للزوج الثاني، أمّا قبل الدخول، فليس عليه شي ء مع بطلان نكاحه، و أمّا بعده فقد استقرّ عليه المهر بالدخول.

و لقائل أن يقول أنّ مورد الرواية هو دخول الزوج الثاني بقرينة الاعتداد في صحيح محمّد بن مسلم و أمّا ضمان الشاهد المهرَ للزوج الثاني، مع استقرار المهر عليه بدخوله سواء أ كانت هناك شهادة أم لا، فهو أنّ الشاهدين لمّا شهدا على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 450

طلاق الزوج الأوّل فعندئذ أقدم الزوج الثاني تعويلًا على شهادتهما بكون المهر عليه على أن يكون البضع له دائماً لا موقتاً، و قد تبيّن خلاف ما أقدم بكذب الشاهدين و إغرارهما إيّاه فيضمنان و إلى هذا يشير المحقّق الأردبيلي بقوله: إنّ المهر مقابل البضع دائماً لا مقابل دخول واحد و عدم ضمانه في بعض المواضع «1» لا يدل على العدم مطلقاً. «2»

فإن قلت: ما الفرق بين المسألة السابقة أعني: ما إذا شهدا على طلاق زوجته بعد الدخول بها، ثمّ رجعا حيث قلنا بعدم الضمان لأنّ ذمّته اشتغلت بالمهر قبل الشهادة على الطلاق و الرجوع عنه و بين هذه المسألة، أعني: ما إذا تزوّجت بعد الشهادة على

الطلاق برجل آخر ثمّ رجعا حيث قلنا بضمانهما مهرها، مع أنّ ذمّة الزوج الثاني اشتغلت بالدخول بمهر المثل، لكونه دخولًا عن شبهة قبل الرجوع، فليس لرجوعهما دور في الاشتغال بعد حصوله بالدخول، قبل الرجوع.

قلت: الفرق واضح و هو عدم الغرور في الصورة الأُولى في اشتغال ذمّة الزوج الأوّل بالمهر، و إنّما كان لهما دور في انقطاع الزوجية، في الأثناء و قد حصل الاشتغال قبل الانقطاع و هذا بخلاف الصورة الثانية فإنّ لهما دوراً في حصول أصل الاشتغال بالمهر من بدء الأمر، حيث شهدا بكونها مطلقة، و بذلك غرّرا الزوج الثاني في أصل التزويج و مهرها فهو و إن أقدم على نصف المهر قبل الدخول و تمامه عنده، لكن في مقابل كونها زوجة لها، لا في مقابل وطء الشبهة فما أقدم عليه لم يكن حاصلًا، و ما حصل لم يكن مُقْدِماً عليه و إنّما حصل من تغرير الشاهدين على أنّ المرأة مطلقة. فافهم.

______________________________

(1) لعلّ مراده منه، هو المسألة المتقدّمة: إذا شهد على الزوج بأنّه طلّق، ثمّ أكذبا نفسهما، و لم تتزوج المرأة بآخر، و سيتضح الفرق بما نذكره في المتن بصورة الاعتراض و الجواب.

(2) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 502.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 451

4 لما ذا ينقض الحكم بمجرّد إنكار الزوج على ما في رواية إبراهيم بن عبد الحميد أو بإكذاب الشاهد نفسه كما هو صريح صحيح محمّد بن مسلم، مع صدوره على وفق الموازين الشرعية و لم يعلم فساد القضاء و قد اشتهر أنّ الحكم لا ينقض برجوع الشاهد.

و هذه هي المشكلة المهمّة في الحديثين فقد حاول الأعلام تصحيحه بوجوه:

أ: حملهما على تزويجها بشهادتهما من دون حكم حاكم، ثمّ

لما جاء الزوج، رجعا عن الشهادة و اعترفا بأنّهما شهدا زوراً فتكون الرواية أجنبيّة عن مفروض الشيخ. قال العلّامة: إنّ المرأة لا تردّ إلى الأوّل و لا يُنقض الحكم بالطلاق إلى أن قال: فنحن في هذه المسألة من المتوقفين و لا بأس بحمل كلام الشيخ في النهاية بالردّ على الأوّل بعد العدة على أنّها تزوّجت بمجرد الشهادة من غير حكم حاكم بذلك. «1»

ب: حملهما على ما إذا ظهر فساد الحكم لفسق الشاهد أو خروجه عن الأهلية قال الفاضل الاصفهاني: يمكن حمل الخبرين على أنّ الزوج كان غائباً كما نُصّ عليه فيهما فلما حضر، أنكر، و أظهر فسق الشاهد أو ما يخرجه عن الأهلية. «2»

ج: حملهما على ما إذا لم يتم أركان الحكم، قال في الجواهر: إنّ الرجوع في الحكم على الغائب، يَنقض الحكم لعدم تمامية الحكم قبل حضور الخصم، فيحمل أحدهما حينئذ على الآخر و يكونان مستند الحكم في ذلك، مؤيداً بإمكان كون ذلك، من بقاء الغائب على حجّته، التي منها رجوع الشاهد عن شهادته كمعارضة البيّنة، بيّنة أُخرى إذ معناه أنّ كلّ ما هو حجّة له مع فرض عدم الحكم، فهو باق عليها، و منها ذلك، و السبب عدم الفصل التام قبل حضوره بل هو

______________________________

(1) ابن المطهر: مختلف الشيعة، كتاب القضاء: 174.

(2) الاصفهاني: كشف اللثام: 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 452

إجراء حكم الشهادتين و لا ينافي ذلك إطلاقهم عدم نقض الحكم برجوع الشاهد، المنصرِف إلى غير المفروض. «1»

إنّ ما ذكروه من الوجوه فروض مختلفة لكل حكمه:

أمّا الأوّل: فلا موضوع للنقض، لأنّه تزوج اعتماداً على الشهادة بلا حكم الحاكم. فتردّ إلى الزوج الأوّل حتى يثبت خلافه.

و أمّا الثاني:

فلزوم النقض واضح، لتبيّن فساد الحكم أو عدم صدوره عن ميزان شرعي. و كلا الحملين محتملان.

و أمّا الثالث: فهو مشكل لأنّه إذا كان أركان الحكم ناقصة و الغائب على حجّته، فكيف يرخص لها التزويج بالثاني؟ و هذا أشبه بما إذا حكم لأحد المترافعين حكماً باتاً من دون سماع دليل الطرف الآخر.

فلو صحّ التصرّف للمحكوم له مع غيبة المحكوم عليه فإنّما يصحّ في الأموال الّتي يتدارك بالمثل أو القيمة لو بان الخلاف بحضور الغائب و أمّا الأعراض أو النفوس، فلا يكون الحكم قطعياً، ما لم يحضر الغائب.

فلا محيص عن الأخذ بمفاد الرواية تعبّداً، و أنّه يعامل مع التكذيب، معاملة شاهد الزور، فكما أنّه ينقض هناك فكذا المقام قال المحقّق الأردبيلي: الرواية مخالفة لما تقرر عندهم من أنّ الرجوع بعد الحكم لا أثر له ثمّ قال: و من احتمال النقض بعد الحكم بالرجوع أيضاً. «2»

ثمّ إنّ هنا فرعين آخرين:

1- تلك الصورة و لكن تبيّن أنّ الشهادة كانت شهادة زور و هذه الصورة هي التي جاءت في الاحتمال الأوّل و لزوم النقض و الضمان واضحان.

2- إذا شهدا بموت الزوج فتزوّجت ثمّ جاء الزوج فيبطل التزويج الثاني و

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 233.

(2) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 502.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 453

تحرم عليه مؤبداً و تدل على البطلان صحيحة أبي بصير. «1»

فروع

الفرع الأوّل: في حكم الرجوع في الأموال

إنّ المشهود به يثبت تارة برجلين، و أُخرى برجل و امرأتين، و ثالثة بشاهد و يمين، و رابعة بأكثر من العدد الذي يثبت به الحقّ، كثلاثة في المال و القصاص، و بستة في الزنا.

أمّا الأوّل: فإن رجعا معاً عن شهادتهما بعد الحكم، ضمنا بالسوية لتساويهما في التسبّب المقتضي لذلك. و

إن رجع أحدهما ضمن النصف بمقدار تسبّبه.

أمّا الثاني: أعني ما إذا ثبت بشاهد و امرأتين فلو رجعوا ضمن الرجل النصف و ضمنت كلّ واحدة الربعَ لأنّهما بمنزلة رجل واحد، و لو رجعتا دون الرجل تضمنان النصف.

فإن قلت: لازم ما ذكروه في مشاركة عدّة في القتل، هو التقسيط على وجه التساوي بين الراجعين سواء رجع الجميع، أو رجع الرجل، أو المرأتان ففي مسألة المشاركة، يساوي في الدية و القصاص، من جرح بواحد مع من جرح بأكثر منه فمثله المقام فإنّ كون الرجل معادلًا للمرأتين في مقام الشهادة، لا يكون دليلًا على كونه كذلك في مقام تقسيط الدية أو الغرامة.

قلت: ما ذكرته لا يعدو من كونه قياساً، مع أنّ معنى شهادته يعادل شهادة المرأتين أنّ شهادته تتلقى شهادتين فلو شهد الرجل الواحد فكأنّه شهدت المرأتان، ففي مثله يتحمّل الرجل، غرامة النصف و هاتان، النصف الآخر.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 454

أمّا الثالث: أعني ما إذا ثبت بشاهد و يمين، فلو رجع الرجل، ضمن النصفَ سواء قلنا بثبوت الحقّ بهما على وجه الجزئية، أم قلنا بثبوت الحقّ بالشاهد و شرطية يمين المدّعي، إذ لا كلام في مدخلية كلّ في الثبوت، عندئذ و تتلقى يمين المدّعي بمنزلة شاهد مستقل فكيف لا تُقَسّط الديةُ أو الغرامة عليها.

نعم لو أكذب الحالف نفسه اختص بالضمان سواء رجع الشاهد أم لا و ذلك لأنّ العين لا تخلو إمّا أن تكونَ باقية، فتؤخذ بإقراره و يحكم بلزوم الرد على صاحبه أو تكون تالفة فيحكم عليه بالضمان لأنّه أتلف مال الغير و ضمان المتلف حكم وضعي يشترك فيه العالم و

الجاهل و القاصر و المقصر.

و أمّا الرابع: أعني ما إذا شهد الأكثر من العدد الذي يثبت به الحقّ كالثلاثة في المال و القصاص و الستة في الزنا فنقول:

أمّا الرجوع فلا يمنع عن الحكم، و الاستيفاء لكون العدد الباقي بيّنة تامة بعد رجوع الراجع.

إنّما الكلام في ضمان الراجع، فلو رجع قبل الحكم فلا ضمان عليه لعدم تسبّبه في الحكم بالرجوع نعم لو رجع بعد الحكم و كان المشهود به مالًا و الشهود رجالًا «1» سواء استوفى أو لا، ففيه قولان:

1- إنّه يضمن بقسطه قال الشيخ: و إن كان ثبوته بثلاثة رجال فإن رجعوا كلّهم فالضمان عليهم أثلاثاً، و إن رجع واحد منهم، قال قوم عليه الثلث كما لو رجع الكلّ فعلى كلّ واحد، الثلث.

2- لا ضمان عليه، و أشار إليه أيضاً بقوله: و قال آخرون لا ضمان عليه، لأنّه قد بقي بعد رجوعه من يثبت الحقّ بقوله. «2»

______________________________

(1) هذا الشق هو الذي يذكره المحقق في الفرع الثاني، و قد ذكرناه في المقام.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 248.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 455

و الأقوى هو الأوّل لتسبب كلّ احد في الحكم، بشهادة أنّه لو رجع الكلّ كان الضمان عليهم أثلاثاً و هذا يدل على كونه مؤثراً في الحكم، و ثبوت الحكم بدون الراجع، لا يكون دليلًا على عدم مدخليته عند وجوده في ثبوت الحكم، بل رجوعه بعد الحكم أشبه بموته بعده فلا يكون رافعاً للضمان.

و بالجملة بقاء البيّنة بعد رجوع أحدهم لا يكون دليلًا على اختصاص الضمان بالباقي بعد كون الحكم مستنداً إلى الثلاثة و الميزان هو التسبب حال الحكم و الكلّ في ذلك سواسية.

و يمكن استظهاره من صحيح محمّد بن مسلم

عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهد الزور ما توبته؟ قال: «يؤدي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد هذا و آخر معه»: «1» حيث إنّ مقتضى إطلاقه، كونه محكوماً بمقدار سببيّته سواء رجع الجميع أو رجع وحده.

و قد نسب في الجواهر القول الأوّل إلى المحكيّ عن الشيخ و ابن سعيد، و لكن الشيخ نقل القولين و لم يرجح أحدهما على الآخر «2» إلّا أنّه يستظهر رأيه من الفرع الآتي و أمّا ابن سعيد، فقد ذكر رجوع الجميع و لم يذكر رجوع البعض و قال: و لو شهد به ستة رجال و رجعوا كانت «3» أسداساً. و لا يكون الاشتراك في هذه الصورة دليلًا على الاشتراك فيما إذا رجع البعض و بقي ما يثبت به الموضوع.

هذا إذا كان الشهود، رجالًا و أمّا إذا كانوا مختلفين بأن شهدت، عشر نسوة مع شاهد، فرجع الرجل قال الشيخ: و إن كان ثبوته برجل و عشرة، فإن رجع الكل فعلى الرجل السدس، و على كلّ واحدة منهنّ نصف السدس، و قال قوم: على الرجل النصف، و عليهنّ النصف لأنّ الرجل نصف البيّنة فيضمن نصف

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 248.

(3) ابن سعيد الحلّي: الجامع للشرائع: 545.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 456

المال و الأوّل الأقوى. «1»

و قال في الخلاف: إذا شهد رجل و عشرة نسوة بمال على رجل و حُكِم بقولهم ثمّ رجع الكلّ عن الشهادة، كان على الرجل حدّ من المال و الباقي على النسوة، و به قال أبو حنيفة و الشافعي.

و قال أبو يوسف و محمّد: على الرجل النصف، و عليهنّ النصف لأنّ الرجل نصف البيّنة فضمن نصف المال دليلنا إنّ المال يثبت بشهادة الجميع فضمن الكلُّ غرامته، و الرجل سدس البيّنة، فيجب أن لا يلزمه أكثر من ذلك، و لأنّ كلّ امرأتين في مقابلة رجل، فكانت العشر نسوة بإزاء خمسة رجال، فصار الشاهد بالحقّ كأنّهم ستة رجال، و لو كانوا ستة رجال فرجعوا لم يلزمه أكثر من السدس و كذلك هاهنا، على الرجل، السدس، و على كلّ امرأتين، السدس. «2»

و تردد المحقق فيها و قال: و لو كان الشاهد عشر نسوة مع شاهد فرجع الرجل ضمن السدس، و فيه تردد. «3»

و لعلّ وجه التردد أنّه إذا كان المشهود به ما لا يثبت بنساء منفردات و إنّما يثبت برجل و امرأتين فالرجل يعدُّ في مثله نصف البيّنة، و ما عداه سواء كان اثنتين أو أزيد إلى أن تصل عشراً، النصف الأُخرى لها، و على ذلك يكون سهم الرجل من الغرامة، هو النصف مطلقاً سواء انضمت إليه المرأتان أو أزيد. و يؤيده ما ذكرناه فيما إذا شهد رجل و امرأتان، و رجع الرجل، أنّ عليه النصف. هذا من جانب.

و من جانب آخر و هو أنّ كلّ امرأتين بمنزلة رجل فكانت العشرة نسوة بإزاء خمسة، فالأقوى التقسيط و التصالح أولى.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 248.

(2) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 80.

(3) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 457

الفرع الثاني: فيما لو كان الشهود أزيد من النصاب و رجع واحد منهم

قال المحقّق: لو كان الشهود ثلاثة، ضمن كلّ واحد منهم الثلث، و لو رجع واحد منفرداً. و ربّما خطر أنّه لا يضمن لأنّ في الباقين ثبوت الحقّ، و لا

يضمن الشاهد، ما يحكم به بشهادة غيره للمشهود له. و الأوّل اختيار الشيخ رحمه اللّه.

قد عرفت الحقّ في الفرع السابق، و ما ذكر من الدليل إنّما يناسب إذا رجع قبل الحكم فيصحّ أن يقال: «و لا يضمن الشاهدُ ما يحكم به بشهادة غيره للمشهود له» و أمّا بعده فلم يحكم بشهادة الغير وحده و إنّما حكم بشهادته و شهادة الراجع و لم يكن القاضي عالماً برجوعه حتى يعتمد في حكمه قبل رجوعه على الباقين.

و قال أيضاً: و كذا لو شهد رجل و عشر نسوة فرجع ثمان منهنّ كان على كلّ واحدة نصف السدس لاشتراكهم في نقل المال، و الإشكال فيه كما في الأوّل.

و قد تبيّنت الحال في هذه المسألة و أنّ أحد النظرين يقتضي كون الرجل محكوماً بدفع ضعف ما على كلّ واحدة منهن و المرأة محكومة بدفع نصف ما عليه و النظر الآخر يقتضي كون الرجل محكوماً بدفع النصف، و المجموعة من الشاهدات بدفع النصف الآخر.

غير أنّ المحقق أبدى نظر ثالثاً، و هو براءة الراجعات من الغرامة بتاتاً لأنّ في الباقي أعني الرجل و المرأتين ثبوت الحقّ، و قد عرفت ضعفه.

الفرع الثالث: لو قامت البيّنة بالجَرْح بعد الحكم

لو قامت البيّنة بالجرح بعد الحكم، فله صور ثلاث:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 458

1- إذا قامت بالجرح مطلقة من دون تعيين وقت فسقِهم.

2- إذا قامت مؤرّخة و كان فسقهم متقدماً على الشهادة.

3- إذا قامت مؤرّخة و كان فسقهم بعد الشهادة و قبل الحكم.

أمّا الصورة الأُولى، أعني: إذا قامت البيّنة بالجرح مطلقة من غير تاريخ، لم ينقض حكمه لأنّه يحتمل أن يكون الفسق بعد الحكم، و يحتمل أن يكون قبله، فلا ينقض حكمه بأمر محتمل. «1» و قد

تقدم مراراً، أنّ النقض فيما علم فساد نفس الحكم أو عدم صدوره عن ميزان شرعي و المفروض عدم العلم بهما.

أمّا الصورة الثانية، أعني: إذا كانت بيّنة الجرح مؤرخة و كان الفسق منهما قبل أداء الشهادة مثلًا قامت البيّنة أنّهما قذفا حرّاً قبل الأداء بيوم فينقض لأنّ الشرط هو العدالة الواقعية حين الأداء لا الظاهرية المعلوم انتفاؤها واقعاً.

أمّا الصورة الثالثة، أعني: إذا كانت بيّنة الجرح مؤرخة و كان الفسق بعد أداء الشهادة و قبل الحكم، فقد سبق أنّه لا يُنقض الحكم لما عرفت من أنّ المعيار، كون الشاهد عادلًا وقت الأداء و المفروض كونه كذلك.

فإذا جاز النقض فلا يخلو أنّ المستوفى به إمّا أن يكون حدّاً من قتل أو قطع أو مالًا.

فعلى الأوّل فلا مورد لأنّه صدر عن خطأ الحاكم. بل تتعين الدية و اختلفوا فيمن عليه الدية فهل هو على الحاكم، أو المزكّين أو على بيت المال قال الشيخ: أمّا الدية فإنّها على الحاكم، و قال قوم: الضمان على المزكّين، و روى أصحابنا أنّ ما أخطأت الحكام فعلى بيت المال. «2»، و لعلّ المراد من القول الأوّل أنّ الحاكم يؤدي من بيت المال فيتّحد مع القول الثالث و لم يذهب أحد من الأصحاب إلى القول الثاني.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 249.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 249.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 459

روى الصدوق و الشيخ باسنادهما إلى الأصبغ بن نباتة قال: قضى أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّ ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين. «1»

روى الكليني بسند صحيح عن ابن فضال الفطحي الثقة «2» عن يونس بن يعقوب الذي قال النجاشي في حقّه: كان موثقاً عند الأئمّة

عن أبي مريم أعني: عبد الغفار بن القاسم بن قيس الثقة عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّ ما أخطأت به القضاة في دم أو قطع فعلى بيت المال المسلمين». «3» فكلّ ما أخطأ القاضي في باب الحدود لا قود فيه، بل فيه الدية و يتحمّله بيت المال المعد لمصالح المسلمين.

و بما أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة، فالمتبادر من الرواية أنّ كلّ مورد، يكون خطأ القاضي سبباً لإراقة دم أو قطع عضو فالدية على بيت المال لئلا يبطل دم مسلم.

فإذا كان هذا مفاد الحديث فلا فرق بين ما باشر الحاكم القتلَ أو وكيلُه، أو الوليّ، فإنّ القتل أو القطع يستندان عرفاً إلى خطأ القاضي، لا إلى فعل المباشر لأقوائية السبب من المباشر، و يكون الرواية أخصّ ممّا دلّ على لزوم الدية على الخاطئ، لو لم نقل أنّه منصرف إلى ما لم يستند في عمله، إلى أمر الحاكم.

و بذلك يظهر ضعف التفصيل في الشرائع من كونه على الولي إذا باشر بعد حكم الحاكم و قبل إذنه، و على بيت المال إذا باشر بعد الحكم و الإذن.

و مقتضى إطلاق النصّ، كونه مطلقاً على بيت المال إذا كان لخطأ القاضي دور في القتل و القطع.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) يطلق ابن فضال تارة على الولد و أُخرى على الوالد يعني: علي بن الحسن بن علي بن فضال و كلاهما فطحيان ثقتان.

(3) الوسائل: الجزء 19، الباب 7 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 460

و أمّا إذن القاضي فلو قيل باعتباره بعد صدور الحكم، فإنّما هو

أمر طريقي لحفظ الانضباط و دفع الفوضى و ليست له موضوعية في الضمان و عدمه، فالمباشرة، بعد الحكم و قبل الإذن، كالمباشرة بعدهما.

هذا كلّه إذا كان المشهود به حدّاً و أمّا إذا كان مالًا فلو كان موجوداً يُستعاد بلا كلام، لتبين فساد القضاء و إن كان تالفاً فهنا وجوه:

1- كونه على المشهود له لأنّه ضمن بالقبض، بخلاف القصاص سواء كان موسراً أو معسراً.

2- التفصيل بين كونه موسراً فعلى المشهود له، و كونه معسراً فعلى الإمام و لكن إذا أيسر يرجع إليه الإمام.

قال الشيخ: و إن كان المشهود له هو القابض و كان موسراً غرم ذلك، و إن كان معسراً ضمن الإمام حتى إذا أيسر رجع الإمام عليه و الفرق بين هذا و بين الدية أنّ الحكم إذا كان بالمال حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد لأنّ ضمان الإتلاف ليس بضمان اليد. «1»

و أورد عليه المحقّق باستقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده فلا وجه لضمان الحاكم.

و قد اتفق القولان على أنّ الضمان على المشهود له إمّا ابتداءً أو استقراراً كما إذا كان معسراً ثمّ صار موسراً عند الشيخ، لكن يستقر الضمان على المشهود له لأنّ العين تلفت في يده.

و هناك وجه ثالث و هو أنّه لا شكّ في ضمان المشهود له لأنّه تلف بيده أو أتلفه إنّما الكلام في استقرار الضمان عليه، و في التأمّل فيه مجال لأنّه أقدم على الإتلاف اعتماداً على حكم القاضي بأنّه ماله، و أنّ له أن يتقلّب فيه بأي نحو شاء

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 250.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 461

و معنى ذلك انّ القاضي لأجل جهله غرّه، و المغرور

يرجع إلى من غرّه و لا تختصّ قاعدة الغرور بالغارّ العالم و هذا نظير ما إذ قال الرجل لمن يمرّ على باب داره، ادخل داري و كُلْ من غذائي فدخل و أكل ثمّ بان أنّ المأكول مستحق للغير فإنّ الضمان يستقر على الآمر لأنّه غرّه و لو لأجل جهله، فنسبة الإتلاف إلى السبب هنا أقوى.

بل يمكن استظهاره من الموثقة، بحمل ما جاء فيه من قتل أو قطع على أنّهما من باب المثال و أنّ الميزان هو خطأ القاضي من غير تقصير و بما أنّ عمل القضاء عمل غيرُ معصوم و مثله، لا ينفك عن الخطأ و الاشتباه، جعل الشارع الدية و الغرامة مطلقاً في بيت مال المسلمين لئلا يخسر القاضي و يترك ممارسة عمل القضاء فلاحظ.

مسائل

الأُولى: في قبول شهادة الورثة على الرجوع

إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد، و شهد وارثان أنّه رجع عن ذلك و أوصى لخالد بعين ما أوصى به للأوّل فهل تقبل شهادة الرجوع أو لا؟ ذهب الشيخ إلى القبول. قال: فإن شهد أجنبيان أنّه أوصى لزيد بثلث ماله، و شهد وارثان أنّه أوصى بثلث ماله لعمرو، و رجع عن الوصية لزيد، و شهد آخران إلى أنّه رجع عن الوصية لعمرو، و أوصى بثلث ماله لخالد قبلناها كلّها و صحّ الرجوع في حقّ زيد و عمرو، و ثبت الثلث لخالد «1» و ما ذكره و إن لم يكن نفس مسألتنا، لأنّ الشاهدين الأخيرين غير وارثين لكنّه يعلم منه نظره فيهما، حيث إنّ البيّنة الأُولى، تردّ بالبيّنة الثانية المتشكلة من الوارث و لو لم تلاحقها البيّنة الثالثة لأنّهما لا تجرّان

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 253.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 462

نفعاً.

و أورد عليه المحقّق بأنّ

زيد المشهود له إنّما يأخذ المال من يد الوارثين الشاهدين فالمشهود له يكون مدّعياً و غيره منكراً فكيف تقبل شهادة المنكر على المدّعي.

الثانية: في شهادة الواحد على الرجوع

إذا شهد شاهدان لزيد بالوصية، و شهد شاهد بالرجوع و أنّه أوصى لعمرو.

قال المحقّق: كان لعمرو أن يحلف مع شاهده لأنّها شهادة منفردة لا تعارض الأُولى.

و حاصله: أنّ قول الشاهد العادل تارة يعارض مفاد البيّنة كما إذ قال الشاهد: رجع عن الوصية و قالت البيّنة: لم ترجع فتقدم البيّنة على قول الشاهد مع يمين المدّعي، و أُخرى لا يكون معارضاً كما في المقام، فإنّ الشاهد العادل، لا يُنكر صحّة الوصية الأُولى بل يدّعي رجوعه عن وصيته في ظرفها و يقول: إنّه عدل عنها في ظرف كذا ففي مثله بما أنّه لا يعارض البيّنة يقبل قوله مع يمين المدّعي.

الثالثة: الشهادة على الرجوع عن إحدى الوصيتين

لو أوصى بوصيّتين منفردتين فشهد آخران، أنّه رجع عن إحداهما فروى المحقّق عن الشيخ أنّه قال: لا يقبل لعدم التعيين. «1»

قال الشيخ: إذا شهد شاهدان أنّه أوصى بثلث ماله لزيد، و شهد وارثان أنّه

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 146.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 463

رجع عنها و أوصى بثلث ماله لعمرو و شهد آخران أنّه رجع عن إحدى الوصيتين، سقطت الثالثة لما ذكرناه و قسمنا الثلث بين زيد و عمرو و يكون وجود الثالثة و عدمها سواء و عندنا يقرع بين الأوّلين. «1»

و مراده من قوله: «لما ذكرناه» ما ذكره في مثل هذا الفرع قال: «سقطت الثالثة لأنّها لم يعين بها».

و كما يحتمل الرجوع إلى القرعة التي هي لكلّ مشكل، إذ المستحق في نفس الأمر أحدهما و نسبته إليهما على السواء، يحتمل كون المرجع هو قاعدة العدل و الانصاف.

و هناك فروع مذكورة في الشرائع و الجواهر جديرة بالبحث تركنا البحث فيها للقارئ الكريم.

بلغ الكلام إلى هنا بيد مؤلفه الفقير جعفر

السبحاني

في سادس شهر شعبان المعظّم من شهور عام 1404،

و تمّ التبييض في الدورة الثانية صبيحة يوم الثاني و العشرين

من ذي الحجّة الحرام من شهور عام 1416

و أرجو من اللّه سبحانه أن ينتفع به

رُوّاد الفقه و بُغاته إنّه بذلك قدير

و بالإجابة جدير.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 253.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.